أحسن الخالقين

أحسن الخالقين

الاسم أحسن الخالقين
نوع الاسم الأسماء المضافة
معلومات إضافية عن الاسم مما قيل من المواقف التي صاحبت نزول قوله تعالى: (ثُمَّ أَنشَأۡنَٰهُ خَلۡقًا ءَاخَرَۚ فَتَبَارَكَ ٱللَّهُ أَحۡسَنُ ‌ٱلۡخَٰلِقِينَ) [المؤمنون: 14].والتي تضمنت اسم الله (أحسن الخالقين). أن عبد الله بن سعد بن أبي سرح كان قد تكلم بالإسلام، فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم يكتب له شيئا، فلما نزلت الآية التي في المؤمنون: {ولقد خلقنا الإنسان من سلالة} أملاها عليه، فلما انتهى إلى قوله: {ثم أنشأناه خلقا آخر} عجب عبد الله في تفصيل خلق الإنسان، فقال: تبارك الله أحسن الخالقين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هكذا أنزلت علي»، فشك عبد الله حينئذ وقال: لئن كان محمد صادقا لقد أوحي إلي كما أوحي إليه، ولئن كان كذابا لقد قلت كما قال, فارتد عن الإسلام فأنزل الله فيه قوله:{ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله}. «أسباب النزول للواحدي» (ص220), «الهداية الى بلوغ النهاية لمكي ابن أبي طالب» (3/ 2105), و«تفسير القرطبي» (7/ 40). فلما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة فرّ إلى عثمان وكان أخاه من الرضاعة فغيبه عنده، حتى إذا اطمأن أهل مكة أتى به عثمان رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستأمن له». انظر: «أسباب النزول للواحدي» (ص313). وخرّج أبو داود الطيالسي في مسنده عن انس بن مالك رضي الله عنه، قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه وافقت ربي في أربع، قلت: يا رسول الله لو صلينا خلف المقام، فأنزل الله تعالى: {واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى} وقلت: يا رسول الله لو اتخذت على نسائك حجابا فإنه يدخل عليك البر والفاجر، فأنزل الله تعالى: {وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب} وقلت لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم لتنتهن أو ليبدله الله سبحانه أزواجا خيرا منكن، فأنزل الله تعالى: {عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن} الآية، ونزلت: {ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين} إلى قوله تعالى: {ثم أنشأناه خلقا آخر} فقلت: فتبارك الله ‌أحسن ‌الخالقين فنزلت: {فتبارك الله ‌أحسن ‌الخالقين}»- وفي إسناده أبو عبدالله علي بن زيد بن جدعان البصري, ضعفه النووي في تهذيب الأسماء واللغات (2/152), وقال عنه الذهبي في الكاشف (٣/ ٤٤٥): «أحد الحفاظ، وليس بالثبت», وانظر: تهذيب تهذيب الكمال له (6/457). والحديث أصله في الصحيحين من حديث أنس عن عمر دون {فتبارك الله أحسن الخالقين} [المؤمنون: 14] عند البخاري برقم (402) كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في القبلة ومن لم ير الإعادة، ومسلم (2399) كتاب: فضائل الصحابة، باب: فضائل عمر. وأما إعراب لفظة (أحسنُ) في قوله تعالى:{فتبارك اللهُ أحسنُ الخالقين} [المؤمنون: 14]= فهي على صيغة التفضيل, وقد اختلف النحويون: في إضافتها إلى معرفة، هل إضافتها إضافة محضة، أو لفظية غير محضة, على قولين: الأول: من قال أنها محضة أعرب (أحسنُ) نعتا للفظ الجلالة (الله), ورُدَّ هذا. بحجة أن (أحسن) نكرة وإن أضيف ; والإضافة في تقدير الانفصال, لأن المضاف إليه عوض عن «من». فقولك:زيد أفضل القوم. التقدير: أفضل من القوم. فإضافته غير محضة، لا يتعرف بها. الثاني: من قال أنها غير محضة, اختلفوا في إعرابها على قولين: الأول: أنها بدل من لفظ الجلالة (الله). الثاني: أنها خبر لمبتدأ محذوف تقديره (هو أحسن). انظر: «إعراب القرآن للباقولي» (1/ 164), و«الكتاب الفريد في إعراب القرآن المجيد المنتجب الهمذاني » (4/ 587), و«التبيان في إعراب القرآن لأبي البقاء العكبري» (2/ 951), و«أضواء البيان للشنقيطي» (5/ 854).
الأدلة على الاسم من القرآن
  1. قال تعالى: (ثُمَّ أَنشَأۡنَٰهُ خَلۡقًا ءَاخَرَۚ فَتَبَارَكَ ٱللَّهُ أَحۡسَنُ ‌ٱلۡخَٰالِقِينَ) [المؤمنون: 14].
  2. قال تعالى: (أَتَدۡعُونَ بَعۡلٗا وَتَذَرُونَ أَحۡسَنَ ‌ٱلۡخَٰالِقِينَ) [الصافات: 125].
الأدلة على الاسم من السنة
  1. عَنْ ‌عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ « كَانَ إِذَا قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ قَالَ: ...وَإِذَا سَجَدَ قَالَ: اللَّهُمَّ لَكَ سَجَدْتُ وَبِكَ آمَنْتُ وَلَكَ أَسْلَمْتُ. سَجَدَ وَجْهِي لِلَّذِي خَلَقَهُ وَصَوَّرَهُ وَشَقَّ سَمْعَهُ وَبَصَرَهُ، تَبَارَكَ اللهُ ‌أَحْسَنُ ‌الْخَالِقِينَ...»رواه مسلم.
  2. عن عبدِ اللهِ بن عَمرو بنِ العاص، أنَّه قال: إذا مكثَتِ النُّطْفَةُ في رَحِمِ المرأةِ أربعينَ ليلةً، جاءَها مَلَكٌ فاختَلجَها، ثم عَرَجَ بها إلى اللهِ -عَزَّ وجلَّ- فقال: اخْلُقْ يا أحسَنَ الخالقينَ، فيقضي اللهُ فيها بما يشاءُ من أمرِهِ..» رواه ابنِ وَهْبٍ في «كتاب القدر» برقم(45), والفِريابي في «القدر»برقم (146)، وابنُ بطة في «الإبانة» برقم(1418), واللالكائي في «شرح أصول الاعتقاد» برقم (1236) وفيه ابن لَهيعة وقد اختلط.
صيغة أخرى من الاسم
  1. الخلاق
  2. الخالق
سرد الأسماء ذات صلة
  1. البارئ:
    قال الله تعالى: ﴿هُوَ ٱللَّهُ ‌ٱلۡخَٰالِقُ ٱلۡبَارِئُ ٱلۡمُصَوِّرُۖ لَهُ ٱلۡأَسۡمَآءُ ٱلۡحُسۡنَىٰۚ﴾ [الحشر: 24] .
    عن أبي جحيفة رضي الله عنه قال: قلت لعلي: هل عندكم شيء من الوحي إلا ما في كتاب الله؟ قال: «والذي فلق الحبة، وبرأ النسمة، ما أعلمه إلا فهمًا يعطيه الله رجلاً في القرآن، وما في هذه الصحيفة». قلت: وما في الصحيفة؟ قال: «العقل وفكاك الأسير، وأن لا يقتل مسلم بكافر»رواه البخاري.
    المصور:
    قال تعالى: ﴿هُوَ ٱللَّهُ ‌ٱلۡخَٰالِقُ ٱلۡبَارِئُ ٱلۡمُصَوِّرُۖ لَهُ ٱلۡأَسۡمَآءُ ٱلۡحُسۡنَىٰۚ﴾ [الحشر: 24].
القائلون بثبوته
  1. ذكره ابن الوزير، والشَّرباصيِّ، وابن تيمية.
الصفة التي اشتق منها الاسم (المصدر) الخلق
نوع الصفة صفة اختيارية ذاتية فعلية لازمة لها تعلق بالمشيئة
معلومات إضافية عن الصفة اسم الله (أحسن الخالقين) يدل على صفة الخلق, وأنه سبحانه وتعالى أفضل من وصف بهذه الصفة على اعتبار معنى الخلق هو التقدير, وهي صفة ذاتية فعلية, قال ابن تيمية: «ما يقوم بذات الرب مع كونه بقدرته ومشيئته فهذا في الصفات الذاتية لقيامة بالذات وهو من الفعلية لتعلقه بالمشيئة والقدرة» «الصفدية» (٢/ ٨٩) فصفة الخلق لها اعتباران الأول: اعتبار بالنظر إلى أصلها فتكون صفة ذاتية؛ يعني ان الله لم يزل خلاقا يخلق. والاعتبار الثاني يكون لها اعتبار من جهة آحادها فتكون صفة فعلية. قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: «والخلق صفة من صفات الله عز وجل الفعلية من حيث آحادها وأنواعها. أما من حيث الأصل فهي صفة ذاتية؛ لأن الله تعالى لم يزل ولا يزال خلاقاً.... فالخلّاق والخالق يؤخذ منهما صفة الخلق بناء على القاعدة...: أن كل اسم من أسماء الله تعالى فهو متضمن لصفة...، فالخلق إذاً صفة ذاتية من حيث الأصل، وهي صفة فعلية من حيث النوع والآحاد، فالله تعالى يخلق ما يشاء بالنوع، ويخلق ما يشاء بالآحاد. فالإنسان مثلاً مخلوق بالنوع، وبالآحاد من حيث كل إنسان على حدة. فخلق الله للإنسان من حيث هو، يعتبر واحداً بالنوع، وخلق الله للإنسان باعتبار كل فرد يعتبر واحداً بالشخص، أي بالآحاد. أما من حيث الفعل لله عز وجل الذي هو صفة الخلق، فإن الله لم يزل ولا يزال خلاقاً، فهو من الصفات الذاتية».«شرح العقيدة السفارينية» (1/ 281). وهي من أظهر الصفات أثرا, فإن كل مخلوق في الوجود سوى الله تعالى هو أثر هذه الصفة. قال البخاري رحمه الله:«فالرب بصفاته وفعله وأمره وكلامه، وهو الخالق المكون، غير مخلوق، وما كان بفعله وأمره وتخليقه وتكوينه، فهو مفعول مخلوق مكون» الجامع الصحيح (9/134). وقال رحمه الله:«فالفعل إنما هو إحداث الشيء، والمفعول هو الحدث لقوله: {‌خلق السموات والأرض} فالسموات والأرض مفعوله، وكل شيء سوى الله بقضائه فهو مفعول، فتخليق السموات فعله لأنه لا يمكن أن تقوم سماء بنفسها من غير فعل الفاعل وإنما تنسب السماء إليه لحال فعله، ففعله من ربوبيته، حيث يقول: {كن فيكون} [البقرة: 117]» «خلق أفعال العباد» (ص113). وقال ابن القيم رحمه الله: «فإن المفعول يدل على قدرة الفاعل باللزوم العقلي، ويدل على فعله الذي وُجِد به بالتضمّن، فإذا سُلِبتْ دلالته التضمّنية كان سَلْب دلالته اللزومية أسهل، ودلالة المفعول على فاعله وفعله دلالة واحدة، وهي أظهر بكثير من دلالته على قدرته وإرادته»«شفاء العليل لابن القيم» (2/ 13). وصفة الخلق بمعنى إبداع الشيء من عدم على غير مثال سابق هي من خصائص الله تعالى لا يمكن لمخلوق أن يتصف بها. يقول الله تعالى: ﴿أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ﴾ [النحل/ 17]. قال الأزهري رحمه الله:«ومن صفات الله: ‌الخالق والخلاق، ولا تجوز هذه الصفة بالألف واللام لغير الله جل وعز».«تهذيب اللغة» (7/ 16), وانظر: «لسان العرب لابن منظور» (10/ 85). أما الخلق الذي يكون بمعنى تحويله الشيء من هيئة إلى أخرى فقد أقدر الله تعالى بعض خلقه عليه، كعيسى عليه السلام حيث قال:﴿وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي﴾ [المائدة/ 110].
الأدلة على ثبوت الصفة من القرآن
  1. قال تعالى: (‌يَخۡلُقُكُمۡ فِي بُطُونِ أُمَّهَٰتِكُمۡ خَلۡقٗا مِّنۢ بَعۡدِ خَلۡقٖ فِي ظُلُمَٰتٖ ثَلَٰثٖۚ ) [الزمر: 6].
  2. قال تعالى: (يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱعۡبُدُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِي ‌خَلَقَكُمۡ وَٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَتَّقُونَ) [البقرة: 21]
  3. قال تعالى: (وَٱتَّقُواْ ٱلَّذِي ‌خَلَقَكُمۡ وَٱلۡجِبِلَّةَ ٱلۡأَوَّلِينَ ) [الشعراء: 184]
  4. قال تعالى: (وَرَبُّكَ ‌يَخۡلُقُ مَا يَشَآءُ وَيَخۡتَارُۗ ) [القصص: 68]
الأدلة على ثبوت الصفة من السنة
  1. عن أبي هريرة رضي الله عنه ، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «قال الله عزوجل: ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي، فليخلقوا ذرة أو ليخلقوا حبة أو شعيرة» متفق عليه.
  2. عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: »خلق الله الخلق، فلما فرغ منه قامت الرحم، فأخذت بحقو الرحمن...« الحديث. رواه البخاري.
  3. عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال: «لما خلق الله الخلق كتب في كتابه وهو يكتب على نفسه وهو وضع عنده على العرش إن رحمتي تغلب غضبي» متفق عليه.
الحكم يخلق. قال ابن القيم رحمه الله:«من أسمائه ما يطلق عليه باعتبار الفعل؛ نحو الخالق ‌والرازق والمحيي والمميت، وهذا يدل على أنَّ أفعاله كلَّها خيراتٌ محضة لا شر فيها؛ لأنَّه لو فعل الشر لاشتق له منه اسم ولم تكن أسماؤه كلُّها حسنى»«بدائع الفوائد» (1/ 163).
الأدلة على الفعل من القرآن
  1. قال تعالى: (إِنَّ فِي ‌خَلۡقِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَٱخۡتِلَٰفِ ٱلَّيۡلِ وَٱلنَّهَارِ لَأٓيَٰتٖ لِّأُوْلِي ٱلۡأَلۡبَٰبِ) [آل عمران: 190]
  2. قال تعالى: (وَلَقَدۡ ‌خَلَقۡنَٰاكُمۡ ثُمَّ صَوَّرۡنَٰاكُمۡ ثُمَّ قُلۡنَا لِلۡمَلَٰٓئِكَةِ ٱسۡجُدُواْ لِأٓدَمَ فَسَجَدُوٓاْ إِلَّآ إِبۡلِيسَ لَمۡ يَكُن مِّنَ ٱلسَّٰجِدِينَ) [الأعراف: 11]
  3. قال تعالى: (أَلَا لَهُ ‌ٱلۡخَلۡقُ وَٱلۡأَمۡرُۗ تَبَارَكَ ٱللَّهُ رَبُّ ٱلۡعَٰلَمِينَ) [الأعراف: 54]
  4. قال تعالى: (وَلَقَدۡ ‌خَلَقۡنَا ٱلۡإِنسَٰنَ مِن صَلۡصَٰالٖ مِّنۡ حَمَإٖ مَّسۡنُونٖ) [الحجر: 26]
الأدلة على الفعل من السنة
  1. عن أبي هريرة رضي الله عنه ، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «قال الله عزوجل: ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي، فليخلقوا ذرة أو ليخلقوا حبة أو شعيرة» متفق عليه.
  2. عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: »خلق الله الخلق، فلما فرغ منه قامت الرحم، فأخذت بحقو الرحمن...« الحديث. رواه البخاري.
  3. عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال: «لما خلق الله الخلق كتب في كتابه وهو يكتب على نفسه وهو وضع عنده على العرش إن رحمتي تغلب غضبي» متفق عليه.
دلالات الاسم اسم الله (أحسن الخالقين) يدل على ذات الله تعالى وعلى صفة الخلق والخالقية بالمطابقة, ويدل على ذات الله وحدها أو صفة الخلق وحدها بالتضمن قال تعالى: ﴿‌أَفَمَن ‌يَخۡلُقُ كَمَن لَّا يَخۡلُقُۚ﴾ ]النحل: ١٧[. ويدل باللزوم على جميع الصفات الذاتية والفعلية, من الحياة والقيومية والسمع والبصر والعلم والكلام والإرادة والقوة والقدرة وغيرها, فإن الخالق لا يتم له الخلق إلا بوجود القدوة والقدرة على ذلك: قال تعالى:﴿وَٱلسَّمَآءَ بَنَيۡنَٰهَا ‌بِأَيۡيْدٖ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ﴾ [الذاريات: 47]. وكذلك ما يُرى من إتقانٍ وإحكامٍ في المخلوقات دال على صفة العلم, قال تعالى: ﴿ٱلَّذِي خَلَقَ سَبۡعَ سَمَٰوَٰتٖ طِبَاقٗاۖ مَّا تَرَىٰ فِي خَلۡقِ ٱلرَّحۡمَٰنِ مِن ‌تَفَٰوُتٖۖ﴾ [الملك: 3], وقال سبحانه: ﴿‌أَلَا ‌يَعۡلَمُ مَنۡ خَلَقَ﴾ [الملك: 14]. قال ابن القيم رحمه الله:« ولولا مجيئه على أكمل الوجوه وأحسنها ومطابقته للغايات المحمودة، والحِكَم المطلوبة؛ لكان كله متفاوتًا، أو كان عدم تفاوته أمرًا اتفاقيًا لا يُحمَد فاعله؛ لأنه لم يُرِده ولم يقصده، وإنما اتفق أن جاء كذلك»«شفاء العليل» (2/ 147). وتمييز هذه المخلوقات وتخصيصها عن بعضها دال على صفة الإرادة, يقول ابن تيمية رحمه لله:«العالم فيه تخصيصات كثيرة مثل تخصيص كل شيء بما له من القدر والصفات والحركات كطوله وقصره، وطعمه ولونه، وريحه وحياته، وقدرته وعلمه وسمعه وبصره، وسائر ما فيه مع العلم الضروري بأنه من الممكن أن يكون خلاف ذلك إذ ليس واجب الوجود بنفسه. ومعلوم أن الذات المجردة التي لا إرادة لها لا تخصص وإنما يكون ‌التخصيص بالإرادة، ولو قيل ‌التخصيص هو بأسباب معلومة كالأرض والأشجار تكون مختلفة فإذا سقيت بماء واحد اختلف ثمارها لاختلاف القوابل كما أن الشمس تختلف آثارها بحسب القوافل كما تبيض الثوب وتسود وجه القصار وتلين اليابس الذي لم ينضج بما تجذبه إليه من الرطوبة وتجفف الرطب الذي كمل نضجه لانقطاع الرطوبة عنه»«شرح العقيدة الأصفهانية» (ص62). ويدل كذلك على صفة الحكمة, فإن الله تعالى خلق الخلق لغاية وحكمة يريدها سبحانه, كما قال تعالى: ﴿وَمَا خَلَقۡتُ ٱلۡجِنَّ وَٱلۡإِنسَ ‌إِلَّا ‌لِيَعۡبُدُونِ﴾ [الذاريات: 56], وقال سبحانه: ﴿أَفَحَسِبۡتُمۡ أَنَّمَا خَلَقۡنَٰكُمۡ ‌عَبَثٗا وَأَنَّكُمۡ إِلَيۡنَا لَا تُرۡجَعُونَ, فَتَعَٰلَى ٱللَّهُ ٱلۡمَلِكُ ٱلۡحَقُّۖ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ ٱلۡعَرۡشِ ٱلۡكَرِيمِ﴾ [المؤمنون: 115-116]. انظر: قال ابن القيم رحمه الله «وقال: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ ‌أَحْسَنُ ‌الْخَالِقِينَ} [المؤمنون: 14]، فلا أحسن من تقديره وخلقه لوقوعه على الوجه الذي اقتضته حكمته ورحمته وعلمه»«شفاء العليل» (2/ 147).
شرح الاسم معنى اسم الله (أحسن الخالقين) لغة: أحسن الخالقين مركب إضافي دال على الاشتراك في الفعل والتفضيل, فلفظ (أحسن) من صيغ التفضيل, وهوحرف مُبالغة، وإنَّما يدخل ذلك فيما اختلفت صفته، وتَفَاضلت وتزايدت. انظر: «إبطال التأويلات لأبي يعلى الحنبلي» (ص667). و(الخالقين) جمع خالق, وهو اسم فاعل من خلق يخلق خلقا. والخلق في كلام العرب التقدير, قال أبو بكر الأنباري رحمه الله:«والخالق في كلام العرب المُقَدِّر؛ قال الله عز وجل: ﴿وتخلقون إفْكاً﴾، معناه، وتقدرون كذباً. وقال في موضع آخر: ﴿فتبارَك اللهُ أحسنُ الخالقين﴾، معناه: أحسن المقدرين تقديراً»«الزاهر في معاني كلمات الناس» (1/ 88). وقد نقل الأزهري رحمه الله عن الأنباري وجها ثانيا في معنى الخلق في كلام العرب بقوله: وقال أبو بكر بن الأنباري: الخلق في كلام العرب على ضربين، أحدهما: الإنشاء على مثال أبدعه، والآخر: التقدير. وهذا الوجه هو الذي اختاره الأزهري رحمه الله حيث قال: والخلق في كلام العرب: ابتداع الشيء على مثال لم يسبق إليه. «تهذيب اللغة» (7/ 16). وقد اختار هذا الوجه كذلك الزجاج وابن سيده رحمهما الله حيث قال الزجاج: «فالخلق في اسم الله تعالى هو ابتداء تقدير النشء, فالله تعالى خالقها ومنشئها وهو متممها ومدبرها»«تفسير أسماء الله الحسنى» (ص37). وقال ابن سيده رحمه الله: «وخَلَقَ الله الشَّيْء يَخلُقه خَلْقاً: أحدثه بعد أَن لم يكن. والخَلْقُ يكون الْمصدر، وَيكون الْمَفْعُول».«المحكم والمحيط الأعظم» (4/ 535). وأما الجوهري وابن فارس رحمهما الله فلم يذكرا إلا الوجه الأول وهو التقدير. قال الجوهري رحمه الله: «الخلق: التقدير، يقال: خلقت الأديم: إذا قدرته قبل القطع». «الصحاح» (4/ 156). وقال ابن فارس رحمه الله: «الخاء واللام والقاف أصلان؛ أحدهما: تقدير الشيء، والآخر: ملاسة الشيء، فأما الأول: فقولهم: خلقت الأديم للسقاء، إذا قدرته» «مقاييس اللغة» (2/ 213 - 214). وهذا المعنى الثاني هو الذي دل عليه اسم الله (أحسن الخالقين), لأنه متضمن معنى الاشتراك في الخلق والتفضيل, قال أبو يعلى الحنبلي رحمه الله: «ولفظة (أحسن) و(أرحم) على وزن أفعل، ولفظة أفعل تقتضي الاشتراك في الشيء، وقد شرك بينه وبين خلقه في هذه الصفات»«إبطال التأويلات» (ص94), وانظر:«كشف المعانى فى المتشابه من المثانى لابن جماعة» (ص266). وذهب بعضهم إلى«أن صيغة أفضل للتفضيل بصفتي الاشتراك غالبًا حيث لا مانع منه، وقد لا يقتضيه لمانع لقولهِ تبارك وتعالى: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ ‌أَحْسَنُ ‌الْخَالِقِينَ} فإنه لا يجوز حمله هنا على الاشتراك إجماعًا». انظر: «العدة في شرح العمدة في أحاديث الأحكام لابن العطار» (1/ 340), و«الإعلام بفوائد عمدة الأحكام لابن الملقن» (2/ 349), و«طرح التثريب للعراقي» (2/ 297). كما أنه مثبت لوجود خالقين غيره, قال ابن جريج رحمه الله: إنما جمع الخالقين لأن عيسى كان يخلق كما قال: }إني أخلق لكم من الطين{ ]آل عمران -49[ فأخبر الله عن نفسه بأنه ‌أحسن ‌الخالقين». انظر: «تفسير الطبري» (19/ 18-19), «تفسير البغوي» (5/ 412). وقال الراغب الأصفهاني رحمه لله: «إن قيل: قوله تعالى:}فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ{[المؤمنون/ 14] ، يدلّ على أنّه يصحّ أن يوصف غيره بالخلق؟ قيل: إنّ ذلك معناه: أحسن المقدّرين، أو يكون على تقدير ما كانوا يعتقدون ويزعمون أنّ غير الله يبدع، فكأنه قيل: فاحسب أنّ هاهنا مبدعين وموجدين، فالله أحسنهم إيجادا على ما يعتقدون، كما قال: }خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ{ [الرعد/ 16] ، }وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ{ [النساء/ 119]» «المفردات في غريب القرآن» (ص296-297). ولذلك اتفق أهل العلم على تفسيره بهذا المعنى دون ذكرٍ للمعنى الأول, لأن الأول مما يختص به الله تعالى. قال العمراني رحمه الله:«الخلق في اللغة ينقسم إلى: التقدير، وإلى الإنشاء والإبداع فالمراد بقوله: {أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} وبقوله: {تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ} التقدير، فكأنه أراد أحسن المقدرين، وكذلك عيسى عليه السلام قدر وصور من الطين كهيئة الخفاش الذي هو لحم يطير بغير ريش، ونفخ فيه الروح فكان طيراً بإذن الله كما أخبر سبحانه، والله سبحانه خالق المُقَدِّر وتقدير المُقَدِّر وإنما أضاف التقدير إليهم لأنه كسب لهم، وأما خلق الذي هو الإنشاء والإبداع فلا يوصف به غير الله، بل نفى الله ذلك عن غيره وأثبته لنفسه بقوله تعالى: {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ} وأكذب من ادعى أنه يخلق كخلقه فقال سبحانه: {أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ}، فمن قال: إن العباد يوصفون بإنشاء الخلق في أفعالهم وإبداعه، فقد أكذب الله في خبره، ولو كان كذلك لكان يطلق على الإنسان اسم الخالق كما يطلق ذلك على الله سبحانه كاشتراكهما في اسم الموجود والشيء، وفي اختصاص ذلك سبحانه بالله سبحانه دليل على أنه لا يوصف غيره بالإنشاء والإبداع».«الانتصار في الرد على المعتزلة القدرية الأشرار» (1/ 221-222). ‌وقال ابن جزي رحمه الله:«وفسر بعضهم (الخالقين) بالمقدّرين، فرارا من وصف المخلوق بأنه خالق، ولا يجب أن ينفي عن المخلوق أنه خالق بمعنى صانع كقوله: «وإذ تخلق من الطين» وإنما الذي يجب أن ينفي عنه معنى الاختراع، والإيجاد من العدم، فهذا هو الذي انفرد الله به»«التسهيل لعلوم التنزيل» (2/ 49). واستدلوا على ذلك المعنى بقول الشاعر: ولأنت تَفْري ما خلقتَ وبعـ … ـض القوم يخلق ثم لا يَفْري أي: لك قدرة تمضي وتنفذ بها ما قدّرته في نفسك، وغيرك يقدّر أشياء وهو عاجز عن إنفاذها وإمضائها, إما لقصوره في تصور تقديره أو لعجزه عن تمام مراده. وبهذا الاعتبار صحّ إطلاق خالق على العبد في قوله تعالى: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون: 14]، أي: أحسن المصوّرين والمقدّرين. والعرب تقول: قدّرت الأَدِيم وخلقته إذا قسته لتقطع منه مَزَادة أو قربة ونحوها. انظر: «شأن الدعاء للخطابي » (1/ 49), و«الجامع لأحكام القرآن للقرطبي» (18/ 48), و«شفاء العليل لابن القيم» (1/ 427-428), و«لباب التأويل للخازن» (3/ 269), وغيرها. معنى اسم الله (أحسن الخالقين) شرعا: لقد اختلفت عبارات أهل العلم في بيان معناه إلا أنها تصبّ في معانٍ متقاربة. فقال بعضهم: (أحسن الخالقين): أي الصانعين: قال مجاهد رحمه الله: «يصنعون ويصنع الله، والله خير الصانعين». انظر: «تفسير الطبري» (19/ 18-19), و«تفسير البغوي» (5/ 412). و«شفاء العليل لابن القيم» (1/ 427-428). وقد رجّح هذا التفسير ابن جرير الطبري رحمه الله ورأى أنه الأولى بالصواب؛ لأن العرب تسمي كل صانع خالقا. انظر: «التفسير» (19/ 19). وقال الأخفش رحمه الله: «لأن الخالقين هم الصانعون»«معانى القرآن» (2/ 454), وانظر: «تذكرة الأريب في تفسير الغريب» (ص249), و«زاد المسير لابن الجوزي» (3/ 258). وقال القرطبي رحمه الله: (‌أحسن ‌الخالقين) أتقن الصانعين. يقال لمن صنع شيئا خلقه».«الجامع لأحكام القرآن» (12/ 110), وقال رحمه الله في قوله تعالى:«}وتذرون ‌أحسنَ ‌الخالقين{ المعنى أحسن الصانعين، لأن الناس يصنعون ولا يخلقون»«الجامع لأحكام القرآن» (15/ 117), ومثله قال العز بن عبدالسلام رحمه الله, انظر: «تفسيره» (3/ 65). وقال القفطي رحمه الله: «{ فَتَبَارَكَ الله أحسن الْخَالِقِينَ} أَي المقدرين, وَلَيْسَ كل صانع إِذْ قدر فِي صَنعته تَقْديرا يَقع ذَلِك على وفْق تَقْدِيره وإرادته يتَبَيَّن لَك ذَلِك من تَقْدِير كل صانع فِي صَنعته وَإِنَّمَا يَأْتِي على وفْق تَقْدِير الله الْعَظِيم الْخَبِير وَهَذَا الْمَعْنى مَعْرُوف فِي اللُّغَة»«حز الغلاصم في إفحام المخاصم عند جريان النظر في أحكام القدر» (ص70).وانظر: «الهداية الى بلوغ النهاية لأبي طالب المكي» (7/ 4951). وقال بعضهم: (أحسن الخالقين): أي المقدرين. قال أبو بكر بن الأنباري رحمه الله: «{فتبارَك اللهُ ‌أحسنُ ‌الخالقين}، معناه: أحسن المقدرين تقديراً»«الزاهر في معاني كلمات الناس» (1/ 88), وانظر: «الأضداد له» (ص159). وقال ابن قتيبة رحمه الله: «وقَوْلُهُ: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} أي المُقَدِّرِيْنَ؛ لأنَّهُ أَنْشَأَ الإِنْسانَ أولًا، ثم قَدَّرَهُ نُطْفَةً، ثم عَلَقَةً، ثم مُضْغَةً، ثم أَنْشَأَهُ خَلْقًا آخَرَ، فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ المُقَدِّرِيْنَ».«المسائل والأجوبة» (ص401). وقال الخطابي رحمه الله: «فأما في نعوت الآدميين فمعنى الخلق: التقدير. كقوله جل وعز: }أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير{ [آل عمران/ 49]... ومن هذا قوله جل وعز: }فتبارك الله أحسن الخالقين{[المؤمنون/ 14]» «شأن الدعاء» (1/ 49). وقال التوربشتي رحمه الله: «{فتبارك الله ‌أحسن ‌الخالقين}، أي: المقدرين». «الميسر في شرح مصابيح السنة» (2/ 529). وانظر:«الغريبين في القرآن والحديث لأبي عبيدالهروي» (2/ 589), و«الهداية الى بلوغ النهاية لأبي طالب المكي» (7/ 4951). وقال بعضهم: (أحسن الخالقين): أي المصورين. قال مقاتل بن سليمان رحمه الله: «}فَتَبارَكَ اللَّهُ ‌أَحْسَنُ ‌الْخالِقِينَ{, يقول هو أحسن المصورين يعني من الذين خلقوا التماثيل وغيرها التي لا يتحرك منها شيء»«تفسير مقاتل بن سليمان» (3/ 153). وبعضهم جمع بين المعنيين السابقين: أي أحسن المصورين والمقدرين. قال أبو يعلى الحنبلي رحمه الله: «قوله تعالى: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ ‌أَحْسَنُ ‌الْخَالِقِينَ} [المؤمنون: 14]، والمراد به أحسن المصورين تصويرًا أو تقديرًا، وليس المراد به أحسن المحدثين إحداثًا وإيجادًا، لأنَّ الحدوث والوجود في كلِّ حادثٍ موجود على صفةٍ واحدةٍ غير مختلفة»«إبطال التأويلات» (ص667). وقال النووي رحمه الله:«قوله: }‌أحسن ‌الخالقين{ أي المقدرين والمصورين».«شرح مسلم» (6/ 60). قال الثعلبي رحمه الله: «}أَحْسَنُ ‌الْخالِقِينَ{ أي المصوّرين والمقدّرين»«الكشف والبيان عن تفسير القرآن» (7/ 42). وقال ابن القيم رحمه الله:«‌}أحسن ‌الخالقين{ أي المصورين والمقدرين, فإنه الخالق الحقيقي المنفرد بالإيجاد والإمداد, وغيره إنما يوجد صورا مموهة ليس فيها شيء من حقيقة الخلق مع أنه تعالى خالق كل صانع وصنعته والله خلقكم وما تعملون والله خالق كل شيء»«عون المعبود وحاشية» (2/ 330). وقال ابن رسلان رحمه الله: «(‌أَحْسَنُ ‌الخَالِقِين) أي: المصورين والمقدرين، والخلق في اللغة الفعل الذي يوجده فاعله مقدرًا له لا عن سهو وغفلة، والعبد قد يوجد منه ذلك؛ ولهذا استدل به على أن العباد يخلقون»«شرح سنن أبي داود» (4/ 397). قال الباقلاني رحمه الله: «(فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ), إنما يعني به - وهو أعلم - أحسنُ المصورين تصويراً وأحسنُ المقدِّرين تقديراً، لأن الخَلْق يكون بمعنى التصوير والتقدير»«الانتصار للقرآن للباقلاني» (2/ 728). وقال ابن أبي العز رحمه الله: «}فتبارك الله ‌أحسن ‌الخالقين} [المؤمنون: 14]، فمعنى الآية: أحسن المصورين المقدرين. والخلق يذكر ويراد به التقدير، وهو المراد هنا، بدليل قوله تعالى: {الله خالق كل شيء} [الرعد: 16]» «شرح الطحاوية» (2/ 643). وقال الخازن رحمه الله: «ولا يزال ‌أَحْسَنُ ‌الْخالِقِينَ أي المصورين والمقدرين». «لباب التأويل للخازن» (3/ 269). وقال ابن الجوزي رحمه الله: «المراد ها هنا، أن بني آدم قد يصوِّرون ويقدِّرون ويصنعون الشيء، فالله خير المصوِّرين والمقدِّرين».«زاد المسير» (3/ 258). وقال بعضهم: (أحسن الخالقين): أي المنشئين. قال الطاهر ابن عاشور رحمه الله: «بأنه ‌أحسن ‌الخالقين أي أحسن المنشئين إنشاء، لأنه أنشأ ما لا يستطيع غيره إنشاءه. ولما كانت دلالة خلق الإنسان على عظم القدرة أسبق إلى اعتبار المعتبر كان الثناء المعقب به ثناء على بديع قدرة الخالق»«التحرير والتنوير» (18/ 25). وزاد بعضهم معنى آخر وهو أن الخلق المراد به في الآية هو التركيب والتحويل: قال تقي الدين الدقيقي رحمه الله: «والخلق يكون إبداعا وَيكون تركيبا فَمن الْخلق الَّذِي مَعْنَاهُ الإبداع قَوْله تَعَالَى {هَل من خَالق غير الله, }وَمن الْخلق الَّذِي مَعْنَاهُ التَّرْكِيب قَوْله تَعَالَى {فَتَبَارَكَ الله ‌أحسن ‌الْخَالِقِينَ}»«اتفاق المباني وافتراق» (ص241). وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: «الخلق المضاف إلى غير الله ليس هو الخلق المضاف لله؛ لأن الخلق المضاف لله هو الإبداع، والخلق المضاف إلى غيره ما هو إلَّا تحويل وتغيير الشيء من شيء إلى شيء، ومن صورة إلى صورة مثله»«تفسير سورة آل عمران» (2/ 292). وانظر: «تفسير المائدة» (2/ 512). وذهب بعضهم إلى أن الله تعالى وصف عباده بالخلق على جهة المجاز والاتساع, فقال أبو الحسن الأشعري رحمه الله: «وإنما سمى غيره خالقاً في قوله: {اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} وإن كان خالقاً وحده على طريق الاتساع، كما يقال: عدل العمرين على طريق الاتساع، وإن كان عمر واحداً».«رسالة إلى أهل الثغر بباب الأبواب» (ص144), وانظر:«تأويلات أهل السنة لأبي منصور الماتريدي» (8/ 586). وقال بعضهم: إن المشركين صنعوا تماثيل ولا ينفخون فيها الروح فخلق الله آدم ونفخ فيه الروح، فهو أحسن الصانعين، إذ لا يطيق أحد نفخ الروح غيره» انظر: «الهداية الى بلوغ النهاية لأبي طالب المكي» (7/ 4951). قال يحيى بن سلام رحمه الله: «قَوْلُهُ: {أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون: 14] إِنَّ الْعِبَادَ قَدْ يَخْلُقُونَ، يُشَبِّهُونَ بِخَلْقِ اللَّهِ، وَلا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَنْفُخُوا فِيهِ الرُّوحَ».«تفسير يحيى بن سلام» (1/ 395), وانظر: «تفسير القرآن العزيز لابن أبي زمنين» (3/ 196). وقال بعضهم في قوله تعالى: } وتذرزن أحسنَ الخالقين{: أي أحسن من يقال له خالق. قال ابن جرير رحمه الله: «(وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ) يقول: وتَدعون عبادة أحسن مَن قيل له خالق»«تفسير الطبري» (21/ 96), وانظر: «تفسير العز بن عبد السلام» (3/ 65), و«الجامع لأحكام القرآن للقرطبي» (15/ 117). وقد اعترض بعضهم على التفسير (بالمقدرين) في مثل قوله تعالى: }وخلق كل شيء{، أي: قدر كل شيء فقدره تقديرًا. وهذا تكرار، وأجاب عن هذا السؤال بقوله: المعنى أنه أحدث كل شيء إحداثا مراعيا فيه التقدير والتسوية، فقدره وهيأه لما يصلح له. مثاله: أنه خلق الإِنسان على هذا الشكل المقدر المسوى، الذي تراه، فقدره للتكاليف والمصالح المنوطة به في بابي الدين والدنيا. وكذلك كل حيوان وجماد جاء به على الجبلة المستوية المقدرة بأمثلة الحكمة والتدبير، فقدره لأمر ما ومصلحة مطابقًا لما قدر له غير متجاف عنه، أو سمي إحداث الله خلقًا؛ لأنه لا يحدث شيئًا لحكمته إلَّا على وجه التقدير غير متفاوت. انظر «أضواء البيان للأمين الشنقيطي» (6/ 296). وخلاصة ما سبق أن «{‌أَحْسَنُ ‌الْخَالِقِينَ} {الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين ثم سواه ونفخ فيه من روحه وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون} فخلقه كله حسن، والإنسان من أحسن مخلوقاته، بل هو أحسنها على الإطلاق، كما قال تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} ولهذا كان خواصه أفضل المخلوقات وأكملها»«تفسير السعدي» (ص549).
المقتضى اللازم إن مقتضى اسم الله (أحسن الخالقين) يستلزم اتصافه سبحانه بجميع صفات الكمال الذاتية والفعلية, لأن خلقه للمخلوقات متضمن لكمال قدرته وإرادته وعلمه وحكمته وحياته, وأنه سبحانه الخالق حقيقة, وليس مجازا. قال ابن القيم رحمه الله: «أنه ليس في المعلومات أظهر من كون الله خالقا، ولهذا أقرت به جميع الأمم، مؤمنهم وكافرهم، ولظهور ذلك، وكون العلم به بديهيا فطريا، احتج الله به على من أشرك به في عبادته، فقال: {ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله} [العنكبوت: 61] في غير موضع من كتابه، فعلم أن كونه سبحانه خالقا من أظهر شيء عند العقول، فكيف يكون الخبر عنه بذلك مجازا، وهو أصل كل حقيقة، فجميع الحقائق تنتهي ‌إلى ‌خلقه وإيجاده، فهو الذي خلق وهو الذي علم، كما قال تعالى: {اقرأ باسم ربك الذي خلق - خلق الإنسان من علق - اقرأ وربك الأكرم - الذي علم بالقلم - علم الإنسان ما لم يعلم} [العلق: 1 - 5] فجميع الموجودات انتهت ‌إلى ‌خلقه وتعليمه، فكيف يكون كونه خالقا عالما مجازا؟ وإذا كان كونه خالقا عالما مجازا لم يبق له فعل حقيقة ولا اسم حقيقة، فصارت أفعاله كلها مجازات، وأسماؤه الحسنى كلها مجازات»«مختصر الصواعق المرسلة» (ص346). وفي دلالة الاشتراك المستفادة من اسم الله (أحسن الخالقين) لا يلزم منها أنهم يخلقون ويبدعون ابتداء على غير مثال سابق كما هو وصف الخالق سبحانه, بل قد «قام برهان العقل على ألا خالق غير الله وبطل قول من يقول: إن الطبائع خالقة العالم، وأن الأفلاك السبعة هى الفاعلة، وأن النور والظلمة خالقان، وقول من زعم أن العرش هو الخالق. وفسدت جميع هذه الأقوال لقيام الدليل على حدوث ذلك كله وافتقاره إلى محدث لاستحالة وجود محدث لا محدث له، كاستحالة وجود مضروب لا ضارب له، وكتاب الله شاهد بصحة هذا، وهو قوله تعالى: (هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ) [فاطر: 3] ، فنفى خالقًا سواه، وقال تعالى: (أَمْ جَعَلُوا لِلّهِ شُرَكَاء خَلَقُوا كَخَلْقِهِ) [الرعد: 16]»«شرح صحيح البخارى لابن بطال» (10/ 475). وقال ابن حزم رحمه الله: «وَقد علمنَا بضرورة الْعقل وَالنَّص أَنه لَيْسَ لله تَعَالَى شُرَكَاء وَأَنه لَا خَالق غَيره عز وَجل وَأَنه خَالق كل شَيْء فِي الْعَالم من عرض أَو جَوْهَر وَبِهَذَا خرج قَوْله تَعَالَى {‌أحسن ‌الْخَالِقِينَ} مَعَ قَوْله تَعَالَى {أَفَمَن يخلق كمن لَا يخلق} فَلَو أمكن أَن يكون فِي الْعَالم خَالق غير الله تَعَالَى يخلق شَيْئا لما أنكر ذَلِك عز وَجل إِذْ هُوَ عز وَجل لَا يُنكر وجود الموجودات وَإِنَّمَا يُنكر الْبَاطِل فصح ضَرُورَة لَا شكّ فِيهَا أَنه لَا خَالق غير الله تَعَالَى فَإذْ لَا شكّ فِي هَذَا فَلَيْسَ فِي قَول الله تَعَالَى {‌أحسن ‌الْخَالِقِينَ} إِثْبَات لِأَن فِي الْعَالم خَالِقًا غير الله تَعَالَى يخلق شَيْئا»«الفصل في الملل والأهواء والنحل» (3/ 37).
المقتضى المتعدي إن مقتضى اسم الله (أحسن الخالقين), يدل على اتقان خلق الإنسان, فسياق ختم تفاصيل خلق الإنسان بهذه الآية المتضمنة لهذا الاسم تدل على هذا, فعن ابن عباس قوله: (ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ ‌أَحْسَنُ ‌الْخَالِقِينَ) يقول: خرج من بطن أمه بعد ما خلق، فكان من بدء خلقه الآخر أن استهل، ثم كان من خلقه أن دُلّ على ثدي أمه، ثم كان من خلقه أن علم كيف يبسط رجليه إلى أن قعد، إلى أن حبا، إلى أن قام على رجليه، إلى أن مشى، إلى أن فطم، فعلم كيف يشرب ويأكل من الطعام، إلى أن بلغ الحلم، إلى أن بلغ أن يتقلب في البلاد. انظر:«تفسير الطبري» (19/ 18), كما أن من مقتضى اسم (أحسن الخالقين) تنبيه للعباد على أفعاله فينا, قال تعالى:«{وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} [الذاريات: 21]، وَبَيَّنَ لنا أنَّا ندخلُ بطونَ أمهاتِنا نُطَفَ ماءٍ؛ وَلِذَا قال: {يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ} [الزمر: 6] ينقلكم من طَوْرٍ إلى طَوْرٍ: {مَّا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا (13) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا} [نوح: 13-14] وهذا كُلُّهُ والواحدُ في ظلماتٍ ثلاث يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ} [الزمر: 6] ظلمةِ البطنِ، وظلمةِ الرَّحِمِ، وظلمةِ المشيمةِ، لم يَحْتَجْ خالقُ السماواتِ إلى أن يشقَّ البطنَ، ويشقَّ الرحمَ، ويزيلَ المشيمةَ التي على الولدِ، حتى يتمكنَ بصرُه، لا، بَصَرُهُ (جل وعلا) وعلمُه نافذٌ، يفعلُ هذه الأفعالَ الغريبةَ العجيبةَ، ولم تَمْنَعْهُ من ذلك الظلماتُ الثلاثُ، ثم قال: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَاّ هُو} ثم قال - وهو محلُّ الشاهدِ -: {فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} [الزمر: 6]. {فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} أين تُصْرَفُ عقولُكم، وتذهبُ عن فعلِ خالقِكم جل وعلا فيكم؟! ولذا قال (جل وعلا): {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الرعد: 16] وقد بَيَّنَ غرائبَ صنعِه وعجائبَه، أشارَ لِخَلْقِهِ للِإنسانِ كما كُنَّا نقولُ: {يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ} [الزمر:6] وهذا الخلقُ بعدَ الخلقِ، والطَّوْرُ بعدَ الطَّوْرِ، المذكورُ في قولِه: {وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا} [نوح:14]، بَيَّنَهُ (جل وعلا) في سورةِ (قد أفلح المؤمنون) قال: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِّنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون: 12 - 14] هذه أفعالُ اللَّهِ جل وعلا فِينَا الدالةُ على أنه الربُّ وحدَه، المعبودُ وحدَه (جل وعلا)؛ وَلِذَا قال: {وهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ} يعني: أَنَّ مَنْ فَعَلَ هذه الأفعالَ، وكانت قدرتُه بهذه المثابةِ من العظمةِ هو المعبودُ وحدَه جل وعلا»«العذب النمير من مجالس الشنقيطي في التفسير» (2/ 44-46), وانظر: «التوحيد لابن منده» (ص196). «فالإنسان إذا فكر في نفسه رآها مدبرة، وعلى أحوال شتى مصرفة، كان نطفة، ثم علقة، ثم مضغة، ثم لحما وعظما، فيعلم أنه لم ينقل نفسه من حال النقص إلى حال الكمال؛ لأنه لا يقدر أن يحدث لنفسه في الحال الأفضل التي هي كمال عقله وبلوغ أشده عضوا من الأعضاء، ولا يمكنه أن يزيد في جوارحه جارحة، فيدله ذلك على أنه في حال نقصه وأوان ضعفه عن فعل ذلك أعجز، وقد يرى نفسه شابا ثم كهلا ثم شيخا، وهو لم ينقل نفسه من حال الشباب والقوة إلى الشيخوخة والهرم، ولا اختاره لنفسه ولا في وسعه أن يزايل حال المشيب ويراجع قوة الشباب، فيعلم بذلك أنه ليس هو الذي فعل هذه الأفعال بنفسه، وأن له صانعا صنعه، وناقلا نقله من حال إلى حال، ولولا ذلك لم تتبدل أحواله بلا ناقل ولا مدبر، ثم يعلم أنه لا يتأتى الفعل المحكم المتقن ولا يوجد الأمر والنهي ممن لا حياة له، ولا علم، ولا قدرة، ولا إرادة، ولا سمع، ولا بصر، ولا كلام. فيستدل بذلك على أن صانعه حي عالم قادر مريد سميع بصير متكلم، ثم يعلم استغناء المصنوع بصانع واحد، وعلو بعضهم على بعض، وما يدخل من الفساد في الخلق أن لو كان معه آلهة، فيستدل بذلك على أنه إله واحد لا شريك له كما قال عز من قائل: {ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض سبحان الله عما يصفون عالم الغيب والشهادة فتعالى عما يشركون} [المؤمنون: 91] ، وقال: {لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا فسبحان الله رب العرش عما يصفون} [الأنبياء: 22] ، ثم يعلم أن صانع العالم لا يشبه شيئا من العالم؛ لأنه لو أشبه شيئا من المحدثات بجهة من الجهات لأشبهه في الحدوث من تلك الجهة، ومحال أن يكون القديم محدثا، أو يكون قديما من جهة حديثا من جهة»«الاعتقاد للبيهقي» (ص43), وانظر: «شأن الدعاء للخطابي» (1/ 52): ودلالة اسم الله أحسن (الخالقين) تقتضي وجود مخلوق مربوب وجد بعد أن لم يكن, وهذا من مشاهد ربوبيته سبحانه وتعالى, حيث يستدل به على خلقه, وهو أرفع الطرق في الاستدلال, قال المحاسبي رحمه الله: «فَأول مَا اراد الله تَعَالَى من الْعباد ان يعرفوه عَن الْوُجُوه الَّتِي تعرف اليهم مِنْهَا فَإِنَّهُ قد تعرف اليهم من خلقه لِلْخلقِ وتدبيره فِي الْخلق وَمن قدرته على الْخلق وتكفله بأرزاق الْخلق واماتته الْخلق واحيائه الْخلق أَلا لَهُ الْخلق والامر تبَارك الله ‌احسن ‌الْخَالِقِينَ»«آداب النفوس» (ص162). وقال ابن القيم رحمه الله: «إن اسْمه الْخَالِق يَقْتَضِي مخلوقا والبارئ يَقْتَضِي مبروا والمصوريقتضي مصورا وَلَا بُد».«مفتاح دار السعادة» (1/ 287). وأما الطريق الثاني وهو عكسه, أي الاستدلال بالمخلوق والأثر على الخالق المؤثر, وهو الكثير وهو دون الطريق الأول. يقول الإمام ابن القيم رحمه الله:«فمن طرق إثبات الصفات: دلالة الصنعة عليها؛ فإن المخلوق يدل على وجود خالقه، على حياته وعلى قدرته، وعلى علمه ومشيئته؛ فإن الفعل الاختياري يستلزم ذلك استلزاما ضروريا، وما فيه من الإتقان والإحكام ووقوعه على أكمل الوجوه يدل على حكمة فاعله وعنايته، وما فيه من الإحسان والنفع، ووصول المنافع العظيمة إلى المخلوق يدل على رحمة خالقه، وإحسانه وجوده، وما فيه من آثار الكمال يدل على أن خالقه أكمل منه، فمعطي الكمال أحق بالكمال».«مدارج السالكين» (3/ 330). ومن مقتضيات اسم الله (أحسن الخالقين) كثرة مخلوقاته وتنوعها, بما لا يمكن حصره. فقد خلق السموات الطباق, وجعلها سبعا, وزينها بالكواكب والنجوم, وأودع فيها من المنافع والمصالح للعباد ما سقضي مآربهم, ودحا الأرض بالنبات والأنهار والبحار, وأرسى فيها الجبال الشم الراسيات, قال تعالى: ﴿ٱلَّذِي خَلَقَ سَبۡعَ سَمَٰوَٰتٖ ‌طِبَاقٗاۖ مَّا تَرَىٰ فِي خَلۡقِ ٱلرَّحۡمَٰنِ مِن تَفَٰوُتٖۖ ﴾ [الملك: 3], وقال جل جلاله: ﴿ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ وَأَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءٗ فَأَخۡرَجَ بِهِۦ مِنَ ٱلثَّمَرَٰتِ رِزۡقٗا لَّكُمۡۖ وَسَخَّرَ لَكُمُ ٱلۡفُلۡكَ لِتَجۡرِيَ فِي ٱلۡبَحۡرِ بِأَمۡرِهِۦۖ وَسَخَّرَ لَكُمُ ‌ٱلۡأَنۡهَٰرَ (٣٢) وَسَخَّرَ لَكُمُ ٱلشَّمۡسَ وَٱلۡقَمَرَ دَآئِبَيۡنِۖ وَسَخَّرَ لَكُمُ ٱلَّيۡلَ وَٱلنَّهَارَ﴾ [إبراهيم: 32-33], وقال سبحانه وتعالى: ﴿ٱللَّهُ ٱلَّذِي رَفَعَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ بِغَيۡرِ عَمَدٖ تَرَوۡنَهَاۖ ثُمَّ ٱسۡتَوَىٰ عَلَى ٱلۡعَرۡشِۖ وَسَخَّرَ ٱلشَّمۡسَ وَٱلۡقَمَرَۖ كُلّٞ يَجۡرِي لِأَجَلٖ مُّسَمّٗىۚ يُدَبِّرُ ٱلۡأَمۡرَ يُفَصِّلُ ٱلۡأٓيَٰتِ لَعَلَّكُم بِلِقَآءِ رَبِّكُمۡ تُوقِنُونَ (٢) وَهُوَ ٱلَّذِي مَدَّ ٱلۡأَرۡضَ وَجَعَلَ فِيهَا ‌رَوَٰسِيَ وَأَنۡهَٰرٗاۖ وَمِن كُلِّ ٱلثَّمَرَٰتِ جَعَلَ فِيهَا زَوۡجَيۡنِ ٱثۡنَيۡنِۖ يُغۡشِي ٱلَّيۡلَ ٱلنَّهَارَۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَٰتٖ لِّقَوۡمٖ يَتَفَكَّرُونَ (٣) وَفِي ٱلۡأَرۡضِ قِطَعٞ مُّتَجَٰوِرَٰتٞ وَجَنَّٰتٞ مِّنۡ أَعۡنَٰبٖ وَزَرۡعٞ وَنَخِيلٞ صِنۡوَانٞ وَغَيۡرُ صِنۡوَانٖ يُسۡقَىٰ بِمَآءٖ وَٰحِدٖ وَنُفَضِّلُ بَعۡضَهَا عَلَىٰ بَعۡضٖ فِي ٱلۡأُكُلِۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَٰتٖ لِّقَوۡمٖ يَعۡقِلُونَ ﴾ [الرعد: 2-4], وقال سبحانه في تزيين السماء بالنجوم, ﴿فَقَضَىٰهُنَّ سَبۡعَ سَمَٰوَاتٖ فِي يَوۡمَيۡنِ وَأَوۡحَىٰ فِي كُلِّ سَمَآءٍ أَمۡرَهَاۚ وَزَيَّنَّا ٱلسَّمَآءَ ٱلدُّنۡيَا ‌بِمَصَٰبِيحَ وَحِفۡظٗاۚ ذَٰلِكَ تَقۡدِيرُ ٱلۡعَزِيزِ ٱلۡعَلِيمِ﴾ [فصلت: 12], وجعل الأرض ممهدة مذللة لمصالح العباد, وقال جلأ شأنه: ﴿هُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلۡأَرۡضَ ‌ذَلُولٗا فَٱمۡشُواْ فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُواْ مِن رِّزۡقِهِۦۖ﴾ [الملك: 15], وقال سبحانه: ﴿أَمَّن جَعَلَ ٱلۡأَرۡضَ قَرَارٗا وَجَعَلَ خِلَٰلَهَآ أَنۡهَٰرٗا وَجَعَلَ لَهَا ‌رَوَٰسِيَ وَجَعَلَ بَيۡنَ ٱلۡبَحۡرَيۡنِ حَاجِزًاۗ ﴾ [النمل: 61]. وإذا تأملت في مخلوقات الأرض في برها وجدت أنواعا كثيرة. منها ما له أرجل متفاوتة رجلين فأربع فأكثر, ومنها من تزحف على بطونها,قال تعالى: ﴿وَٱللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَآبَّةٖ مِّن مَّآءٖۖ فَمِنۡهُم مَّن يَمۡشِي عَلَىٰ بَطۡنِهِۦ وَمِنۡهُم مَّن يَمۡشِي عَلَىٰ رِجۡلَيۡنِ وَمِنۡهُم مَّن يَمۡشِي عَلَىٰٓ ‌أَرۡبَعٖۚ يَخۡلُقُ ٱللَّهُ مَا يَشَآءُۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ ﴾ [النور: 45]. إضافة إلى ما صغر ودقّ من الحشرات والخنافس وما لا نفس له سائلة, قد تنوعت مساكنها, واختلفت مطاعمها, قال تعالى: ﴿وَمِنۡ ءَايَٰتِهِۦ خَلۡقُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِن ‌دَآبَّةٖۚ ﴾ [الشورى: 29]. وإذا أَجَلْتَ بصرك في الهواء رأيت من أنواع الطير كثرة كاثرة, مختلفة الألوان, متباينة الأحجام, تقطع المسافات الشاسعة في الجو صافات, قال تعالى: ﴿أَوَلَمۡ يَرَوۡاْ إِلَى ٱلطَّيۡرِ فَوۡقَهُمۡ ‌صَٰٓفَّٰتٖ وَيَقۡبِضۡنَۚ مَا يُمۡسِكُهُنَّ إِلَّا ٱلرَّحۡمَٰنُۚ إِنَّهُۥ بِكُلِّ شَيۡءِۭ بَصِيرٌ ﴾ [الملك: 19]. وإذا غصت أعماق البحار والمحيطات تعجبت من خلق الله تعالى وتنوعه من أسماك وحيتان وثعابين مختلفة الألوان والأشكال والمطاعم, وما أودع فيه كذلك من اللؤلؤ والمرجان وغيرها, قال تعالى: ﴿وَهُوَ ٱلَّذِي سَخَّرَ ‌ٱلۡبَحۡرَ لِتَأۡكُلُواْ مِنۡهُ لَحۡمٗا طَرِيّٗا وَتَسۡتَخۡرِجُواْ مِنۡهُ حِلۡيَةٗ تَلۡبَسُونَهَاۖ ﴾ [النحل: 14]. يقول ابن القيم رحمه الله: «ومن آياته سبحانه: خلقُ الحيوان على اختلاف أصنافه وأجناسه وأشكاله ومنافعه وألوانه وعجائبه المودَعة فيه؛ فمنه الماشي على بطنه، ومنه الماشي على رجليه، ومنه الماشي على أربَع، ومنه ما جُعِل سلاحُه في رجليه ــ وهو ذو المخالب ــ، ومنه ما سلاحُه المناقير، كالنَّسر والرَّخَم والغُراب، ومنه ما سلاحُه الأسنان، ومنه ما سلاحُه الصَّياصي ــ وهي القُرون ــ يُدافِعُ بها عن نفسه من يرومُ أخذَه، ومنها ما أُعطِي قوَّةً يَدْفَعُ بها عن نفسه لم يحتَج إلى سلاح، كالأسد؛ فإنَّ سلاحَه قوَّتُه، ومنه ما سلاحُه في ذَرْقِه، وهو نوعٌ من الطَّير إذا دنا منه من يريدُ أخذَه ذَرَقَ عليه فأهلكَه» «مفتاح دار السعادة» (2/ 583). أما خَلْقُ الإنسان، فقد نَدَبَ الله سبحانه إلى التفكُّر فيه والنظر في غير موضعٍ من كتابه؛ كقوله تعالى: {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ} [الطارق: 5]، وقوله تعالى: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} [الذاريات: 21] وأقربُ شيءٍ إلى الإنسان نفْسُه، وفيه من العجائب الدَّالَّة على عظمة الله ما تنقضي الأعمارُ في الوقوف على بعضه؛ وهو غافلٌ عنه، مُعرِضٌ عن التفكُّر فيه، ولو فكَّر في نفسه لزجرهُ ما يعلمُ من عجائب خَلْقِها عن كُفْرِه؛ قال الله تعالى: {قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ } [عبس: 17 - 19] فانظر إلى النطفة, وهي قطرةٌ من ماءٍ مهينٍ ضعيفٍ مُسْتَقْذر، لو مرَّت بها ساعةٌ من الزمان فسَدت وأنتنَت، كيف استخرجها من بين الصُّلب والتَّرائب، مذلَّلةَ القِياد على ضيق طُرقِها واختلاف مجاريها، إلى أن ساقها إلى مستقرِّها ومَجْمَعِها.وكيف جمع سبحانه بين الذَّكر والأنثى، وكيف قدَّر اجتماع ذَينِك الماءين في موضعٍ واحدٍ جُعِلَ لهما قرارًا مكينًا، قَلَبَ تلك النطفةَ البيضاء المشرقة علقةً حمراءَ تَضرِبُ إلى سوادٍ، ثمَّ جعلها مضغةَ لحمٍ، ثمَّ جعلها عظامًا مجرَّدةً لا كسوةَ عليها. وانظر كيف قسَّم تلك الأجزاء المتساوية المتشابهة إلى الأعصاب والعظام والعُروق والأوتار واليابس والليِّن، وبَيْن ذلك، ثمَّ كيف رَبَط بعضها ببعضٍ. وكيف كساها لحمًا ركَّبه عليها، وجعله وعاءً لها وغشاءً وحافظًا، وجعلها حاملةً له مقيمةً له؛ فاللحمُ قائمٌ بها وهي محفوظةٌ به. وكيف صوَّرها فأحسنَ صُوَرها، وشقَّ لها السَّمعَ والبصرَ والفمَ والأنفَ وسائر المنافذ، ومَدَّ اليدين والرِّجلين وبسطهما، وقسَّم رؤوسَهما بالأصابع، ثمَّ قسَّم الأصابعَ بالأنامل، وركَّب الأعضاءَ الباطنة من القلب والمعدة والكبد والطِّحال والرِّئة والرَّحِم والمَثانة والأمعاء، كلُّ واحدٍ منها له قَدْرٌ يخصُّه ومنفعةٌ تخصُّه. ثمَّ انظر الحكمةَ البالغة في تركيب العظام قِوامًا للبدن وعِمادًا له. ولما كان الإنسانُ محتاجًا إلى الحركة بجُملة بدنه وببعض أعضائه للتَّردُّد في حاجته لم يجعَل عظامه عظمًا واحدًا، بل عظامًا متعدِّدة، وجعل بينها مفاصل حتى تتيسَّر بها الحركة، وكان قَدْرُ كلِّ واحدٍ منها وشكلُه على حسب الحركة المطلوبة منه. وكيف شَدَّ أسْرَ تلك المفاصل بأوتارٍ ورِباطاتٍ أنبتها من أحد طرفي العظم، وألصقَ العظمَ بالطَّرف الآخر, وتأمَّل كيفيَّة خَلْق الرَّأس، وكثرةَ ما فيه من العظام، وكيف ركَّبه سبحانه وتعالى على البدن، وجعله عاليًا عليه عُلُوَّ الراكب على مركوبه ولما كان عاليًا على البدن جَعَل فيه الحواسَّ الخمسَ وآلات الإدراك كلَّها من السَّمع والبصر والشَّمِّ والذَّوق واللَّمس. وجَعَل حاسَّة البصر في مُقَدَّمه؛ ليكون كالطَّليعة والحَرَس والكاشف للبدن, فحسَّن شكل العينين وهيأتهما ومقدارهما، ثمَّ جمَّلهما بالأجفان غطاءً لهما وسترًا وحفظًا وزينة؛ وفي أطراف تلك الأجفان الأهدابَ جمالًا وزينة، ثمَّ أودعهما ذلك النُّورَ الباصرَ الذي يَخْرقُ ما بين السماء والأرض. وشَقَّ له السَّمع، وخلق الأذنَ فجعلها مجوَّفةً كالصَّدفة؛ لتجمعَ الصَّوتَ فتؤدِّيه إلى الصِّماخ، وجَعَل فيها غُضونًا وتجاويفَ واعوجاجاتٍ تمسكُ الهواءَ والصَّوتَ الدَّاخل فتكسرُ حِدَّته ثم تؤدِّيه إلى الصِّماخ. وجَعَل ماء الأذن مرًّا في غاية المَرارة، فلا يجاوزُه الحيوانُ ولا يقطعُه داخلًا إلى باطن الأذن, وجَعَل ماء العَين مِلْحًا ليحفظها؛ فإنها شَحْمةٌ قابلةٌ للفساد، فكانت ملوحةُ مائها صيانةً لها وحفظًا، وجَعَل ماء الفم عَذبًا حُلوًا ليُدرِك به طُعومَ الأشياء على ما هي عليه. ونَصَب سبحانه قَصَبة الأنف في وسط الوجه، فأحسنَ شكلَه وهيئتَه ووضعَه، وفَتَح فيه المَنْخِرَين، وحَجَز بينهما بحاجز، وأودَع فيهما حاسَّة الشَّمِّ التي تُدْرَكُ بها أنواعُ الروائح الطيِّبة والخبيثة والنافعة والضارَّة، وليستنشقَ به الهواءَ فيوصِلَه إلى القلب فيتَروَّح به ويتغذَّى به.وجعله سبحانه مَصَبًّا تنحدِرُ إليه فضلاتُ الدِّماغ فتجتمعُ فيه ثمَّ تخرجُ منه. وشقَّ سبحانه للعبد الفمَ في أحسن موضعٍ وأليقه به، وأودع فيه من المنافع وآلات الذَّوق والكلام وآلات الطَّحن والقَطع ما تبهرُ العقولَ عجائبُه؛ فأودَعه اللسانَ الذي هو أحدُ آياته الدَّالَّة عليه، وجعله ترجمانًا لمَلِك الأعضاء مُبِينًا مؤديًا عنه, مَصُونًا محفوظًا مستورًا، غير بارزٍ مكشوفٍ كالأذن والعين والأنف؛ لأنَّ تلك الأعضاء لما كانت تؤدِّي من الخارج إليه جُعِلَت بارزةً ظاهرة، ولما كان اللسانُ مؤديًا منه إلى الخارج جُعِل مستورًا مصونًا. ثمَّ زيَّن سبحانه الفمَ بما فيه من الأسنان التي هي جمالٌ له وزينة، وبها قِوامُ العبد وغذاؤه، وجَعَل بعضها أرْحاءَ للطَّحن، وبعضها آلةً للقَطع، فأحكم أصولَها، وحَدَّد رؤوسَها، وبيَّض لونها، ورتَّب صفوفَها، متساويةَ الرؤوس، متناسقةَ التَّرتيب، كأنها الدُّرُّ المنظومُ بياضًا وصفاءً وحُسْنًا. وأحاط سبحانه على ذلك كلِّه حائطَيْن، وهما الشَّفتان؛ فحَسَّن لونهما وشكلَهما ووضعَهما وهيأتهما، وجعلهما غطاءً للفم وطَبَقًا له، جَعَلهما لحمًا صِرفًا لا عَظمَ فيه ولا عَصَب؛ ليتمكَّن بهما من مَصِّ الشَّراب، ويَسْهُل عليه فتحُهما وطَبْقُهما. وخلق سبحانه الحناجرَ مختلفةَ الأشكال في الضِّيق والسَّعة، والخشونة والمَلاسة، والصَّلابة واللِّين، والطُّول والقِصَر؛ فاختلفَت بذلك الأصواتُ أعظمَ اختلاف. وزيَّن سبحانه الرأسَ بالشَّعر، وجَعَله لباسًا له؛ لاحتياجه إليه، وزيَّن الوجه بما أنبت فيه من الشُّعور المختلفة الأشكال والمقادير، فزيَّنه بالحاجبين، وجعلهما وقايةً لما ينحدر مِن بَشَرَة الرأس إلى العينين، وقَوَّسهما، وأحسنَ خطَّهما، وزيَّن أجفانَ العينين بالأهداب، وزيَّن الوجه أيضًا باللِّحية، وجعلها كمالًا ووقارًا ومهابةً للرَّجُل، وزيَّن الشفتين بما أنبت فوقهما من الشارب وتحتهما من العَنْفَقَة. وكذلك خَلْقُه سبحانه لليدين اللتين هما آلةُ العبد وسلاحُه ورأسُ ماله ومعاشُه، فطوَّلهما بحيث يَصِلان إلى ما شاء من بدنه، وعرَّض الكفَّ ليتمكَّن بها من القبض والبسط، وقسَّم فيه الأصابعَ الخمس، وقسَّم كلَّ إصبعٍ بثلاث أناملَ والإبهامَ باثنتين، ووضعَ الأصابعَ الأربعةَ في جانبٍ والإبهامَ في جانب؛ لتدور الإبهامُ على الجميع؛ فجاءت على أحسن وضعٍ صَلحت به للقبض والبسط ومباشرة الأعمال, وركَّبَ الأظفارَ على رؤوسها زينةً لها وعِمادًا ووقاية، ومباشرة وظائفها من الحك والالتقاط ونحوه. ثمَّ انظر كيف جَعَل الرَّقبة مَرْكبًا للرأس، وركَّبها على الظَّهر والصَّدر، ثم وصل عظامَ الظَّهر بعظام الصَّدر، وعظامَ الكتفين بعظام العَضُدَين، والعَضُدَين بالذِّراعين، والذِّراعين بالكفِّ والأصابع. ومن عجائب خَلقِه ما في الإنسان من الأمور الباطنة التي لا تشاهَد؛ كالقلب والكبد والطِّحال والرِّئة والأمعاء والمَثانة، وسائر ما في باطنه من الآلات العجيبة، والقُوى المتعدِّدة المختلفة المنافع. فأما القلبُ، فهو الملكُ المستعمِلُ لجميع آلات البدن، وهو أشرفُ أعضاء البدن، وبه قِوامُ الحياة، وهو منبعُ الرُّوح الحيوانيِّ والحرارة الغريزيَّة، وهو معدنُ العقل والعلم والحلم، والشجاعة والكرم والصَّبر والاحتمال، والحبِّ والإرادة، والرضا والغضب، وسائر صفات الكمال. فسائر الأعضاء خَدَمُه وجنودُه، وقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «ألا إنَّ في الجسد مُضغةً إذا صلَحت صلَح لها سائرُ الجسد، وإذا فسَدت فسَد لها سائرُ الجسد، ألا وهي القلب». وجُعِلَت الرئةُ له كالمِرْوَحة تُروِّحُ عليه دائمًا؛ لأنه أشدُّ الأعضاء حرارةً، بل هو منبعُ الحرارة. وإذا نظر العبدُ إلى غذائه فقط، في مَدْخَله ومستقرِّه ومخرجه، رأى فيه العِبَر والعجائب؛ كيف جُعِلَت له آلةٌ يتناولُه بها، ثم بابٌ يَدْخُل منه، ثمَّ آلةٌ تقطِّعُه صغارًا، ثمَّ طاحونٌ يطحنُه، ثمَّ أُعِينَ بماءٍ يعجنُه، ثمَّ جُعِل له مجرًى وطريقٌ إلى جانب مجرى النَّفَس، ينزلُ هذا ويصعدُ هذا، فلا يلتقيان مع غاية القُرب. ثمَّ جَعَل له حوايا وطرقًا تُوصِلُه إلى المعدة، فهي خِزانتُه وموضعُ اجتماعه، ولها بابان: بابٌ أعلى يدخلُ منه الطَّعام، وبابٌ أسفلُ يخرجُ منهُ ثُفْلُه. ويحيطُ بالمعدة مِن داخلها وخارجها حرارةٌ ناريَّة، ينضجُ بها الطعامُ فيها, ولذلك تذيبُ ما هو مستحجِرٌ كالحصى وغيره، حتى تتركه مائعًا، فإذا أذابتهُ علا صَفْوُه إلى فوق، ورَسَا كدرُه إلى أسفل. ولما كان الغذاءُ إذا استحال في المعدة استحال دمًا ومِرَّةً سوداءَ ومِرَّةً صفراءَ وبَلْغمًا، اقتضت حكمتُه سبحانه وتعالى أن جَعَل لكلِّ واحدٍ من هذه الأخلاط مَصرِفًا ينصبُّ إليه ويجتمعُ فيه، ولا ينبعثُ إلى الأعضاء الشريفة إلا أكملُه؛ فوضع المَرارةَ مَصَبًّا للمِرَّة الصَّفراء، ووضع الطِّحالَ مقرًّا للمِرَّة السَّوداء، والكبدُ تمتصُّ أشرفَ ما في ذلك، وهو الدَّم، ثمَّ تبعثُه إلى جميع البدن من عِرقٍ واحدٍ ينقسمُ على مجارٍ كثيرة، يوصِلُ إلى كلِّ واحدٍ من الشُّعور والأعصاب والعظام والعروق ما يكونُ به قِوامُه. ثمَّ إذا نظرتَ إلى ما فيه من القُوى الباطنة والظَّاهرة المختلفة في أنفسها ومنافعها، رأيتَ العجبَ العُجاب؛ كقوَّة سمعه وبصره، وشمِّه وذوقه ولمسه، وحبِّه وبغضه، ورضاه وغضبه، وغير ذلك من القُوى المتعلقة بالإدراك والإرادة، وكذلك القُوى المتصرِّفة في غذائه؛ كالقوَّة المُنْضِجة له، وكالقوَّة الماسِكة له، والدَّافعة له إلى الأعضاء، والقوَّة الهاضمة له بعد أخذِ الأعضاء حاجتها منه، إلى غير ذلك من عجائب خِلقته الظَّاهرة والباطنة, فتبارك الله أحسن الخالقين. انظر: «مفتاح دار السعادة لابن القيم» (2/ 538-560).
الأثر المترتب على الإيمان بالاسم من آثار الإيمان باسم الله أحسن الخالقين على العبد أن يؤمن بحكمة الله سبحانه من هذا الخلق، فالله تعالى لم يخلق الخلق عبثا- تعالى عن ذلك وتقدس-، يقول تعالى: ﴿أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون, فتعالى الله الملك الحق لا إله إلا هو رب العرش الكريم﴾ [المؤمنون: 115] بل إنه سبحانه خلق الخلق لحكمة جليلة وغاية عظيمة، ألا وهي معرفة الله سبحانه بآياته ومخلوقاته، ثم القيام بعبادته على الوجه الذي أمرنا به. قال الله تعالى:﴿وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون﴾ [الذاريات: 56]. انظر: «موسوعة شرح أسماء الله الحسنى» (1/ 322-323). ومن آثار الإيمان بهذا الاسم تأمل العبد في نفسه, وما أودع الله فيه من الصفات, وكيف ركبها على أتم أوجه الاتقان, ليوجب له ذلك حمد الله تعالى. يقول الله تعالى: ﴿‌وَفِيٓ ‌أَنفُسِكُمۡۚ أَفَلَا تُبۡصِرُونَ ﴾ [الذاريات: 21]. يقول ابن القيم رحمه الله: «لما كان أقرب الأشياء إلى الإنسان نفسه، دعاه خالقه وبارئه ومصوره وفاطره من قطرة ماء إلى التبصر والتفكر في نفسه، فإذا تفكر الانسان في نفسه، استنارت له آيات الربوبية، وسطعت له أنوار اليقين، واضمحلت عنه غمرات الشك والريب، وانقشعت عنه ظلمات الجهل، فإنه إذا نظر في نفسه وجد آثار التدبير فيه قائمات، وأدلة التوحيد على ربه ناطقات شاهدة لمدبره، دالة عليه مرشدة إليه». «التبيان في أقسام القرآن» (ص 304). ومن آثار الإيمان به إفراده بالعبادة وعدم الاشراك به, قال تعالى: ﴿‌وَلَئِن ‌سَأَلۡتَهُم مَّنۡ خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ لَيَقُولُنَّ ٱللَّهُۚ﴾ [لقمان: 25], فإذا كان هو وحده الخالق فكيف لا يكون وحده المعبود وكيف يجعلون معه شريكا في العبادة وأنتم مقرون بأنه لا شريك له في الخلق, وهذه طريقة القرآن يستدل بتوحيد الربوبية على توحيد الإلهية. انظر: «بدائع الفوائد لابن القيم» (4/ 132). بل بين الله سبحانه عجز وضعف آلهة المشركين وأنهم لن يقدروا على خلق شيء وإن تناهى في الصغر, وأنه سبحانه اختص بالخلق دونهم, وأن علة شركهم أنهم ما قدروا الله حق قدره وعظمته وإجلاله. قال تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٞ فَٱسۡتَمِعُواْ لَهُۥٓۚ إِنَّ ٱلَّذِينَ تَدۡعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ لَن يَخۡلُقُواْ ‌ذُبَابٗا وَلَوِ ٱجۡتَمَعُواْ لَهُۥۖ وَإِن يَسۡلُبۡهُمُ ٱلذُّبَابُ شَيۡـٔٗا لَّا يَسۡتَنقِذُوهُ مِنۡهُۚ ضَعُفَ ٱلطَّالِبُ وَٱلۡمَطۡلُوبُ (٧٣) مَا قَدَرُواْ ٱللَّهَ حَقَّ قَدۡرِهِۦٓۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ [الحج: 73-74]. ومن آثار الإيمان به كذلك أن لا يتعدى العبد حده, وينازع الخالق في صفته, بأن يسعى محاولا أن يكون مشارك له في خلقه, فقد جاء الوعيد في المصورين الذين يضاهئون الله في خلقه, فيقال لهم أحيوا ما خلقتم, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أصحاب هذه الصور يوم القيامة يعذبون، فيقال لهم: أحيو ‌ما ‌خلقتم» متفق عليه, وقال صلى الله عليه وسلم يقول: قال الله عز وجل: «ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي، ‌فليخلقوا ذرة أو ليخلقوا حبة أو شعيرة» متفق عليه. قال الشيخ محمد الخضر حسين رحمه الله: «ومن المناهج التي تسلكها الشريعة الحكيمة لظهور الرشد على الغي: أن تجيء إلى ما شأنه أن يكون وسيلة إلى ضلالة، ولا منفعة فيه البتة، أو تكون منفعته أقل من إثم ما يتوسل به إليه من ضلال، فتمنع من إتيانه، وهذه الطريقة تقتضي النهي عن التصوير الذي هو أحد الوسائل إلى عبادة غير الواحد الخلاق، وقد قرر بعض العلماء للمنع من التصوير هذه العلة، وهي كونه ذريعة للغلو في تعظيم غير الله. قال القاضي أبو بكر بن العربي: «والذي أوجب النهي عن التصوير في شرعنا- والله أعلم-: ما كانت العرب عليه من عبادة الأوثان والأصنام، فكانوا يصورون ويعبدون، فقطع الله الذريعة، وحمى الباب». وإذا قيل: إن علة المنع من التصوير - فيما يظهر في الأحاديث - هي التشبه بخلق الله، يؤخذ هذا من قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إن أشد الناس عذاباً يوم القيامة الذين يضاهون بخلق الله"، فقد نبه على أن علة عذابهم الأشد: تشبههم بخلق الله إلى صنعهم شيئاً يتشبهون فيه بالخالق، ودل على هذا الوجه أيضاً حديث: "ويقال لهم: أحيوا ما خلقتم"، فقوله: "أحيوا ما خلقتم" مشعر بأن علة الإنكار هي التشبه بالخالقإذا قيل هذا، قلنا: هذه العلة المشار إليها في الحديث لا تمنع من أن يكون للمنع من التصوير علتان: إحداهما تجعله مفسدة في نفسه، وهي التشبه بمبدع الخليقة، والأخرى كونه وسيلة إلى ما فيه أكبر مفسدة؛ أعني: الغلو في تعظيم غير الله».«موسوعة الأعمال الكاملة للإمام محمد الخضر حسين» (4/ 1/ 211). ومن آثار الإيمان به تعظيمه وإجلاله, فإن التأمل والتفكر في هذه المخلوقات العظيمة الكبيرة, وما فيها من التنوع والإتقان والإحكام يوجب في قلب العبد تعظيم خالقها وموبدعها سبحانه, ﴿‌لَخَلۡقُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ أَكۡبَرُ مِنۡ خَلۡقِ ٱلنَّاسِ وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يَعۡلَمُونَ﴾ [غافر: 57]. ومن آثار الإيمان باسم الله أحسن الخالقين أن يعتقد العبد الله سبحانه اختص بصفة الخلق والابداع, وأنه مهما حاول علماء الأحياء أن يخلقوا لو خلية واحدة ما استطاعوا, وعلى فرض تقدمهم في العلوم والوصول إلى صنع أشياء شبيهة في ظاهرها بالخلق الحقيقي, فهم عاجزون أن يخلقوا فيه الشعور والأحاسيس الحب والرغبة والرحمة والبغض والغضب, ناهيك عن التوالد والتكاثر. قال الله تعالى: ﴿‌هَٰذَا ‌خَلۡقُ ‌ٱللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ ٱلَّذِينَ مِن دُونِهِۦۚ﴾ [لقمان: 11]. ومن آثار الايمان باسم الله (أحسن الخالقين), أن العبد إذا رأى ما يعجبه من أخيه فليدع له بالبركة. قال ابن عبدالبر رحمه الله:«وفي قولِ رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم-: «(ألا برَّكْتَ؟) دليلٌ على أنَّ العينَ لا تَضُرُّ ولا تَعْدُو إذا برَّكَ العائِنُ، وأنَّها إنّما تَعْدُو إذا لم يُبَرِّك، فواجِبٌ على كلِّ مَن رأى شيئا أعجبه أن يبرك، فإنه إذا دعا بالبركة صرف المحذور لا محالة، والله أعلم. والتبريك: أن يقول: تبارك الله أحسن الخالقين، اللهم بارك فيه».«التمهيد» (4/ 218). ومن آثار الإيمان باسم الله (أحسن الخالقين) امتثال ما جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم في دعائه في الصلاة, في قوله حين يسجد: اللَّهُمَّ لَكَ سَجَدْتُ وَبِكَ آمَنْتُ وَلَكَ أَسْلَمْتُ. سَجَدَ وَجْهِي لِلَّذِي خَلَقَهُ وَصَوَّرَهُ وَشَقَّ سَمْعَهُ وَبَصَرَهُ، تَبَارَكَ اللهُ ‌أَحْسَنُ ‌الْخَالِقِينَ...» رواه مسلم.
Loading...