، وَالسُّنَّةُ فِي عِيدِ الْفِطْرِ التَّوْسِعَةُ فِيهِ عَلَى الْأَهْلِ بِأَيِّ شَيْءٍ كَانَ مِنْ الْمَأْكُولِ، إذْ لَمْ يَرِدْ الشَّرْعُ فِيهِ بِشَيْءٍ مَعْلُومٍ فَمَنْ وَسَّعَ عَلَى أَهْلِهِ فِيهِ، فَقَدْ امْتَثَلَ السُّنَّةَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَتَّخِذَ فِيهِ طَعَامًا مَعْلُومًا، إذْ هُوَ مِنْ الْمُبَاحِ لَكِنْ بِشَرْطِ عَدَمِ التَّكَلُّفِ فِيهِ وَبِشَرْطِ أَنْ لَا يَجْعَلَ ذَلِكَ سُنَّةً يُسْتَنُّ بِهَا فَمَنْ خَالَفَ ذَلِكَ فَكَأَنَّهُ ارْتَكَبَ كَبِيرَةً، وَإِذَا وَصَلَ الْأَمْرُ إلَى هَذَا الْحَدِّ فَفِعْلُ ذَلِكَ بِدْعَةٌ، إذْ أَنَّهُ بِسَبَبِ ذَلِكَ يُنْسَبُ إلَى السُّنَّةِ مَا لَيْسَ مِنْهَا، وَكَذَلِكَ يُشْتَرَطُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ عَلَى لِسَانِ الْعِلْمِ.
وَأَمَّا مَا يُفْعَلُ الْيَوْمَ مِنْ شِرَاءِ الْخُشْكِنَانِ فَذَلِكَ لَا يَجُوزُ عَلَى مَذْهَبِ الْإِمَامَيْنِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَيَجُوزُ ذَلِكَ فِي الْكَعْكِ الْمَحْشُوِّ بِالْعَجْوَةِ؛ لِأَنَّ مَا فِي بَاطِنِهِ تَبَعٌ لِظَاهِرِهِ بِخِلَافِ الْخُشْكِنَانِ وَالْبُسْنَدُودِ فَإِنَّ ظَاهِرَهُ تَبَعٌ لِبَاطِنِهِ فَعَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَجُوزُ شِرَاؤُهُ إلَّا أَنْ يَكْسِرَ كُلَّ وَاحِدَةٍ وَيَرَى جَمِيعَ مَا فِي بَاطِنِهَا.
وَعَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَجُوزُ بَيْعُهُ بِغَيْرِ كَسْرٍ بِشَرْطِ أَنْ يَكْسِرَ وَاحِدَةً وَيُعَايِنَ جَمِيعَ مَا فِي بَاطِنِهَا، ثُمَّ يَشْتَرِيَ الْبَاقِيَ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ، وَفِيهِ مِنْ الْبِدَعِ كَوْنُهُمْ يَبُخُّونَهُ بِمَاءِ الْوَرْدِ.
وَالْبِدْعَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُمْ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ وَهُمْ صِيَامٌ، وَحَالُ فَمِ الصَّائِمِ كَمَا قَدْ عُلِمَ، وَكَذَلِكَ فِعْلُهُمْ فِي بَخٍّ الْكَعْكِ بِالشَّيْرَجِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَهُمْ صِيَامٌ أَيْضًا، وَحَالُ فَمِ الصَّائِمِ كَمَا قَدْ عُلِمَ فَيُعَرِّضُ الصَّائِمُ نَفْسَهُ لِلْفِطْرِ وَيَصِيرُ ذَلِكَ مُسْتَقْذَرًا، وَكَثِيرٌ مِنْ الْيَهُودِ يَعْمَلُونَهُ وَيَبِيعُونَهُ لِلْمُسْلِمِينَ، وَلَا يُؤْتَمَنُونَ مِنْ أَنْ يَبُخُّونَهُ كَمَا يَفْعَلُ الْمُسْلِمُونَ، وَهَذَا لَا يَنْبَغِي لِوُجُوهٍ:
الْأَوَّلُ: أَنَّ سُؤْرَ الْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ مَكْرُوهٌ إنْ لَمْ يُعْلَمْ أَنَّ فِي أَفْوَاهِهِمْ نَجَاسَةً فِي وَقْتِ الْفِعْلِ لِذَلِكَ، أَوْ كَانَتْ قَبْلَهُ وَلَمْ يُطَهِّرْ فَمَهُ بَعْدَهَا، فَمَا أَصَابَهُ بِرِيقِهِ مُتَنَجِّسٌ.
الثَّانِي: أَنَّهُ مُسْتَقْذَرٌ إذَا كَانَ مِنْ مُسْلِمٍ فَكَيْفَ بِهِ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ.
الثَّالِثُ: أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلِاقْتِدَاءِ بِالسُّنَّةِ وَالسَّلَفِ، وَالْخَلَفِ لِمَا فِيهِ مِنْ عَدَمِ الِاحْتِرَازِ مِنْ الْمُسْتَقْذَرَاتِ، وَلَوْ كَانَ هَذَا الْمَأْكُولُ عَلَى سَبِيلِ السَّلَامَةِ مِمَّا ذُكِرَ لَكَانَ بَعِيدًا مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ، وَالطِّبِّ: أَمَّا الشَّرْعُ فَلِأَنَّهُ لَمْ يَرِدْ فِيهِ شَيْءٌ مُعَيَّنٌ.
وَأَمَّا الطِّبُّ فَإِنَّ الصَّوْمَ يُجَفِّفُ الرُّطُوبَاتِ غَالِبًا وَيَعْصِمُ، فَإِذَا خَرَجُوا مِنْ الصَّوْمِ أَفْطَرُوا عَلَى الْكَعْكِ الَّذِي يَزِيدُهُمْ جَفَافًا وَإِمْسَاكًا فَيَتَضَرَّرُ الْبَدَنُ بِذَلِكَ، فَقَدْ يَحْتَاجُونَ إلَى الْأَدْوِيَةِ، وَالْأَشْرِبَةِ، وَالْأَطِبَّاءِ وَكَانُوا فِي غِنًى عَنْ ذَلِكَ، ثُمَّ الْعَجَبُ مِنْ اسْتِعْمَالِهِمْ السَّمَكَ الْمَشْقُوقَ فِي هَذَا الْيَوْمِ الْفَاضِلِ الَّذِي يُعْتِقُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِيهِ مِنْ الرِّقَابِ بِقَدْرِ مَا أَعْتَقَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ كُلِّهِ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُبَادِرَ الْمَرْءُ فِي هَذَا الْيَوْمِ إلَى كَسْبِ الْحَسَنَاتِ، وَأَفْضَلُ ذَلِكَ كُلِّهِ اتِّقَاءُ الْمَحَارِمِ، وَقَدْ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ فَافْعَلُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَمَا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ فَلَا تَقْرَبُوا» .
فَاتَّخَذَ هَؤُلَاءِ فِطْرَهُمْ فِي هَذَا الْيَوْمِ الشَّرِيفِ عَلَى شَيْءٍ مُمَكَّسٍ، وَقَدْ نَهَى الشَّرْعُ عَنْهُ فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ وَاَلَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُعِدَّ الْإِنْسَانُ فِي هَذَا الْيَوْمِ لِإِفْطَارِهِ شَيْئًا حَلَالًا مِنْ جِهَةٍ يَرْضَاهَا الشَّرْعُ لَعَلَّهُ يَلْحَقُ بِالْقَوْمِ.
ثُمَّ اُنْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ إلَى هَذِهِ الْعَوَائِدِ الذَّمِيمَةِ فِي كَوْنِهِمْ يَتَّبِعُونَ الْأَشْيَاءَ الَّتِي لَهُمْ فِيهَا حَظُّ نَفْسٍ وَمُبَاهَاةٌ وَشَهْوَةٌ خَسِيسَةٌ فَانِيَةٌ يَحْرِصُونَ عَلَى ذَلِكَ جَمِيعًا مِنْ رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ وَوَلَدٍ وَعَبْدٍ قَبْلَ دُخُولِ وَقْتِهِ وَيَسْتَعِدُّونَ لِذَلِكَ عَلَى زَعْمِهِمْ، وَمَا هُوَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِمْ شَرْعًا، وَاَلَّذِي لَهُمْ فِيهِ الثَّوَابُ الْجَسِيمُ وَالْخَيْرُ الْعَمِيمُ يَتَسَاكَتُونَ عَنْهُ وَيُهْمِلُونَ أَمْرَهُ، وَلَمْ يُطَالِبْ بِهِ أَحَدٌ مِنْهُمْ أَحَدًا هَذَا الْغَالِبُ مِنْهُمْ، فَالْوَاجِبُ عَلَيْهِمْ هُوَ مَا شَرَعَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مِنْ وُجُوبِ الْفِطْرَةِ فِي يَوْمِ عِيدِ الْفِطْرِ عَنْ كُلِّ نَفْسٍ صَاعٌ مِنْ بُرٍّ، وَهُوَ الَّذِي يَتَعَيَّنُ الْيَوْمَ إخْرَاجُهُ عَلَى أَهْلِ مِصْرَ، إذْ أَنَّهُ قُوتُ جَمِيعِهِمْ فَفَعَلَ أَكْثَرُهُمْ فِي هَذَا الْيَوْمِ مِثْلَ مَا فَعَلَ بَعْضُهُمْ فِي يَوْمِ الْأُضْحِيَّةِ فِي كَوْنِهِمْ يَتْرُكُونَهَا لِعَدَمِ اهْتِمَامِهِمْ بِهَا وَيُنْفِقُونَ أَضْعَافَ ثَمَنِهَا، أَوْ مِثْلَهُ فَعَوَّضُوا مَكَانَ السُّنَنِ الْمَطْهَرَةِ عَوَائِدَهُمْ الرَّدِيئَةَ فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ
وَفِي لَيْلَتَيْ الْعِيدَيْنِ مِنْ الْبِدَعِ سَهَرُ بَعْضِ النَّاسِ فِيهِمَا، أَوْ فِي بَعْضِهِمَا لَا لِعِبَادَةٍ، بَلْ لِلشُّغْلِ بِزَخَارِفِ الدُّنْيَا وَمَا شَاكَلَهَا وَإِضَاعَةِ الْمَالِ بِصَقْلِ الْقُمَاشِ الَّذِي يُفْضِي إلَى تَقْطِيعِهِ وَتَرْكِ إحْيَاءِ اللَّيْلَتَيْنِ الشَّرِيفَتَيْنِ بِعِبَادَةِ الْمَوْلَى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْمَنْدُوبِ إلَى إحْيَائِهِمَا كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ مَشْهُورٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي عِيدِ الْأَضْحَى مَا فِيهِ مِنْ بَنَاتِ الْعِيدِ، وَزِيَارَةِ الْقُبُورِ، وَتَأْخِيرِ الرُّجُوعِ إلَى الْبُيُوتِ وَتَفْرِقَةِ اللَّحْمِ بِتِلْكَ الْمَقَاصِدِ الذَّمِيمَةِ، فَكُلُّ ذَلِكَ مَوْجُودٌ هُنَا، فَتَفْرِقَةُ الْكَعْكِ هَاهُنَا مُقَابِلَةٌ لِتَفْرِقَةِ اللَّحْمِ فِي الْأَضْحَى.
المدخل لابن الحاج،ص: 288ـ289.