الخلّاق

الاسم الخلّاق
نوع الاسم الأسماء المطلقة: المفردة
معلومات إضافية عن الاسم لقد ورد اسم الله (الخلّاق) في القرآن فقط في موضعين, ولم يرد في السنة النبوية. كما أنه ورد في الموضعين مقرونا باسم الله (العليم), والخلاق العليم كلاهما صيغة مبالغة. ووجه اقترانه به: أنه لا يمكن أن يتصف ‌الخلّاق بكونه خلاقًا إلا وهو عليم بكل شيء، لا يخفى عليه شيء، إذ الجاهل بالشيء لا يمكنه أن يخلقه. وأوضح هذا المعنى في آيات كثيرة، كقوله تعالى: ﴿‌قُلۡ ‌يُحۡيِيهَا ٱلَّذِيٓ أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّةٖۖ وَهُوَ بِكُلِّ خَلۡقٍ عَلِيمٌ﴾ [يس: 79], وقوله: ﴿‌أَلَا ‌يَعۡلَمُ مَنۡ خَلَقَ وَهُوَ ٱللَّطِيفُ ٱلۡخَبِيرُ ﴾ [الملك: 14]. انظر: أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشنقيطي» (3/ 234). قال البقاعي رحمه الله: «{‌الخلاّق} المتكرر منه هذا الفعل في كل وقت بمجرد الأمر، فلا عجب في إيجاد ما ينسب إليه من إبداع الساعة أو غيرها، وهو لذلك عالم بأحوالكم أجمعين وما يكون منها صلاحاً لك على غاية الحكمة، لأن المصور أعلم بالصورة من ناظرها والمتبصر فيها، وصانع الشيء أدرى به من مشتريه، وباني البيت أخبر به من ساكنه، وهو الذي خلق كل ما تراه منهم فهو فعله فسلم له. ولما كان إحكام المصنوعات لا يتم إلا بالعلم، قال تعالى: {العليم} أي البالغ العلم بكل المعلومات، فلا ترى أفعالهم وأقوالهم إلا منه سبحانه لأنه خالقها، وقد علمت أنه لا يضيع مثقال ذرة فاعتمد عليه في أخذ حقك، فإنه نعم المولى ونعم النصير»«نظم الدرر في تناسب الآيات والسور» (11/ 84). وأما الفرق بين الخالق والخلّاق: فالخالق: اسم الفاعل من خلق يخلف وهو خالق، والخلاق: فَعَّال للمبالغة. «اشتقاق أسماء الله للزجاجي» (ص166). وأما تسمية المتكلمين لله تعالى بغير الاسم الخلاق مما يدل على معناه كالموجد والصانع ونحوها, فإنها لا تدل على كمال ما دل عليه الاسم الشرعي, يقول ابن القيم رحمه الله مبينًا الاسم الشرعي: «وأما الموجد فقد سمّى نفسه بأكمل أنواعه؛ وهو الخالق البارئ المصور، فالموجد كالمحدث والفاعل والصانع، وهذا من دقيق فقه الأسماء الحسنى».«مدارج السالكين»(4/395). وأضاف رحمه الله أن لفظ المُوجِد، لم يقع في أسماء الله سبحانه، وإن كان هو المُوجِد على الحقيقة، ووقع في أسمائه الواجد، وهو بمعنى: الغني الذي له الوُجْد. وأما المُوجِد فهو مُفْعِل من أوجد، وله معنيان: أحدهما: أن يجعل الشيء موجودًا، وهو تعدية وَجَدَ وأوجده. والمعنى الثاني: أوجده: جعل له جِدَةً وغِنًى، وهذا يتعدّى إلى مفعولين. فيقال: أوجده الله مطلوبه، أي: أظفره به. وأوجده، أي: أغناه. وأما لفظ الصانع فلم يرد كذلك في أسماء الربِّ تعالى، ولا يمكن وروده؛ فإن الصانع مَنْ صَنَع شيئًا، عدلًا كان أو ظلمًا، سفهًا أو حكمة، جائزًا أو غير جائز. وما انقسم مسمّاه إلى مدح وذم لم يجئ اسمه المطلق في الأسماءالحسنى، كالفاعل والعامل والصانع والمريد والمتكلم؛ لانقسام معاني هذه الأسماء إلى محمود ومذموم، بخلاف العالم والقادر والحي والسميع والبصير. انظر: «شفاء العليل لابن القيم» (1/ 429-432).
الأدلة على الاسم من القرآن
  1. قال تعالى: ﴿إِنَّ رَبَّكَ هُوَ ‌ٱلۡخَلَّٰاقُ ٱلۡعَلِيمُ ﴾ [الحجر: 86]
  2. ﴿أَوَلَيۡسَ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ بِقَٰدِرٍ عَلَىٰٓ أَن يَخۡلُقَ مِثۡلَهُمۚ بَلَىٰ وَهُوَ ‌ٱلۡخَلَّٰاقُ ٱلۡعَلِيمُ ٨١﴾ [يس: 81]
الأدلة على الاسم من السنة
صيغة أخرى من الاسم
  1. الخالق
  2. أحسن الخالقين
سرد الأسماء ذات صلة
  1. البارئ والمصور:
    قال الله تعالى: ﴿هُوَ ٱللَّهُ ‌ٱلۡخَٰلِقُ ‌ٱلۡبَارِئُ ٱلۡمُصَوِّرُۖ لَهُ ٱلۡأَسۡمَآءُ ٱلۡحُسۡنَىٰۚ﴾ [الحشر: 24].
القائلون بثبوته
  1. ورد ذكر هذا الاسم في طريق عبد العزيز بن الحصين الترجمان, وورد في جمع جعفر الصَّادق, وسفيان بن عيينة, وابن منده, والحليميِّ, والبيهقيِّ, وابن حزم, والقرطبيِّ, وابن القيِّم, وابن الوزير, وابن حجر, والعثيمين, والقحطاني, والحمود, ونور الحسن خان.
الصفة التي اشتق منها الاسم (المصدر) الخلق
نوع الصفة صفة اختيارية ذاتية فعلية لازمة لها تعلق بالمشيئة
معلومات إضافية عن الصفة اسم الله الخلّاق يدل على صفة الخلق, وهي صفة ذاتية فعلية, قال ابن تيمية: «ما يقوم بذات الرب مع كونه بقدرته ومشيئته فهذا في الصفات الذاتية لقيامة بالذات وهو من الفعلية لتعلقه بالمشيئة والقدرة» «الصفدية» (٢/ ٨٩) فصفة الخلق لها اعتباران الأول: اعتبار بالنظر إلى أصلها فتكون صفة ذاتية؛ يعني ان الله لم يزل خلاقا يخلق. والاعتبار الثاني يكون لها اعتبار من جهة آحادها فتكون صفة فعلية. قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: «والخلق صفة من صفات الله عز وجل الفعلية من حيث آحادها وأنواعها. أما من حيث الأصل فهي صفة ذاتية؛ لأن الله تعالى لم يزل ولا يزال خلاقاً.... فالخلّاق والخالق يؤخذ منهما صفة الخلق بناء على القاعدة...: أن كل اسم من أسماء الله تعالى فهو متضمن لصفة...، فالخلق إذاً صفة ذاتية من حيث الأصل، وهي صفة فعلية من حيث النوع والآحاد، فالله تعالى يخلق ما يشاء بالنوع، ويخلق ما يشاء بالآحاد. فالإنسان مثلاً مخلوق بالنوع، وبالآحاد من حيث كل إنسان على حدة. فخلق الله للإنسان من حيث هو، يعتبر واحداً بالنوع، وخلق الله للإنسان باعتبار كل فرد يعتبر واحداً بالشخص، أي بالآحاد. أما من حيث الفعل لله عز وجل الذي هو صفة الخلق، فإن الله لم يزل ولا يزال خلاقاً، فهو من الصفات الذاتية».«شرح العقيدة السفارينية» (1/ 281). وهي من أظهر الصفات أثرا, فإن كل مخلوق في الوجود سوى الله تعالى هو أثر هذه الصفة. قال البخاري رحمه الله:«فالرب بصفاته وفعله وأمره وكلامه، وهو الخالق المكون، غير مخلوق، وما كان بفعله وأمره وتخليقه وتكوينه، فهو مفعول مخلوق مكون» الجامع الصحيح (9/134). وقال رحمه الله:«فالفعل إنما هو إحداث الشيء، والمفعول هو الحدث لقوله: {‌خلق السموات والأرض} فالسموات والأرض مفعوله، وكل شيء سوى الله بقضائه فهو مفعول، فتخليق السموات فعله لأنه لا يمكن أن تقوم سماء بنفسها من غير فعل الفاعل وإنما تنسب السماء إليه لحال فعله، ففعله من ربوبيته، حيث يقول: {كن فيكون} [البقرة: 117]» «خلق أفعال العباد» (ص113). وقال ابن القيم رحمه الله: «فإن المفعول يدل على قدرة الفاعل باللزوم العقلي، ويدل على فعله الذي وُجِد به بالتضمّن، فإذا سُلِبتْ دلالته التضمّنية كان سَلْب دلالته اللزومية أسهل، ودلالة المفعول على فاعله وفعله دلالة واحدة، وهي أظهر بكثير من دلالته على قدرته وإرادته»«شفاء العليل لابن القيم» (2/ 13). وصفة الخلق بمعنى إبداع الشيء من عدم على غير مثال سابق هي من خصائص الله تعالى لا يمكن لمخلوق أن يتصف بها. يقول الله تعالى: ﴿أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ﴾ [النحل/ 17]. قال الأزهري رحمه الله:«ومن صفات الله: ‌الخالق والخلاق، ولا تجوز هذه الصفة بالألف واللام لغير الله جل وعز».«تهذيب اللغة» (7/ 16), وانظر: «لسان العرب لابن منظور» (10/ 85). أما الخلق الذي يكون بمعنى تحويله الشيء من هيئة إلى أخرى فقد أقدر الله تعالى بعض خلقه عليه، كعيسى عليه السلام حيث قال:﴿وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي﴾ [المائدة/ 110].
الأدلة على ثبوت الصفة من القرآن
  1. قال تعالى: ﴿كَذَٰلِكِ ٱللَّهُ ‌يَخۡلُقُ ‌مَا ‌يَشَآءُۚ﴾ [آل عمران: 47]
  2. قال الله تعالى: ﴿‌هَٰذَا ‌خَلۡقُ ‌ٱللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ ٱلَّذِينَ﴾ [لقمان: 11]
  3. قال سبحانه وتعالى: ﴿أَفَمَن يَخۡلُقُ ‌كَمَن ‌لَّا ‌يَخۡلُقُۚ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ﴾ [النحل: 17]
  4. قال تعالى: (وَرَبُّكَ ‌يَخۡلُقُ مَا يَشَآءُ وَيَخۡتَارُۗ ) [القصص: 68]
الأدلة على ثبوت الصفة من السنة
  1. عن أبي هريرة رضي الله عنه ، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «قال الله عزوجل: ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي، فليخلقوا ذرة أو ليخلقوا حبة أو شعيرة» متفق عليه.
  2. عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: »خلق الله الخلق، فلما فرغ منه قامت الرحم، فأخذت بحقو الرحمن...« الحديث. رواه البخاري.
  3. عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال: «لما خلق الله الخلق كتب في كتابه وهو يكتب على نفسه وهو وضع عنده على العرش إن رحمتي تغلب غضبي» متفق عليه
الحكم يخلق. قال ابن القيم رحمه الله:«من أسمائه ما يطلق عليه باعتبار الفعل؛ نحو الخالق ‌والرازق والمحيي والمميت، وهذا يدل على أنَّ أفعاله كلَّها خيراتٌ محضة لا شر فيها؛ لأنَّه لو فعل الشر لاشتق له منه اسم ولم تكن أسماؤه كلُّها حسنى»«بدائع الفوائد» (1/ 163).
الأدلة على الفعل من القرآن
  1. قال الله تعالى: ﴿وَإِذۡ قَالَ رَبُّكَ لِلۡمَلَٰٓئِكَةِ إِنِّي ‌خَٰالِقُۢ ‌بَشَرٗا مِّن صَلۡصَٰلٖ مِّنۡ حَمَإٖ مَّسۡنُونٖ﴾ [الحجر: 28]
  2. قال تعالى: ﴿كَذَٰلِكِ ٱللَّهُ ‌يَخۡلُقُ ‌مَا ‌يَشَآءُۚ﴾ [آل عمران: 47]
  3. قال الله سبحانه: ﴿وَٱللَّهُ ‌خَلَقَ ‌كُلَّ ‌دَآبَّةٖ مِّن مَّآءٖۖ ﴾ [النور: 45]
  4. قال تعالى: (وَلَقَدۡ خَلَقۡنَٰاكُمۡ ثُمَّ ‌صَوَّرۡنَٰاكُمۡ) [الأعراف: 11]
الأدلة على الفعل من السنة
  1. عن أبي هريرة رضي الله عنه ، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «قال الله عزوجل: ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي، فليخلقوا ذرة أو ليخلقوا حبة أو شعيرة» متفق عليه.
  2. عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: »خلق الله الخلق، فلما فرغ منه قامت الرحم، فأخذت بحقو الرحمن...« الحديث. رواه البخاري.
  3. عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال: «لما خلق الله الخلق كتب في كتابه وهو يكتب على نفسه وهو وضع عنده على العرش إن رحمتي تغلب غضبي» متفق عليه.
دلالات الاسم اسم الله الخلّاق يدل على ذات الله تعالى وعلى صفة الخلق والخالقية بالمطابقة, ويدل على ذات الله وحدها أو صفة الخلق وحدها بالتضمن قال تعالى: ﴿‌أَفَمَن ‌يَخۡلُقُ كَمَن لَّا يَخۡلُقُۚ﴾ ]النحل: ١٧[. ويدل باللزوم على جميع الصفات الذاتية والفعلية, من الحياة والقيومية والسمع والبصر والعلم والكلام والإرادة والقوة والقدرة وغيرها, فإن الخالق لا يتم له الخلق إلا بوجود القدوة والقدرة على ذلك: قال تعالى:﴿وَٱلسَّمَآءَ بَنَيۡنَٰهَا ‌بِأَيۡيْدٖ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ﴾ [الذاريات: 47]. وكذلك ما يُرى من إتقانٍ وإحكامٍ في المخلوقات دال على صفة العلم, قال تعالى: ﴿ٱلَّذِي خَلَقَ سَبۡعَ سَمَٰوَٰتٖ طِبَاقٗاۖ مَّا تَرَىٰ فِي خَلۡقِ ٱلرَّحۡمَٰنِ مِن ‌تَفَٰوُتٖۖ﴾ [الملك: 3], وقال سبحانه: ﴿‌أَلَا ‌يَعۡلَمُ مَنۡ خَلَقَ﴾ [الملك: 14]. قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله:«فالخلاق يتضمن صفة الخلق، ويستلزم صفة العلم والقدرة إذ لا خلق إلا بعلم وقدرة، ...فالخلاق دال على الخلق بمقتضى المادة، لأن ‌الخلاق من الخلق، ودال على العلم والقدرة دلالة التزام؛ لأن من لازم الخلق العلم والقدرة، فمن لا علم عنده لا يمكن أن يخلق، إذ كيف يخلق وهو لا يعرف أن يخلق؟ ومن لا قدرة عنده لا يخلق؛ إذ كيف يخلق وهو ضعيف؟»«شرح العقيدة السفارينية» (1/ 163). وقال كذلك رحمه الله:«والخلَّاق والخالِق من أسماء الله، مثل الغَفور وغافِر الذَّنْب والغَفَّار؛ فتُؤمِن بالخلَّاق اسمًا من أسماء الله، وتُؤمِن بصِفة الخلْق التي تَضمَّنها اسمُ الخلَّاق، وإيمانك بالاسم والصِّفة هذا إيمان بدَلالة المُطابَقة، وإيمانك بالاسم وحدَه أو بالصفة وحدَها إيمان بدَلالة التَّضمُّن، ثُم إيمانك بأنه عَليم قَدير، إيمان بدَلالة الِالْتِزام؛ لأنه ما من خَلَّاق إلَّا وهو عَليم، وما من خَلَّاق إلَّا وهو قادِر، لأنه إن كان جاهِلًا فكيف يَخلُق، وإن كان عاجِزًا فكيف يَخلُق؟ ! فدَلالة الخلَّاق على العِلْم والقُدْرة دَلالة التِزام»«تفسير سورة غافر» (ص326). وتمييز هذه المخلوقات وتخصيصها عن بعضها دال على صفة الإرادة, يقول ابن تيمية رحمه لله:«العالم فيه تخصيصات كثيرة مثل تخصيص كل شيء بما له من القدر والصفات والحركات كطوله وقصره، وطعمه ولونه، وريحه وحياته، وقدرته وعلمه وسمعه وبصره، وسائر ما فيه مع العلم الضروري بأنه من الممكن أن يكون خلاف ذلك إذ ليس واجب الوجود بنفسه. ومعلوم أن الذات المجردة التي لا إرادة لها لا تخصص وإنما يكون ‌التخصيص بالإرادة، ولو قيل ‌التخصيص هو بأسباب معلومة كالأرض والأشجار تكون مختلفة فإذا سقيت بماء واحد اختلف ثمارها لاختلاف القوابل كما أن الشمس تختلف آثارها بحسب القوافل كما تبيض الثوب وتسود وجه القصار وتلين اليابس الذي لم ينضج بما تجذبه إليه من الرطوبة وتجفف الرطب الذي كمل نضجه لانقطاع الرطوبة عنه»«شرح العقيدة الأصفهانية» (ص62). ويدل كذلك على صفة الحكمة, فإن الله تعالى خلق الخلق لغاية وحكمة يريدها سبحانه, كما قال تعالى: ﴿وَمَا خَلَقۡتُ ٱلۡجِنَّ وَٱلۡإِنسَ ‌إِلَّا ‌لِيَعۡبُدُونِ﴾ [الذاريات: 56], وقال سبحانه: ﴿أَفَحَسِبۡتُمۡ أَنَّمَا خَلَقۡنَٰكُمۡ ‌عَبَثٗا وَأَنَّكُمۡ إِلَيۡنَا لَا تُرۡجَعُونَ, فَتَعَٰلَى ٱللَّهُ ٱلۡمَلِكُ ٱلۡحَقُّۖ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ ٱلۡعَرۡشِ ٱلۡكَرِيمِ﴾ [المؤمنون: 115-116]. انظر: «الفوائد لابن القيم » (1/ 8). قال ابن القيم رحمه الله: «ومن نظر في هذا العالم وتأمَّل أمره حقَّ التأمُّل علم قطعًا أن خالقه أتقنه وأحكمه غاية الإتقان والإحكام، فإنه إذا تأمَّله وجده كالبيت المبني المُعَدِّ فيه جميع عتاده. فالسماء مرفوعةٌ كالسقف، والأرض ممدودةٌ كالبساط، والنجوم منضودةٌ كالمصابيح، والمنافع مخزونةٌ كالذخائر، كل شيءٍ منها لأمرٍ يصلح له، والإنسان كالمالك المخول فيه، وضروب النبات مهيأة لمآربه، وصنوف الحيوان مصرفة في مصالحه. فمنها ما هو للدر والنسل والغذاء فقط، ومنها ما هو للركوب والحمولة فقط، ومنها ما هو للجمال والزينة، ومنها ما يجمع ذلك كله كالإبل، وجعل أجوافها خزائن لما هو شرابٌ وغذاءٌ، ودواءٌ وشفاءٌ، ففيها عبرةٌ للناظرين، وآيات للمتوسمين. وفي الطير واختلاف أنواعها وأشكالها، وألوانها ومقاديرها، ومنافعها وأصواتها، صافات وقابضات، وغاديات ورائحات، ومقيمات وظاعنات: أعظم عبرة وأبين دلالة على حكمة الخلاق العليم»«الصواعق المرسلة» (2/ 1135).
شرح الاسم معنى اسم الله (الخلّاق) في اللغة: مبالغة اسم الفاعل من خلق الثلاثيّ، وزنه فعّال. انظر: «الجدول في إعراب القرآن محمود صافي» (7/ 270). وأما معناه فهو مثل معنى الخالق, يقول الزبيدي رحمه الله: «وهُوَ ‌الخَلَاّقُ...: ومَعْناه ومَعْنَى الخالِقِ سواءٌ. وخَلَقَ اللهُ الشَّيْء خَلْقاً: أَحْدَثَه بعدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ, والخَلْقُ: يَكُونُ المَصْدَرَ، ويَكُون المَخْلُوقَ»«تاج العروس من جواهر القاموس» (25/ 262). وعليه يكون الكلام عن معناه من جهة اللغة ما قيل في معنى الخالق. فالخلق في كلام العرب التقدير, قال أبو بكر الأنباري رحمه الله:«والخالق في كلام العرب المُقَدِّر؛ قال الله عز وجل: ﴿وتخلقون إفْكاً﴾، معناه، وتقدرون كذباً. وقال في موضع آخر: ﴿فتبارَك اللهُ أحسنُ الخالقين﴾، معناه: أحسن المقدرين تقديراً»«الزاهر في معاني كلمات الناس» (1/ 88). وقد نقل الأزهري رحمه الله عن الأنباري وجها ثانيا في معنى الخلق في كلام العرب بقوله: وقال أبو بكر بن الأنباري: الخلق في كلام العرب على ضربين، أحدهما: الإنشاء على مثال أبدعه، والآخر: التقدير. وهذا الوجه هو الذي اختاره الأزهري رحمه الله حيث قال: والخلق في كلام العرب: ابتداع الشيء على مثال لم يسبق إليه. «تهذيب اللغة» (7/ 16). وقد اختار هذا الوجه كذلك الزجاج وابن سيده رحمهما الله حيث قال الزجاج: «فالخلق في اسم الله تعالى هو ابتداء تقدير النشء, فالله تعالى خالقها ومنشئها وهو متممها ومدبرها»«تفسير أسماء الله الحسنى» (ص37). وقال ابن سيده رحمه الله: «وخَلَقَ الله الشَّيْء يَخلُقه خَلْقاً: أحدثه بعد أَن لم يكن. والخَلْقُ يكون الْمصدر، وَيكون الْمَفْعُول».«المحكم والمحيط الأعظم» (4/ 535). وأما الجوهري وابن فارس رحمهما الله فلم يذكرا إلا الوجه الأول وهو التقدير. قال الجوهري رحمه الله: «الخلق: التقدير، يقال: خلقت الأديم: إذا قدرته قبل القطع». «الصحاح» (4/ 156). وقال ابن فارس رحمه الله: «الخاء واللام والقاف أصلان؛ أحدهما: تقدير الشيء، والآخر: ملاسة الشيء، فأما الأول: فقولهم: خلقت الأديم للسقاء، إذا قدرته» «مقاييس اللغة» (2/ 213 - 214). ومما سبق نخلص إلى أن الخلق في كلام العرب يأتي بمعنيين: الأول: التقدير. كما في قوله تعالى: ﴿فتبارك الله أحسن الخالقين﴾ أي: أحسن المقدرين. الثاني: ابتداع الشيء على مثال لم يسبق إليه: وكل شيء خلقه الله فهو مبتدئه على غير مثال سبق إليه. انظر: «لسان العرب» (10/ 85). ‌وقد فصّل الراغب الأصفهاني رحمه الله في إطلاق الخلق بين الخالق والمخلوق, حيث قال: الخَلْقُ أصله: التقدير المستقيم، ويستعمل في إبداع الشّيء من غير أصل ولا احتذاء، قال تعالى: ﴿خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ﴾ [الأنعام/ 1] ، أي: أبدعهما، بدلالة قوله: ﴿بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ﴾ [البقرة/ 117] ، ويستعمل في إيجاد الشيء من الشيء نحو: ﴿خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ﴾ [النساء/ 1]، وا‌لخَلْقُ الذي هو الإبداع خاص بالله تعالى، ولهذا قال في الفصل بينه تعالى وبين غيره: ﴿أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ﴾ [النحل/ 17]. وأمّا الخلق الذي يكون بالاستحالة، فقد جعله الله تعالى لغيره في بعض الأحوال، كعيسى عليه السلام حيث قال:﴿وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي﴾ [المائدة/ 110]. والخلق لا يستعمل في كافّة النّاس إلا على وجهين: أحدهما: في معنى التّقدير كقول الشاعر: فلأنت تفري ما خلقت وبع … ض القوم يخلق ثمّ لا يفري. والثاني: في الكذب نحو قوله: ﴿وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً﴾[العنكبوت/ 17]. انظر: «المفردات في غريب القرآن» (ص296-297). قال ابن القيم رحمه الله:«وأما الخالق والمصوِّر فإنِ استُعْمِلا مطلقيَن غير مقيدَين لم يُطلقا إلا على الربّ سبحانه، كقوله: {الْخَالِقُ الْبَارِئُ ‌الْمُصَوِّرُ} [الحشر: 24]، وإن استُعْمِلا مقيّدَين أُطْلِقا على العبد، كما يقال لمن قدّر شيئًا في نفسه: إنه خلقه. قال:ولأنت تَفْري ما خلقتَ وبعـ … ـض القوم يخلق ثم لا يَفْري أي: لك قدرة تمضي وتنفذ بها ما قدّرته في نفسك، وغيرك يقدّر أشياء وهو عاجز عن إنفاذها وإمضائها. وبهذا الاعتبار صحّ إطلاق خالق على العبد في قوله تعالى: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون: 14]، أي: أحسن المصوّرين والمقدّرين».«شفاء العليل» (1/ 427-428). أما معنى الخلّاق في الشرع:فهو يدل على معنى كثرة صدور الفعل منه وهو الخلق, وعلى كثرة مخلوقات التي كانت آثارا لفعله. قال الزجالج رحمه الله:«والخلاق: فعال للمبالغة، والخلق: الفعل. وأفعال الله عز وجل مقدرة على مقدار ما قدرها عليه. وأصله من قول العرب «خلق فلان الأديم»: إذا قدره للقطع للإصلاح»«اشتقاق أسماء الله» (ص166). وقال الحليمي -رحمه الله-: «الخلاق ومعناه: الخالق خلقا بعد خلق». المنهاج (1/ 193) وقال القرطبي -رحمه الله-: «إن ربك هو الخلاق، أي: المقدر للخلق والأخلاق» تفسير القرطبي (10/ 54) وقال ابن القيم -رحمه الله-: النونية (ص 194). وكذاك يشهد أنه سبحانه الـ....خلاق باعث هذه الأبدان. وقال البقاعي رحمه الله«{‌الخلاّق} المتكرر منه هذا الفعل في كل وقت بمجرد الأمر، فلا عجب في إيجاد ما ينسب إليه من إبداع الساعة أو غيرها، وهو لذلك عالم بأحوالكم أجمعين وما يكون منها صلاحاً لك على غاية الحكمة، لأن المصور أعلم بالصورة من ناظرها والمتبصر فيها، وصانع الشيء أدرى به من مشتريه، وباني البيت أخبر به من ساكنه، وهو الذي خلق كل ما تراه منهم فهو فعله فسلم له»«نظم الدرر في تناسب الآيات والسور» (11/ 84). وقال رحمه الله:«{الخلاق} البالغ في هذه الصفة مطلقاً في تكثير الخلق وتكريره بالنسبة إلى كل شيء ما لا تحيط به الأوهام، ولا تدركه العقول والأفهام»«نظم الدرر في تناسب الآيات والسور» (16/ 183): ويقول السمعاني رحمه الله:« والخلاق هُوَ الَّذِي يخلق مرّة بعد مرّة»«تفسير السمعاني» (4/ 390). وقال البغوي رحمه الله: «‌الخلاق: يخلق خلقا بعد خلق»«تفسير البغوي » (7/ 29). وانظر:«زاد المسير في علم التفسير لابن الجوزي» (3/ 534). وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: «الخلاق: الكثير الخلق، فجعل فعّالًا من صيغة المبالغة، ولا شك أن الله عز وجل كثير الخلق، لكن ينبغي أن نقول أيضًا: إن فعّالًا هنا نسبة، أي: أنه موصوف بالخلق، ووصفه بالخلق أبلغ من وصفه بإيجاد الخلق، أو بفعل الخلق، يعني أننا لو قلنا: فلان نجار. ماذا يفيد قولنا: (إنه نجار) إذا جعلناه من باب النسبة، وماذا يفيد إذا جعلناه من باب المبالغة؟ إذا جعلناه من باب المبالغة: فالمعنى أنه كثير النجارة، فنجار يعني كثير النجارة، ولكن هل هو مجيدها؟ وهل هو مستحق لأن يوصف بهذه المهنة فيقال نجار؟ وهل النجارة وصفه، بمعنى أنه حاذق متقن لها؟ لا يلزم قد يكون وقد لا يكون أما إذا قلت: (نجار) على أنها نسبة، أي: صاحب صنعة، فهو أبلغ في الوصف، والنجار، أي: ذو الصنعة المتقن لها سواء نجر كثيرًا أو قليلًا فهو نجار متقن. فهنا يمكن أن نقول: {وَهُوَ الْخَلَّاقُ} نحملها على النسبة المفيدة لوصف الله عز وجل بهذه الصفة العظيمة، أي: ذو الخلق المتقن على أكمل وجه، ومع هذا فإن الله سبحانه وتعالى اجتمع في حقه الوصف والفعل يعني كثرة الخلق، فلا شك أن خلق الله عز وجل لا يحصى أجناسًا، فضلًا عن الأنواع، فضلًا عن الأفراد، من ذا الذي يحصي أجناس الخلق؟ من ذا الذي يحصي أنواع هذه الأجناس؟ ومن الذي يحصي أفراد هذه الأنواع؟ لا يستطيع أحد أن يحصي ذلك. إذن فقد اجتمع في حق الله سبحانه وتعالى الأمران: النسبة الوصفية كمال الوصف، والثاني: الكثرة التي تفيدها صيغة المبالغة، فإذا كان الله سبحانه وتعالى خلاقًا، أي: من وصفه الخلق اللازم له، وكذلك كثير الخلق، هل يعجز عن أن يحيي العظام وهي رميم؟ لا». وقد اتفق أهل الملل كلهم على أن الله سبحانه وحده الخالق، وكل ما سواه مخلوق موجود بعد عدمه، وليس معه غيره من المخلوقات يكون وجوده مساويًا لوجوده. انظر: «شفاء العليل لابن القيم» (2/ 18). وأسماء الله تعالى أزلية لم يتسمّ بها بعد وجود مقتضياتها وآثارها؛ بل هي سابقة عليها. قال أبو جعفر الطحاوي رحمه الله تعالى: «ليس بعد خلق الخلق استفاد اسم الخالق، ولا بإحداث البريَّة استفاد اسم الباري»«العقيدة الطحاوية»(ص24). وقال ابن تيمية رحمه الله: «وأما قولنا: هو موصوف في الأزل بالصفات الفعلية من الخلق والكرم والمغفرة؛ فهذا إخبار عن أنَّ وصفه بذلك متقدم؛ لأن الوصف هو الكلام الذي يخبر به عنه، وهذا مما تدخله الحقيقة والمجاز، وهو حقيقة عند أصحابنا».«مجموع الفتاوى» (6/272). واسم الله الخلّاق من الأسماء التي لا يصح إطلقها على غير الله تعالى: يقول ابن القيم رحمه الله: «ومما يمنع تسمية الإنسان به أسماء الرب تبارك وتعالى، فلا يجوز التسمية بالأحد والصمد ولا بالخالق ولا بالرازق، وكذلك سائر الأسماء المختصة بالرب تبارك وتعالى، ولا تجوز تسمية الملوك بالقاهر والظاهر كما لا يجوز تسميتهم بالجبار والمتكبر والأول والآخر والباطن وعلام الغيوب».«تحفة المودود» (ص182).
المقتضى اللازم إن مقتضى اسم الله الخلاق يستلزم اتصافه سبحانه بجميع صفات الكمال الذاتية والفعلية, لأن خلقه للمخلوقات متضمن لكمال قدرته وإرادته وعلمه وحكمته وحياته. قال ابن القيم رحمه الله: «أنه ليس في المعلومات أظهر من كون الله خالقا، ولهذا أقرت به جميع الأمم، مؤمنهم وكافرهم، ولظهور ذلك، وكون العلم به بديهيا فطريا، احتج الله به على من أشرك به في عبادته، فقال: {ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله} [العنكبوت: 61] في غير موضع من كتابه، فعلم أن كونه سبحانه خالقا من أظهر شيء عند العقول، فكيف يكون الخبر عنه بذلك مجازا، وهو أصل كل حقيقة، فجميع الحقائق تنتهي ‌إلى ‌خلقه وإيجاده، فهو الذي خلق وهو الذي علم، كما قال تعالى: {اقرأ باسم ربك الذي خلق - خلق الإنسان من علق - اقرأ وربك الأكرم - الذي علم بالقلم - علم الإنسان ما لم يعلم} [العلق: 1 - 5] فجميع الموجودات انتهت ‌إلى ‌خلقه وتعليمه، فكيف يكون كونه خالقا عالما مجازا؟ وإذا كان كونه خالقا عالما مجازا لم يبق له فعل حقيقة ولا اسم حقيقة، فصارت أفعاله كلها مجازات، وأسماؤه الحسنى كلها مجازات»«مختصر الصواعق المرسلة» (ص346). وقال ابن بطال رحمه الله: «وقام برهان العقل على ألا خالق غير الله وبطل قول من يقول: إن الطبائع خالقة العالم، وأن الأفلاك السبعة هى الفاعلة، وأن النور والظلمة خالقان، وقول من زعم أن العرش هو الخالق. وفسدت جميع هذه الأقوال لقيام الدليل على حدوث ذلك كله وافتقاره إلى محدث لاستحالة وجود محدث لا محدث له، كاستحالة وجود مضروب لا ضارب له، وكتاب الله شاهد بصحة هذا، وهو قوله تعالى: (هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ) [فاطر: 3] ، فنفى خالقًا سواه، وقال تعالى: (أَمْ جَعَلُوا لِلّهِ شُرَكَاء خَلَقُوا كَخَلْقِهِ) [الرعد: 16] ، وقال عقيب ذلك: (فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ) [الرعد: 16] ، ثم قال لنبيه: (قُلِ اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَىْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ) [الرعد: 16] ، ودلّ على ذلك أيضًا بقوله تعالى: (إِنَّ فِى خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُوْلِى الألْبَابِ) [آل عمران: 190] . فاستدل بآيات السموات والأرض على قدرة الله ووحدانيته فوجب أن يكون الخلاق العليم بجميع صفاته من الخلق والأمر والفعل والسمع والبصر والتكوين للمخلوقات كلها خالقًا غير مخلوق الذات والصفات، وأن القرآن صفة له غير مخلوق، ووجب أن يكون الخالق مخالفًا لسائر المخلوقات، ووجه خلافه لها انتفاء قيام الحوادث عنه الدالة على حدث من تقوم به، ولزم أن يكون ما سواه من مخلوقاته التى كانت عن قوله وأمره وفعله وتكوينه مخلوقات له، هذا موجب العقل»«شرح صحيح البخارى» (10/ 475). وقال ابن القيم رحمه الله: «وأسماؤه الحسنى تقتضي آثارها وتستلزمها استلزام المقتضي الموجِب لموجَبه ومقتضاه، فلا بد من ظهور آثارها في الوجود؛ فإن من أسمائه ‌الخلَّاق المقتضي لوجود الخلق،... والوجود متضمن لخلقه وأمره {أَلَا لَهُ اُلْخَلْقُ وَاَلْأَمْرُ تَبَارَكَ اَللَّهُ رَبُّ اُلْعَالَمِينَ} [الأعراف: 53]. فخلقه وأمره صدرا عن حكمته وعلمه، وحكمته وعلمه اقتضيا ظهور خلقه وأمره. فمصدر الخلق والأمر عن هذين الاسمين المتضمنين لهاتين الصفتين. ولهذا يقرن سبحانه بينهما عند ذكر إنزال كتابه، وعند ذكر ملكه وربوبيته؛ إذ هما مصدر الخلق والأمر. ولمَّا كان سبحانه كاملًا في جميع أوصافه، ومن أجلِّها حكمته كانت عامة التعلق بكل مقدورٍ»«الصواعق المرسلة» (2/ 1133).
المقتضى المتعدي دلالة اسم الله الخلاق تقتضي وجود مخلوق مربوب وجد بعد أن لم يكن, وهذا من مشاهد ربوبيته سبحانه وتعالى, حيث يستدل به على خلقه, وهو أرفع الطرق في الاستدلال, قال ابن القيم رحمه الله: «وأسماؤه الحسنى تقتضي آثارها وتستلزمها استلزام المقتضي الموجِب لموجَبه ومقتضاه، فلا بد من ظهور آثارها في الوجود؛ فإن من أسمائه ‌الخلَّاق المقتضي لوجود الخلق» «الصواعق المرسلة » (2/ 1133). وأما الطريق الثاني وهو عكسه, أي الاستدلال بالمخلوق والأثر على الخالق المؤثر, وهو الكثير وهو دون الطريق الأول. يقول الإمام ابن القيم رحمه الله:«فمن طرق إثبات الصفات: دلالة الصنعة عليها؛ فإن المخلوق يدل على وجود خالقه، على حياته وعلى قدرته، وعلى علمه ومشيئته؛ فإن الفعل الاختياري يستلزم ذلك استلزاما ضروريا، وما فيه من الإتقان والإحكام ووقوعه على أكمل الوجوه يدل على حكمة فاعله وعنايته، وما فيه من الإحسان والنفع، ووصول المنافع العظيمة إلى المخلوق يدل على رحمة خالقه، وإحسانه وجوده، وما فيه من آثار الكمال يدل على أن خالقه أكمل منه، فمعطي الكمال أحق بالكمال».«مدارج السالكين» (3/ 330). وفي دلالة قول الله تعالى:{أَمۡ خُلِقُواْ مِنۡ غَيۡرِ شَيۡءٍ أَمۡ هُمُ ‌ٱلۡخَٰلِقُونَ}]الطور:35[, إثبات للخالق سبحانه, وتقرير ذلك في الآية: «أم خلقوا من غير شيء، فوجدوا بلا خالق، وذلك مالا يجوز أن يكون؛ لأن تعلق الخلق بالخالق من ضرورة الاسم، فلابد له من خالق، فإذ قد أنكروا الإله الخالق، ولم يجز أن يوجدوا بلا خالق خلقهم، أفهم الخالقون لأنفسهم؟ وذلك في الفساد أكثر، وفي البطلان أشد لأن مالا وجود له، فيجوز أن يكون موصوفا بالقدرة، كيف يخلق، وكيف يتأتى منه الفعل؟ وإذا بطل الوجهان معا قامت الحجة عليهم بأن لهم خالقا فليؤمنوا به إذا».«أعلام الحديث للخطابي»(3/1913). وانظر: «تفسير البغوي» (7/ 392). ومن مقتضيات اسم الله الخالق كثرة مخلوقاته وتنوعها, بما لا يمكن حصره. فقد خلق السموات الطباق, وجعلها سبعا, وزينها بالكواكب والنجوم, وأودع فيها من المنافع والمصالح للعباد ما سقضي مآربهم, ودحا الأرض بالنبات والأنهار والبحار, وأرسى فيها الجبال الشم الراسيات, قال تعالى: ﴿ٱلَّذِي خَلَقَ سَبۡعَ سَمَٰوَٰتٖ ‌طِبَاقٗاۖ مَّا تَرَىٰ فِي خَلۡقِ ٱلرَّحۡمَٰنِ مِن تَفَٰوُتٖۖ ﴾ [الملك: 3], وقال جل جلاله: ﴿ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ وَأَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءٗ فَأَخۡرَجَ بِهِۦ مِنَ ٱلثَّمَرَٰتِ رِزۡقٗا لَّكُمۡۖ وَسَخَّرَ لَكُمُ ٱلۡفُلۡكَ لِتَجۡرِيَ فِي ٱلۡبَحۡرِ بِأَمۡرِهِۦۖ وَسَخَّرَ لَكُمُ ‌ٱلۡأَنۡهَٰرَ (٣٢) وَسَخَّرَ لَكُمُ ٱلشَّمۡسَ وَٱلۡقَمَرَ دَآئِبَيۡنِۖ وَسَخَّرَ لَكُمُ ٱلَّيۡلَ وَٱلنَّهَارَ﴾ [إبراهيم: 32-33], وقال سبحانه وتعالى: ﴿ٱللَّهُ ٱلَّذِي رَفَعَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ بِغَيۡرِ عَمَدٖ تَرَوۡنَهَاۖ ثُمَّ ٱسۡتَوَىٰ عَلَى ٱلۡعَرۡشِۖ وَسَخَّرَ ٱلشَّمۡسَ وَٱلۡقَمَرَۖ كُلّٞ يَجۡرِي لِأَجَلٖ مُّسَمّٗىۚ يُدَبِّرُ ٱلۡأَمۡرَ يُفَصِّلُ ٱلۡأٓيَٰتِ لَعَلَّكُم بِلِقَآءِ رَبِّكُمۡ تُوقِنُونَ (٢) وَهُوَ ٱلَّذِي مَدَّ ٱلۡأَرۡضَ وَجَعَلَ فِيهَا ‌رَوَٰسِيَ وَأَنۡهَٰرٗاۖ وَمِن كُلِّ ٱلثَّمَرَٰتِ جَعَلَ فِيهَا زَوۡجَيۡنِ ٱثۡنَيۡنِۖ يُغۡشِي ٱلَّيۡلَ ٱلنَّهَارَۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَٰتٖ لِّقَوۡمٖ يَتَفَكَّرُونَ (٣) وَفِي ٱلۡأَرۡضِ قِطَعٞ مُّتَجَٰوِرَٰتٞ وَجَنَّٰتٞ مِّنۡ أَعۡنَٰبٖ وَزَرۡعٞ وَنَخِيلٞ صِنۡوَانٞ وَغَيۡرُ صِنۡوَانٖ يُسۡقَىٰ بِمَآءٖ وَٰحِدٖ وَنُفَضِّلُ بَعۡضَهَا عَلَىٰ بَعۡضٖ فِي ٱلۡأُكُلِۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَٰتٖ لِّقَوۡمٖ يَعۡقِلُونَ ﴾ [الرعد: 2-4], وقال سبحانه في تزيين السماء بالنجوم, ﴿فَقَضَىٰهُنَّ سَبۡعَ سَمَٰوَاتٖ فِي يَوۡمَيۡنِ وَأَوۡحَىٰ فِي كُلِّ سَمَآءٍ أَمۡرَهَاۚ وَزَيَّنَّا ٱلسَّمَآءَ ٱلدُّنۡيَا ‌بِمَصَٰبِيحَ وَحِفۡظٗاۚ ذَٰلِكَ تَقۡدِيرُ ٱلۡعَزِيزِ ٱلۡعَلِيمِ﴾ [فصلت: 12], وجعل الأرض ممهدة مذللة لمصالح العباد, وقال جلأ شأنه: ﴿هُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلۡأَرۡضَ ‌ذَلُولٗا فَٱمۡشُواْ فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُواْ مِن رِّزۡقِهِۦۖ﴾ [الملك: 15], وقال سبحانه: ﴿أَمَّن جَعَلَ ٱلۡأَرۡضَ قَرَارٗا وَجَعَلَ خِلَٰلَهَآ أَنۡهَٰرٗا وَجَعَلَ لَهَا ‌رَوَٰسِيَ وَجَعَلَ بَيۡنَ ٱلۡبَحۡرَيۡنِ حَاجِزًاۗ ﴾ [النمل: 61]. وإذا تأملت في مخلوقات الأرض في برها وجدت أنواعا كثيرة. منها ما له أرجل متفاوتة رجلين فأربع فأكثر, ومنها من تزحف على بطونها,قال تعالى: ﴿وَٱللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَآبَّةٖ مِّن مَّآءٖۖ فَمِنۡهُم مَّن يَمۡشِي عَلَىٰ بَطۡنِهِۦ وَمِنۡهُم مَّن يَمۡشِي عَلَىٰ رِجۡلَيۡنِ وَمِنۡهُم مَّن يَمۡشِي عَلَىٰٓ ‌أَرۡبَعٖۚ يَخۡلُقُ ٱللَّهُ مَا يَشَآءُۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ ﴾ [النور: 45]. إضافة إلى ما صغر ودقّ من الحشرات والخنافس وما لا نفس له سائلة, قد تنوعت مساكنها, واختلفت مطاعمها, قال تعالى: ﴿وَمِنۡ ءَايَٰتِهِۦ خَلۡقُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِن ‌دَآبَّةٖۚ ﴾ [الشورى: 29]. وإذا أَجَلْتَ بصرك في الهواء رأيت من أنواع الطير كثرة كاثرة, مختلفة الألوان, متباينة الأحجام, تقطع المسافات الشاسعة في الجو صافات, قال تعالى: ﴿أَوَلَمۡ يَرَوۡاْ إِلَى ٱلطَّيۡرِ فَوۡقَهُمۡ ‌صَٰٓفَّٰتٖ وَيَقۡبِضۡنَۚ مَا يُمۡسِكُهُنَّ إِلَّا ٱلرَّحۡمَٰنُۚ إِنَّهُۥ بِكُلِّ شَيۡءِۭ بَصِيرٌ ﴾ [الملك: 19]. وإذا غصت أعماق البحار والمحيطات تعجبت من خلق الله تعالى وتنوعه من أسماك وحيتان وثعابين مختلفة الألوان والأشكال والمطاعم, وما أودع فيه كذلك من اللؤلؤ والمرجان وغيرها, قال تعالى: ﴿وَهُوَ ٱلَّذِي سَخَّرَ ‌ٱلۡبَحۡرَ لِتَأۡكُلُواْ مِنۡهُ لَحۡمٗا طَرِيّٗا وَتَسۡتَخۡرِجُواْ مِنۡهُ حِلۡيَةٗ تَلۡبَسُونَهَاۖ ﴾ [النحل: 14]. يقول ابن القيم رحمه الله: «ومن آياته سبحانه: خلقُ الحيوان على اختلاف أصنافه وأجناسه وأشكاله ومنافعه وألوانه وعجائبه المودَعة فيه؛ فمنه الماشي على بطنه، ومنه الماشي على رجليه، ومنه الماشي على أربَع، ومنه ما جُعِل سلاحُه في رجليه ــ وهو ذو المخالب ــ، ومنه ما سلاحُه المناقير، كالنَّسر والرَّخَم والغُراب، ومنه ما سلاحُه الأسنان، ومنه ما سلاحُه الصَّياصي ــ وهي القُرون ــ يُدافِعُ بها عن نفسه من يرومُ أخذَه، ومنها ما أُعطِي قوَّةً يَدْفَعُ بها عن نفسه لم يحتَج إلى سلاح، كالأسد؛ فإنَّ سلاحَه قوَّتُه، ومنه ما سلاحُه في ذَرْقِه، وهو نوعٌ من الطَّير إذا دنا منه من يريدُ أخذَه ذَرَقَ عليه فأهلكَه» «مفتاح دار السعادة» (2/ 583). أما خَلْقُ الإنسان، فقد نَدَبَ الله سبحانه إلى التفكُّر فيه والنظر في غير موضعٍ من كتابه؛ كقوله تعالى: {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ} [الطارق: 5]، وقوله تعالى: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} [الذاريات: 21] وأقربُ شيءٍ إلى الإنسان نفْسُه، وفيه من العجائب الدَّالَّة على عظمة الله ما تنقضي الأعمارُ في الوقوف على بعضه؛ وهو غافلٌ عنه، مُعرِضٌ عن التفكُّر فيه، ولو فكَّر في نفسه لزجرهُ ما يعلمُ من عجائب خَلْقِها عن كُفْرِه؛ قال الله تعالى: {قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ } [عبس: 17 - 19] فانظر إلى النطفة, وهي قطرةٌ من ماءٍ مهينٍ ضعيفٍ مُسْتَقْذر، لو مرَّت بها ساعةٌ من الزمان فسَدت وأنتنَت، كيف استخرجها من بين الصُّلب والتَّرائب، مذلَّلةَ القِياد على ضيق طُرقِها واختلاف مجاريها، إلى أن ساقها إلى مستقرِّها ومَجْمَعِها.وكيف جمع سبحانه بين الذَّكر والأنثى، وكيف قدَّر اجتماع ذَينِك الماءين في موضعٍ واحدٍ جُعِلَ لهما قرارًا مكينًا، قَلَبَ تلك النطفةَ البيضاء المشرقة علقةً حمراءَ تَضرِبُ إلى سوادٍ، ثمَّ جعلها مضغةَ لحمٍ، ثمَّ جعلها عظامًا مجرَّدةً لا كسوةَ عليها. وانظر كيف قسَّم تلك الأجزاء المتساوية المتشابهة إلى الأعصاب والعظام والعُروق والأوتار واليابس والليِّن، وبَيْن ذلك، ثمَّ كيف رَبَط بعضها ببعضٍ. وكيف كساها لحمًا ركَّبه عليها، وجعله وعاءً لها وغشاءً وحافظًا، وجعلها حاملةً له مقيمةً له؛ فاللحمُ قائمٌ بها وهي محفوظةٌ به. وكيف صوَّرها فأحسنَ صُوَرها، وشقَّ لها السَّمعَ والبصرَ والفمَ والأنفَ وسائر المنافذ، ومَدَّ اليدين والرِّجلين وبسطهما، وقسَّم رؤوسَهما بالأصابع، ثمَّ قسَّم الأصابعَ بالأنامل، وركَّب الأعضاءَ الباطنة من القلب والمعدة والكبد والطِّحال والرِّئة والرَّحِم والمَثانة والأمعاء، كلُّ واحدٍ منها له قَدْرٌ يخصُّه ومنفعةٌ تخصُّه. ثمَّ انظر الحكمةَ البالغة في تركيب العظام قِوامًا للبدن وعِمادًا له. ولما كان الإنسانُ محتاجًا إلى الحركة بجُملة بدنه وببعض أعضائه للتَّردُّد في حاجته لم يجعَل عظامه عظمًا واحدًا، بل عظامًا متعدِّدة، وجعل بينها مفاصل حتى تتيسَّر بها الحركة، وكان قَدْرُ كلِّ واحدٍ منها وشكلُه على حسب الحركة المطلوبة منه. وكيف شَدَّ أسْرَ تلك المفاصل بأوتارٍ ورِباطاتٍ أنبتها من أحد طرفي العظم، وألصقَ العظمَ بالطَّرف الآخر, وتأمَّل كيفيَّة خَلْق الرَّأس، وكثرةَ ما فيه من العظام، وكيف ركَّبه سبحانه وتعالى على البدن، وجعله عاليًا عليه عُلُوَّ الراكب على مركوبه ولما كان عاليًا على البدن جَعَل فيه الحواسَّ الخمسَ وآلات الإدراك كلَّها من السَّمع والبصر والشَّمِّ والذَّوق واللَّمس. وجَعَل حاسَّة البصر في مُقَدَّمه؛ ليكون كالطَّليعة والحَرَس والكاشف للبدن, فحسَّن شكل العينين وهيأتهما ومقدارهما، ثمَّ جمَّلهما بالأجفان غطاءً لهما وسترًا وحفظًا وزينة؛ وفي أطراف تلك الأجفان الأهدابَ جمالًا وزينة، ثمَّ أودعهما ذلك النُّورَ الباصرَ الذي يَخْرقُ ما بين السماء والأرض. وشَقَّ له السَّمع، وخلق الأذنَ فجعلها مجوَّفةً كالصَّدفة؛ لتجمعَ الصَّوتَ فتؤدِّيه إلى الصِّماخ، وجَعَل فيها غُضونًا وتجاويفَ واعوجاجاتٍ تمسكُ الهواءَ والصَّوتَ الدَّاخل فتكسرُ حِدَّته ثم تؤدِّيه إلى الصِّماخ. وجَعَل ماء الأذن مرًّا في غاية المَرارة، فلا يجاوزُه الحيوانُ ولا يقطعُه داخلًا إلى باطن الأذن, وجَعَل ماء العَين مِلْحًا ليحفظها؛ فإنها شَحْمةٌ قابلةٌ للفساد، فكانت ملوحةُ مائها صيانةً لها وحفظًا، وجَعَل ماء الفم عَذبًا حُلوًا ليُدرِك به طُعومَ الأشياء على ما هي عليه. ونَصَب سبحانه قَصَبة الأنف في وسط الوجه، فأحسنَ شكلَه وهيئتَه ووضعَه، وفَتَح فيه المَنْخِرَين، وحَجَز بينهما بحاجز، وأودَع فيهما حاسَّة الشَّمِّ التي تُدْرَكُ بها أنواعُ الروائح الطيِّبة والخبيثة والنافعة والضارَّة، وليستنشقَ به الهواءَ فيوصِلَه إلى القلب فيتَروَّح به ويتغذَّى به.وجعله سبحانه مَصَبًّا تنحدِرُ إليه فضلاتُ الدِّماغ فتجتمعُ فيه ثمَّ تخرجُ منه. وشقَّ سبحانه للعبد الفمَ في أحسن موضعٍ وأليقه به، وأودع فيه من المنافع وآلات الذَّوق والكلام وآلات الطَّحن والقَطع ما تبهرُ العقولَ عجائبُه؛ فأودَعه اللسانَ الذي هو أحدُ آياته الدَّالَّة عليه، وجعله ترجمانًا لمَلِك الأعضاء مُبِينًا مؤديًا عنه, مَصُونًا محفوظًا مستورًا، غير بارزٍ مكشوفٍ كالأذن والعين والأنف؛ لأنَّ تلك الأعضاء لما كانت تؤدِّي من الخارج إليه جُعِلَت بارزةً ظاهرة، ولما كان اللسانُ مؤديًا منه إلى الخارج جُعِل مستورًا مصونًا. ثمَّ زيَّن سبحانه الفمَ بما فيه من الأسنان التي هي جمالٌ له وزينة، وبها قِوامُ العبد وغذاؤه، وجَعَل بعضها أرْحاءَ للطَّحن، وبعضها آلةً للقَطع، فأحكم أصولَها، وحَدَّد رؤوسَها، وبيَّض لونها، ورتَّب صفوفَها، متساويةَ الرؤوس، متناسقةَ التَّرتيب، كأنها الدُّرُّ المنظومُ بياضًا وصفاءً وحُسْنًا. وأحاط سبحانه على ذلك كلِّه حائطَيْن، وهما الشَّفتان؛ فحَسَّن لونهما وشكلَهما ووضعَهما وهيأتهما، وجعلهما غطاءً للفم وطَبَقًا له، جَعَلهما لحمًا صِرفًا لا عَظمَ فيه ولا عَصَب؛ ليتمكَّن بهما من مَصِّ الشَّراب، ويَسْهُل عليه فتحُهما وطَبْقُهما. وخلق سبحانه الحناجرَ مختلفةَ الأشكال في الضِّيق والسَّعة، والخشونة والمَلاسة، والصَّلابة واللِّين، والطُّول والقِصَر؛ فاختلفَت بذلك الأصواتُ أعظمَ اختلاف. وزيَّن سبحانه الرأسَ بالشَّعر، وجَعَله لباسًا له؛ لاحتياجه إليه، وزيَّن الوجه بما أنبت فيه من الشُّعور المختلفة الأشكال والمقادير، فزيَّنه بالحاجبين، وجعلهما وقايةً لما ينحدر مِن بَشَرَة الرأس إلى العينين، وقَوَّسهما، وأحسنَ خطَّهما، وزيَّن أجفانَ العينين بالأهداب، وزيَّن الوجه أيضًا باللِّحية، وجعلها كمالًا ووقارًا ومهابةً للرَّجُل، وزيَّن الشفتين بما أنبت فوقهما من الشارب وتحتهما من العَنْفَقَة. وكذلك خَلْقُه سبحانه لليدين اللتين هما آلةُ العبد وسلاحُه ورأسُ ماله ومعاشُه، فطوَّلهما بحيث يَصِلان إلى ما شاء من بدنه، وعرَّض الكفَّ ليتمكَّن بها من القبض والبسط، وقسَّم فيه الأصابعَ الخمس، وقسَّم كلَّ إصبعٍ بثلاث أناملَ والإبهامَ باثنتين، ووضعَ الأصابعَ الأربعةَ في جانبٍ والإبهامَ في جانب؛ لتدور الإبهامُ على الجميع؛ فجاءت على أحسن وضعٍ صَلحت به للقبض والبسط ومباشرة الأعمال, وركَّبَ الأظفارَ على رؤوسها زينةً لها وعِمادًا ووقاية، ومباشرة وظائفها من الحك والالتقاط ونحوه. ثمَّ انظر كيف جَعَل الرَّقبة مَرْكبًا للرأس، وركَّبها على الظَّهر والصَّدر، ثم وصل عظامَ الظَّهر بعظام الصَّدر، وعظامَ الكتفين بعظام العَضُدَين، والعَضُدَين بالذِّراعين، والذِّراعين بالكفِّ والأصابع. ومن عجائب خَلقِه ما في الإنسان من الأمور الباطنة التي لا تشاهَد؛ كالقلب والكبد والطِّحال والرِّئة والأمعاء والمَثانة، وسائر ما في باطنه من الآلات العجيبة، والقُوى المتعدِّدة المختلفة المنافع. فأما القلبُ، فهو الملكُ المستعمِلُ لجميع آلات البدن، وهو أشرفُ أعضاء البدن، وبه قِوامُ الحياة، وهو منبعُ الرُّوح الحيوانيِّ والحرارة الغريزيَّة، وهو معدنُ العقل والعلم والحلم، والشجاعة والكرم والصَّبر والاحتمال، والحبِّ والإرادة، والرضا والغضب، وسائر صفات الكمال. فسائر الأعضاء خَدَمُه وجنودُه، وقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «ألا إنَّ في الجسد مُضغةً إذا صلَحت صلَح لها سائرُ الجسد، وإذا فسَدت فسَد لها سائرُ الجسد، ألا وهي القلب». وجُعِلَت الرئةُ له كالمِرْوَحة تُروِّحُ عليه دائمًا؛ لأنه أشدُّ الأعضاء حرارةً، بل هو منبعُ الحرارة. وإذا نظر العبدُ إلى غذائه فقط، في مَدْخَله ومستقرِّه ومخرجه، رأى فيه العِبَر والعجائب؛ كيف جُعِلَت له آلةٌ يتناولُه بها، ثم بابٌ يَدْخُل منه، ثمَّ آلةٌ تقطِّعُه صغارًا، ثمَّ طاحونٌ يطحنُه، ثمَّ أُعِينَ بماءٍ يعجنُه، ثمَّ جُعِل له مجرًى وطريقٌ إلى جانب مجرى النَّفَس، ينزلُ هذا ويصعدُ هذا، فلا يلتقيان مع غاية القُرب. ثمَّ جَعَل له حوايا وطرقًا تُوصِلُه إلى المعدة، فهي خِزانتُه وموضعُ اجتماعه، ولها بابان: بابٌ أعلى يدخلُ منه الطَّعام، وبابٌ أسفلُ يخرجُ منهُ ثُفْلُه. ويحيطُ بالمعدة مِن داخلها وخارجها حرارةٌ ناريَّة، ينضجُ بها الطعامُ فيها, ولذلك تذيبُ ما هو مستحجِرٌ كالحصى وغيره، حتى تتركه مائعًا، فإذا أذابتهُ علا صَفْوُه إلى فوق، ورَسَا كدرُه إلى أسفل. ولما كان الغذاءُ إذا استحال في المعدة استحال دمًا ومِرَّةً سوداءَ ومِرَّةً صفراءَ وبَلْغمًا، اقتضت حكمتُه سبحانه وتعالى أن جَعَل لكلِّ واحدٍ من هذه الأخلاط مَصرِفًا ينصبُّ إليه ويجتمعُ فيه، ولا ينبعثُ إلى الأعضاء الشريفة إلا أكملُه؛ فوضع المَرارةَ مَصَبًّا للمِرَّة الصَّفراء، ووضع الطِّحالَ مقرًّا للمِرَّة السَّوداء، والكبدُ تمتصُّ أشرفَ ما في ذلك، وهو الدَّم، ثمَّ تبعثُه إلى جميع البدن من عِرقٍ واحدٍ ينقسمُ على مجارٍ كثيرة، يوصِلُ إلى كلِّ واحدٍ من الشُّعور والأعصاب والعظام والعروق ما يكونُ به قِوامُه. ثمَّ إذا نظرتَ إلى ما فيه من القُوى الباطنة والظَّاهرة المختلفة في أنفسها ومنافعها، رأيتَ العجبَ العُجاب؛ كقوَّة سمعه وبصره، وشمِّه وذوقه ولمسه، وحبِّه وبغضه، ورضاه وغضبه، وغير ذلك من القُوى المتعلقة بالإدراك والإرادة، وكذلك القُوى المتصرِّفة في غذائه؛ كالقوَّة المُنْضِجة له، وكالقوَّة الماسِكة له، والدَّافعة له إلى الأعضاء، والقوَّة الهاضمة له بعد أخذِ الأعضاء حاجتها منه، إلى غير ذلك من عجائب خِلقته الظَّاهرة والباطنة, فتبارك الله أحسن الخالقين. انظر: «مفتاح دار السعادة لابن القيم» (2/ 538-560).
الأثر المترتب على الإيمان بالاسم من آثار الإيمان باسم الله الخلاق على العبد أن يؤمن بحكمة الله سبحانه من هذا الخلق، فالله تعالى لم يخلق الخلق عبثا- تعالى عن ذلك وتقدس-، يقول تعالى: ﴿أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون, فتعالى الله الملك الحق لا إله إلا هو رب العرش الكريم﴾ [المؤمنون: 115] بل إنه سبحانه خلق الخلق لحكمة جليلة وغاية عظيمة، ألا وهي معرفة الله سبحانه بآياته ومخلوقاته، ثم القيام بعبادته على الوجه الذي أمرنا به. قال الله تعالى:﴿وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون﴾ [الذاريات: 56]. انظر: «موسوعة شرح أسماء الله الحسنى» (1/ 322-323). ومن آثار الإيمان بهذا الاسم تأمل العبد في نفسه, وما أودع الله فيه من الصفات, وكيف ركبها على أتم أوجه الاتقان, ليوجب له ذلك حمد الله تعالى. يقول الله تعالى: ﴿‌وَفِيٓ ‌أَنفُسِكُمۡۚ أَفَلَا تُبۡصِرُونَ ﴾ [الذاريات: 21]. يقول ابن القيم رحمه الله: «لما كان أقرب الأشياء إلى الإنسان نفسه، دعاه خالقه وبارئه ومصوره وفاطره من قطرة ماء إلى التبصر والتفكر في نفسه، فإذا تفكر الانسان في نفسه، استنارت له آيات الربوبية، وسطعت له أنوار اليقين، واضمحلت عنه غمرات الشك والريب، وانقشعت عنه ظلمات الجهل، فإنه إذا نظر في نفسه وجد آثار التدبير فيه قائمات، وأدلة التوحيد على ربه ناطقات شاهدة لمدبره، دالة عليه مرشدة إليه». «التبيان في أقسام القرآن» (ص 304). ومن آثار الإيمان باسم الله الخلاق إفراده بالعبادة وعدم الاشراك به, قال تعالى: ﴿‌وَلَئِن ‌سَأَلۡتَهُم مَّنۡ خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ لَيَقُولُنَّ ٱللَّهُۚ﴾ [لقمان: 25], فإذا كان هو وحده الخالق فكيف لا يكون وحده المعبود وكيف يجعلون معه شريكا في العبادة وأنتم مقرون بأنه لا شريك له في الخلق, وهذه طريقة القرآن يستدل بتوحيد الربوبية على توحيد الإلهية. انظر: «بدائع الفوائد لابن القيم» (4/ 132). بل بين الله سبحانه عجز وضعف آلهة المشركين وأنهم لن يقدروا على خلق شيء وإن تناهى في الصغر, وأنه سبحانه اختص بالخلق دونهم, وأن علة شركهم أنهم ما قدروا الله حق قدره وعظمته وإجلاله. قال تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٞ فَٱسۡتَمِعُواْ لَهُۥٓۚ إِنَّ ٱلَّذِينَ تَدۡعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ لَن يَخۡلُقُواْ ‌ذُبَابٗا وَلَوِ ٱجۡتَمَعُواْ لَهُۥۖ وَإِن يَسۡلُبۡهُمُ ٱلذُّبَابُ شَيۡـٔٗا لَّا يَسۡتَنقِذُوهُ مِنۡهُۚ ضَعُفَ ٱلطَّالِبُ وَٱلۡمَطۡلُوبُ (٧٣) مَا قَدَرُواْ ٱللَّهَ حَقَّ قَدۡرِهِۦٓۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ [الحج: 73-74]. ومن آثار الإيمان باسم الله الخلاق أن لا يتعدى العبد حده, وينازع الخالق في صفته, بأن يسعى محاولا أن يكون مشارك له في خلقه, فقد جاء الوعيد في المصورين الذين يضاهئون الله في خلقه, فيقال لهم أحيوا ما خلقتم, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أصحاب هذه الصور يوم القيامة يعذبون، فيقال لهم: أحيو ‌ما ‌خلقتم» متفق عليه, وقال صلى الله عليه وسلم يقول: قال الله عز وجل: «ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي، ‌فليخلقوا ذرة أو ليخلقوا حبة أو شعيرة» متفق عليه. قال الشيخ محمد الخضر حسين رحمه الله: «ومن المناهج التي تسلكها الشريعة الحكيمة لظهور الرشد على الغي: أن تجيء إلى ما شأنه أن يكون وسيلة إلى ضلالة، ولا منفعة فيه البتة، أو تكون منفعته أقل من إثم ما يتوسل به إليه من ضلال، فتمنع من إتيانه، وهذه الطريقة تقتضي النهي عن التصوير الذي هو أحد الوسائل إلى عبادة غير الواحد الخلاق، وقد قرر بعض العلماء للمنع من التصوير هذه العلة، وهي كونه ذريعة للغلو في تعظيم غير الله. قال القاضي أبو بكر بن العربي: «والذي أوجب النهي عن التصوير في شرعنا- والله أعلم-: ما كانت العرب عليه من عبادة الأوثان والأصنام، فكانوا يصورون ويعبدون، فقطع الله الذريعة، وحمى الباب». وإذا قيل: إن علة المنع من التصوير - فيما يظهر في الأحاديث - هي التشبه بخلق الله، يؤخذ هذا من قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إن أشد الناس عذاباً يوم القيامة الذين يضاهون بخلق الله"، فقد نبه على أن علة عذابهم الأشد: تشبههم بخلق الله إلى صنعهم شيئاً يتشبهون فيه بالخالق، ودل على هذا الوجه أيضاً حديث: "ويقال لهم: أحيوا ما خلقتم"، فقوله: "أحيوا ما خلقتم" مشعر بأن علة الإنكار هي التشبه بالخالقإذا قيل هذا، قلنا: هذه العلة المشار إليها في الحديث لا تمنع من أن يكون للمنع من التصوير علتان: إحداهما تجعله مفسدة في نفسه، وهي التشبه بمبدع الخليقة، والأخرى كونه وسيلة إلى ما فيه أكبر مفسدة؛ أعني: الغلو في تعظيم غير الله».«موسوعة الأعمال الكاملة للإمام محمد الخضر حسين» (4/ 1/ 211). ومن آثار الإيمان باسم الله الخلاق تعظيمه وإجلاله, فإن التأمل والتفكر في هذه المخلوقات العظيمة الكبيرة, وما فيها من التنوع والإتقان والإحكام يوجب في قلب العبد تعظيم خالقها وموبدعها سبحانه, ﴿‌لَخَلۡقُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ أَكۡبَرُ مِنۡ خَلۡقِ ٱلنَّاسِ وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يَعۡلَمُونَ﴾ [غافر: 57]. ومن آثار الإيمان باسم الله الخلاق أن يعتقد العبد الله سبحانه اختص بصفة الخلق والابداع, وأنه مهما حاول علماء الأحياء أن يخلقوا لو خلية واحدة ما استطاعوا, وعلى فرض تقدمهم في العلوم والوصول إلى صنع أشياء شبيهة في ظاهرها بالخلق الحقيقي, فهم عاجزون أن يخلقوا فيه الشعور والأحاسيس الحب والرغبة والرحمة والبغض والغضب, ناهيك عن التوالد والتكاثر. قال الله تعالى: ﴿‌هَٰذَا ‌خَلۡقُ ‌ٱللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ ٱلَّذِينَ مِن دُونِهِۦۚ﴾ [لقمان: 11].
Loading...