(فَصَلِّ) فِي ذِكْر بَعْض مَوَاسِم أَهْل الْكتاب فَهَذَا بَعْضُ الْكَلَامِ عَلَى الْمَوَاسِمِ الَّتِي يَنْسُبُونَهَا إلَى الشَّرْعِ وَلَيْسَتْ مِنْهُ وَبَقِيَ الْكَلَامُ عَلَى الْمَوَاسِمِ الَّتِي اعْتَادَهَا أَكْثَرُهُمْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهَا مَوَاسِمُ مُخْتَصَّةٌ بِأَهْلِ الْكِتَابِ فَتَشَبَّهَ بَعْضُ أَهْلِ الْوَقْتِ بِهِمْ فِيهَا وَشَارَكُوهُمْ فِي تَعْظِيمِهَا يَا لَيْتَ ذَلِكَ لَوْ كَانَ فِي الْعَامَّةِ خُصُوصًا وَلَكِنَّك تَرَى بَعْضَ مَنْ يَنْتَسِبُ إلَى الْعِلْمِ يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي بَيْتِهِ وَيُعِينُهُمْ عَلَيْهِ وَيُعْجِبُهُ مِنْهُمْ وَيُدْخِلُ السُّرُورَ عَلَى مَنْ عِنْدَهُ فِي الْبَيْتِ مِنْ كَبِيرٍ وَصَغِيرٍ بِتَوْسِعَةِ النَّفَقَةِ وَالْكِسْوَةِ عَلَى زَعْمِهِ بَلْ زَادَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُمْ يُهَادُونَ بَعْضَ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي مَوَاسِمِهِمْ وَيُرْسِلُونَ إلَيْهِمْ مَا يَحْتَاجُونَهُ لِمَوَاسِمِهِمْ فَيَسْتَعِينُونَ بِذَلِكَ عَلَى زِيَادَةِ كُفْرِهِمْ وَيُرْسِلُ بَعْضُهُمْ الْخِرْفَانَ وَبَعْضُهُمْ الْبِطِّيخَ الْأَخْضَرَ وَبَعْضُهُمْ الْبَلَحَ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا يَكُونُ فِي وَقْتِهِمْ وَقَدْ يَجْمَعُ ذَلِكَ أَكْثَرُهُمْ، وَهَذَا كُلُّهُ مُخَالِفٌ لِلشَّرْعِ الشَّرِيفِ.
وَمِنْ الْعُتْبِيَّةِ قَالَ أَشْهَبُ قِيلَ لِمَالِكٍ أَتَرَى بَأْسًا أَنْ يُهْدِيَ الرَّجُلُ لِجَارِهِ النَّصْرَانِيِّ مُكَافَأَةً لَهُ عَلَى هَدِيَّةٍ أَهْدَاهَا إلَيْهِ قَالَ مَا يُعْجِبُنِي ذَلِكَ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} [الممتحنة: ١] الْآيَةَ قَالَ ابْنُ رُشْدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَوْلُهُ مُكَافَأَةً لَهُ عَلَى هَدِيَّةٍ أَهْدَاهَا إلَيْهِ إذْ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَقْبَلَ مِنْهُ هَدِيَّةً؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْهَدَايَا التَّوَدُّدُ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «تَهَادَوْا تَحَابُّوا وَتَذْهَبْ الشَّحْنَاءُ» ، فَإِنْ أَخْطَأَ وَقَبِلَ مِنْهُ هَدِيَّتَهُ وَفَاتَتْ عِنْدَهُ فَالْأَحْسَنُ أَنْ يُكَافِئَهُ عَلَيْهَا حَتَّى لَا يَكُونَ لَهُ عَلَيْهِ فَضْلٌ فِي مَعْرُوفٍ صَنَعَهُ مَعَهُ.
وَسُئِلَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَنْ مُؤَاكَلَةِ النَّصْرَانِيِّ فِي إنَاءٍ وَاحِدٍ قَالَ تَرْكُهُ أَحَبُّ إلَيَّ وَلَا يُصَادِقُ نَصْرَانِيًّا قَالَ ابْنُ رُشْدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْوَجْهُ فِي كَرَاهَةِ مُصَادَقَةِ النَّصْرَانِيِّ بَيِّنٌ؛ لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المجادلة: ٢٢] الْآيَةَ. فَوَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يُبْغِضَ فِي اللَّهِ مَنْ يَكْفُرُ بِهِ وَيَجْعَلُ مَعَهُ إلَهًا غَيْرَهُ وَيُكَذِّبُ رَسُولَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَمُؤَاكَلَتُهُ فِي إنَاءٍ وَاحِدٍ تَقْتَضِي الْأُلْفَةَ بَيْنَهُمَا وَالْمَوَدَّةَ فَهِيَ تُكْرَهُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَإِنْ عَلِمْت طَهَارَةَ يَدِهِ. وَمِنْ مُخْتَصَرِ الْوَاضِحَةِ سُئِلَ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ الرُّكُوبِ فِي السُّفُنِ الَّتِي يَرْكَبُ فِيهَا النَّصَارَى لِأَعْيَادِهِمْ فَكَرِهَ ذَلِكَ مَخَافَةَ نُزُولِ السُّخْطِ عَلَيْهِمْ لِكُفْرِهِمْ الَّذِي اجْتَمَعُوا لَهُ. قَالَ وَكَرِهَ ابْنُ الْقَاسِمِ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يُهْدِيَ إلَى النَّصْرَانِيِّ فِي عِيدِهِ مُكَافَأَةً لَهُ. وَرَآهُ مِنْ تَعْظِيمِ عِيدِهِ وَعَوْنًا لَهُ عَلَى مَصْلَحَةِ كُفْرِهِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَحِلُّ لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يَبِيعُوا لِلنَّصَارَى شَيْئًا مِنْ مَصْلَحَةِ عِيدِهِمْ لَا لَحْمًا وَلَا إدَامًا وَلَا ثَوْبًا وَلَا يُعَارُونَ دَابَّةً وَلَا يُعَانُونَ، عَلَى شَيْءٍ مِنْ دِينِهِمْ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ التَّعْظِيمِ لِشِرْكِهِمْ وَعَوْنِهِمْ عَلَى كُفْرِهِمْ وَيَنْبَغِي لِلسَّلَاطِينِ أَنْ يَنْهَوْا الْمُسْلِمِينَ عَنْ ذَلِكَ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ لَمْ أَعْلَمْ أَحَدًا اخْتَلَفَ فِي ذَلِكَ انْتَهَى. وَيُمْنَعُ التَّشَبُّهُ بِهِمْ كَمَا تَقَدَّمَ لِمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ «مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ» وَمَعْنَى ذَلِكَ تَنْفِيرُ الْمُسْلِمِينَ عَنْ مُوَافَقَةِ الْكُفَّارِ فِي كُلِّ مَا اخْتَصُّوا بِهِ. وَقَدْ كَانَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - يَكْرَهُ مُوَافَقَةَ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي كُلِّ أَحْوَالِهِمْ حَتَّى قَالَتْ الْيَهُودُ إنَّ مُحَمَّدًا يُرِيدُ أَنْ لَا يَدَعَ مِنْ أَمْرِنَا شَيْئًا إلَّا خَالَفَنَا فِيهِ.
وَقَدْ جَمَعَ هَؤُلَاءِ بَيْنَ التَّشَبُّهِ بِهِمْ فِيمَا ذُكِرَ وَالْإِعَانَةِ لَهُمْ عَلَى كُفْرِهِمْ فَيَزْدَادُونَ بِهِ طُغْيَانًا إذْ أَنَّهُمْ إذَا رَأَوْا الْمُسْلِمِينَ يُوَافِقُونَهُمْ أَوْ يُسَاعِدُونَهُمْ، أَوْ هُمَا مَعًا كَانَ ذَلِكَ سَبَبًا لِغِبْطَتِهِمْ بِدِينِهِمْ وَيَظُنُّونَ أَنَّهُمْ عَلَى حَقٍّ وَكَثُرَ هَذَا بَيْنَهُمْ. أَعْنِي الْمُهَادَاةَ حَتَّى إنَّ بَعْضَ أَهْلِ الْكِتَابِ لَيُهَادُونَ بِبَعْضِ مَا يَفْعَلُونَهُ فِي مَوَاسِمِهِمْ لِبَعْضِ مَنْ لَهُ رِيَاسَةٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَيَقْبَلُونَ ذَلِكَ مِنْهُمْ وَيَشْكُرُونَهُمْ وَيُكَافِئُونَهُمْ. وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْكِتَابِ يَغْتَبِطُونَ بِدِينِهِمْ وَيُسَرُّونَ عِنْدَ قَبُولِ الْمُسْلِمِ ذَلِكَ مِنْهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ أَهْلُ صُوَرٍ وَزَخَارِفَ فَيَظُنُّونَ أَنَّ أَرْبَابَ الرِّيَاسَةِ فِي الدُّنْيَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ هُمْ أَهْلُ الْعِلْمِ وَالْفَضْلِ وَالْمُشَارُ إلَيْهِمْ فِي الدِّينِ وَتَعَدَّى هَذَا السُّمُّ لِعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ فَسَرَى فِيهِمْ فَعَظَّمُوا مَوَاسِمَ أَهْلِ الْكِتَابِ وَتَكَلَّفُوا فِيهَا النَّفَقَةَ.
وَقَدْ يَكُونُ بَعْضُهُمْ فَقِيرًا لَا يَقْدِرُ عَلَى النَّفَقَةِ فَيُكَلِّفُهُ أَهْلُهُ وَأَوْلَادُهُ ذَلِكَ حَتَّى يَتَدَايَنَ لِفِعْلِهِ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَفْعَلُ إلَّا ضَحِيَّةً لِجَهْلِهِ وَجَهْلِ أَهْلِهِ بِفَضِيلَتِهَا، أَوْ قِلَّةِ مَا بِيَدِهِ فَلَا يَتَكَلَّفُ هُوَ وَلَا هُمْ يُكَلِّفُونَهُ ذَلِكَ. مَعَ أَنَّ الْعُلَمَاءَ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ قَالُوا يَتَدَايَنُ لِلْأُضْحِيَّةِ حَتَّى إنَّهُ لَوْ كَانَ لَهُ ثَوْبَانِ بَاعَ أَحَدَهُمَا وَأَخَذَ بِهِ الْأُضْحِيَّةَ إنْ لَمْ يَكُنْ مُضْطَرًّا إلَيْهِ كَمَا تَقَدَّمَ لِتَأْكِيدِ أَمْرِهَا فِي الشَّرْعِ. فَأَوَّلُ مَا أَحْدَثُوهُ فِي ذَلِكَ أَنَّهُمْ اتَّخَذُوا طَعَامًا يَخْتَصُّ بِذَلِكَ الْيَوْمِ فَتَشَبَّهُوا بِهِمْ فِي فِعْلِ النَّيْرُوزِ فَمَنْ لَمْ يَفْعَلْهُ مِنْهُمْ كَانَ ذَلِكَ سَبَبًا لِوُقُوعِ التَّشْوِيشِ بَيْنَ الرَّجُلِ وَأَهْلِهِ فَلَا بُدَّ لَهُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ مِنْ الزَّلَابِيَةِ وَالْهَرِيسَةِ وَغَيْرِهِمَا
كُلٌّ عَلَى قَدْرِ حَالِهِ. فَمِنْهُمْ مَنْ يَأْتِي بِالصَّانِعِ يَبِيتُ عِنْدَهُ فَيَقْلِيهَا لَيْلًا حَتَّى لَا تَطْلُعَ الشَّمْسُ إلَّا وَهِيَ مُتَيَسِّرَةٌ فَيُرْسِلُونَ مِنْهَا لِمَنْ يَخْتَارُونَ وَيَجْمَعُونَ الْأَقَارِبَ وَالْأَصْحَابَ وَغَيْرَ ذَلِكَ كَأَنَّهُ عِيدٌ بَيْنَهُمْ.
المدخل لابن الحاج ،ج:2،ص:46إلى49.