النياحة

النياحة

اللفظ / العبارة' النياحة
متعلق اللفظ مسائل عقدية.
الحكم الشرعي حرام
القسم المناهي العملية
Content

[النياحة]

وأما قوله: (ونهى عن النياحة) .

فإن النوح من فعل النادمين على الذنوب، وهو (ستيون) بالأعجمية. وأما أهل المصائب فهذا منهم محال؛ لأنه من السخطة. وأهل الذنوب ينوحون ندما على ما فرط منهم من الجفاء وأسفا على ما فاتهم من المركز الذى أحلوا به؛ فإن لكل مؤمن مركزا بين يدى الله، وهو حزب الله؛ فإذا أذنب، فقد زال عن المركز، وخرج من الستر، فتفرد عن المأمن. فهو ينوح على ذلك. فهذا نوح التوبة فإن النوح ظاهر فعله، والحنين باطن فعله، حن إلى المركز فناح عليه؛ لأنه وإن تاب؛ فإنه لا يقدر على رد تلك الساعات التى مضت في وقت المعصية، وقد زال عن المركز؛ ألا ترى إلى قوله عزوجل: (فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه) .

فمراكز الموحدين بين يدى الله نصب عينه، وعين الله عليهم؛ فإذا زال عن المقام، وتداركه الله تعالى بأن تاب عليه، ناح على تلك الساعات التى مضت ومركزه خال عن العبودية غائب عن حزب الله.

ص:69

وكذلك شأن الملائكة.. ألا ترى إلى قول الله تعالى: (وَما مِنَّا إِلا لَهُ مَقامٌ مَعلُوم) . فهذا المقام ليس مقاما لأجسامهم، إنما هى مقام أعمالهم.

وكذلك مراكز الموحدين إنما هى مراكز أعمالهم بين يدى الله تعالى. ثم لقلوبهم مقاوم. وقد تتفاوت المراكز بألف ألف درجة، وأكثر من ذلك مما لا يحصيه العدو تفاوتا. وإنما قيل للملائكة مقاوم، وللموحدين مراكز؛ لأن الموحدين هم أهل حرب يجاهدون الشيطان في ذات الله ويجاهدون نفوسهم، فلهم في جهادهم ألوية وروايات قد ركزوها بين يدى الله في محل عظيم في الملكوت، إليها ترفع أعمال العباد، ثم يبعث بها إلى الخزائن، ومنها ما لا يبعث، ولكن يختالها وجه رب العالمين فيضعه عنده لنظرته إليها إلى يوم البعث لحبه إياهم. ومقاوم أعمالهم معلومة من وراء ذلك، كل على درجته.

فهذا النائح إنما ينوح على فوت ما لا يقدر على رده، فإذا استعمل أهل المصائب ذلك الفعل فهو محال وسمج، كأنهم يريدون رد الموت وحياة هذا الذى دعاه الله لوقته فأجابه.

وأما البكاء فزينة وحلية، فإذا كان البكاء لله تعالى، تهبطها رحمة ورأفة، قد عملت فيه، به الخوف بحرارة الرأفة وسالت

ص:70

إلى الرأس، فأسبل دمعة من غير تكلف يرحم بها من نزل به الموت الفظيع شأنه، وخاب مقدمه على الله؛ فهو ينظر بعين بصيرة إلى عظيم شأن الموت الذى حل به، وإلى هول المقدم، وإلى فراق المحبوب؛ فتعمل فيه الرآفة فتدمع لذلك عينه، ويحزن به قلبه، فهذا محمود وبذلك يزين أهل المصائب أن يعظموا ما عظم الله، وأن يحزنوا لما أحزنهم، وأن يتوجعوا لفراقه.

وقد رويت الأخبار في شأن أحوال السلف الماضين في شأن المصيبة، فاختلفت أحوالهم على تباين الطبيعة والنفوس العزيزة، فمنهم من بكا ورق، ومنهم من تجلد فلبس وتهيأ وتزين وتبسم، ومنهم من استكان، ومنهم من أظهر السرور واتخذ الطعام وجمع الإخوان.

فأعلاهم في هذا الباب من أقر الأمور مقرها، ووضعها بالمحل الذى وضعها الله؛ فهذا فعل الأنبياء والأولياء، ولفضل النفس والمعرفة قروا على ذلك.

والآخرون خافوا من لخيانة النفوس ففزعوا إلى التسليم وتدافع الإخوان في إظهار الرضا بحكم الله، والتشاغل عن المصيبة كى يستكملوا ثواب الصابرين. فهؤلاء ضعفاء من الضعف عملوا وردوا الدمعة، وتناسوا، وخالطوا الناس، وتشاغلوا، ولهوا عن المصيبة؛ خوفا من التقصير في شأن الصبر.. حتى وجد الشيطان سبيلا في هذا أيضا، فدعاهم في زماننا هذا إلى خدعة عظيمة ليجتمعوا على السرور، واتخاذ طعام كطعام الولائم، وانبساط وتفارح؛ يريدون بذلك إقامة الصبر في الظاهر، فإذا ظاهرهم خلاف فعل الرسل والأنبياء.

ص:71

وسمج هذا في رأى العين أن يكون لملك الموت ولرسل رب العالمين أثر في بيت، وسلطان يزعزع الأرواح من النفوس، وتصير النفوس جيفة ملقاة تنتقل إلى بيت البلى؛ ثم يكون هنالك شبه العزف، والقصف، واللغط، والضوضاء، والفرح، وقلة المبالاة، يزعمون أن هذا يوم شكر؛ إذ أنه خرج من الدنيا، فتخلص من آفاتها، وختم له بالإسلام.

فهذا كله تحسن بالقول، وتفارح بالجهد، والنفس ممتلئة من الوجد. وإقامة الصبر في ظاهر الأمر يسير في جنب باطنه؛ فهو يظهر السرور وفي النفس من وجع الفراق جزع وتلهف. فهذا خراب الباطن. وإنما الصبر الوافر أن تكون بقلبك راضيا عن الله، ونفسك طيبة مع الله فيما حكم، قد حبب إليك حبه حكمه، وطابت نفسك بالمصيبة.

فهذا الصبر الوافر؛ لأن لحبه حلاوة ولفراق هذا النفس التى حل بها الموت مرارة. فالمرارة في النفس، والحلاوة في القلب. فكلما ثارت حرقة من موضع الرأفة عملت في شأن الدمعة حتى يجرى الماء. فكلما ثارت مرارة من النفس من أجل الفراق تلقته حلاوة محبة الله في الصبر فأبطلته؛ لأنهما اجتمعا في الصدر، فتلاشت المرارة، وثبتت الحلاوة؛ لغلبه المحبة وسلطانهما. فإذا لم يكن هذا فما يغنى هذا السرور الظاهر.

واتخاذ العرس أخاف أن يصير هذا تصنعا ورياء؛ لأنه يكفيه حفظ الجوارح أن يعصى الله بجارحة من أجل تلك المصيبة؛ فهذا صبر الظاهر.

وإن فر من التقصير والاستكانة، فتبسم، ولبس من صالح ثيابه، كما فعل مطرف في وفاة أبيه؛ فهذا أيضا حسن، وهو دون الأول.

ص:72

فأما رجل حلت به مصيبة فاجعة محرقة، شأنها عظيم في الملكوت، فيذهب فيتخذ عرساً، ويجتمع في بيته لغط وضوضاء، فهذا سمج، وقد جاوز القصد، وتكلف جهلا. فأن أراد به الله فهو جهل عندنا، وإن أراد به التصنع فممقوت.

وفعل الأقوياء أن يضع كل شيء موضعه: السرور في موضعه، الحزن في موضعه. ويتقرب إلى الله بذلك الحزن، كما يتقرب بالسرور؛ لأن ذلك كله لله وبالله. ولو أن رجلا شكر في موضع الصبر لكان لشكره موضع هناك، ولو قال عند الذنب: (الحمد لله) لكان لقوله هناك موضع. ولكن الحمد في موضع النعمة، والاستغفار في موضع الذنب، والشكر في موضع النعمة، والصبر في موضع الشدة، فإذا حولته وجدت لكل منه متسعا في الأخر؛ ولكن هذا نفص في التدبير، ونكس للأمور. وروى أن عمر بن الخطاب مر بعثمان رضى الله عنهما وهو قاعد، فبدأه عثمان بالسلام، فقال عمر رضى الله عنه: يا أبا محمد، ولم تنكس السنة؟! ففي هذا القدر عتب عليه عمر رضى الله عنه؛ السلام من المار على الجالس؛ لأنه هو الوالج عليه. والسلام أمان من العباد، فإنما ينبغى الأمان من الوارد. فإذا أزلته عن موضعه انتقض. فوجدنا فعل الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو سيد ولد آدم عليه السلام، عند المصائب، إظهار تعظيم أمر وإجلاله، ويبكى ويحزن. ولما توفى الله ابنه

ص:73

إبراهيم بكى، ثم قال: (إنما هذه رحمة، ومن لا يرحم لا يرحم، القلب يحزن، والعين تدمع، ولا نقول ما يسخط الرب يا إبراهيم. لولا أنه سبيل مأتى، ووعد حق، لحزنا عليك أشد من هذا. ولو عاش إبراهيم بعدى لكان صديقا نبياً) . ثم قال لأصحابه: (إنما نهيتكم عن صوتين أحمقين فاجرين: صوت رنة عند مصيبة، وصوت مزمار عند نعمة) . فهذه الرنة صرخة من موضع السخط خرجت، وهذا المزمار ملاهى الشيطان، صوته جاء بها فمازج هذا المزمار، وجاء بها فصوت في الأوثان، حتى سبى قلوب عبدة الأوثان. ولهذا غور بعيد، وقد وصفناه في كتاب " الأولياء ".

وقالت عائشة رضى الله عنها في شأن وفاة سعد بن معاذ: كان رسول صلى الله عليه وسلم إذا اشتد به الحزن أخذ بلحيته.

ووجدنا ذكر يعقوب صلى الله عليه وسلم في التنزيل أنه حزن على يوسف عليه السلام، فلم يذمه الله تعالى على ذلك مع ما أدى الحزن من نفسه؛ وذلك أنه قال عندما استحكمت أمور البلاء عليه، وحبس الولد الآخر بسبب ما ادعى عليه من السرقة: (وَتَولَى عَنهُم وَقالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُف) .

ويا كلمة دعاء ونداء الأسف للهبان الحريق؛ وذلك أن الحزن أصله من الرأفة، والرأفة لها حريق، ومعدنها في الطحال.. كذلك روى عن على بن أبى طالب رضى الله عنه، حدثنا بذلك العباس بن عبد العظيم العنبرى، حدثنا

ص:74

موسى بن مسعود، عن محمد بن مسلم، عن عمرو بن دينار، عن الزهرى، عن عياض بن خليفة، عن على رضى الله عنه، قال: (الرحمة في الكبد، والرأفة في الطحال) .

حدثنا أبى، حدثنا إسماعيل بن صبيح اليشكرى، حدثنا صلاح بن وقاد الأنصارى، عن سعد بن طريف، عن عكرمة، عن ابن عباس: أن داود عليه السلام قال لابنه: يا بنى، أين موضع الرأفة منك؟ وأين موضع الرحمة؟ قال: موضع الرأفة الطحال، وأما موضع الرحمة فالكبد.

فهذه الرأفة إذا هاجت فلها لهبان، وإذا طار اللهب إلى الصدر اخترق ظاهر القلب ووجهه، فصار كاللسان المخترق بالشيء الحار، فصارت على القلوب كحزونة الأرض، واشتقاق الحزن من ذلك؛ فكان يعقوب عليه السلام حين قال: (يا أسفى) دعا الأصل الذى من معدن الرأفة، فقال: (يا أسفى) .. إنما هو ذلك اللهبان الذى كان يلتهب من الرأفة لفراق يوسف عليه السلام لطول الغيبة، ولم يكن قد وجد خبر موته فيحتسبه عند الله، فيطمئن إلى وصوله إلى الله.

وأنبياء الله أكثر الخلق رأفة، وأوفرهم حظا منها، وأرحم البرية؛ فكانت الرأفة تلتهب فيه، فلما بلغ التلهب والتلظى مبالغة دعاة كالمستروح إليه وقال: (يَا أَسفَى عَلَى يُوسُف) . والأسف مما يدل على الشدة من الحزن والغضب جميعا؛ لأن الغضب له حريق.. ألا ترى إلى قوله تعالى: (فَلَمّا

ص:75

آَسَفُونَا اِنتَقَمنا مِنهُم  يخبر أنه: لما اشتد غضبى عليهم تلهب فطار اللهب فحلت النقمة بفرعون وقومه.

فإنما نادى يوسف عليه السلام ذلك الأسف عند اشتداد حريق الرأفة.. ألا ترى أنه لما نادى الأسف نداء الندبة بهذه الياء - حكى الله عند ندائه:) وَابيَضَت عَيناهُ مِنَ الحُزنِ فَهُو كَظيم (. وذلك أنه لما هاج اللهب منه لم يقل منه:) يا يوسفاه (؛ لأنه وجد يوسف عليه السلام مرتهنا بحكم الله بشيء قد سلف من يعقوب عليه السلام مستورا عن الخلق، ثم صار ظاهرا.. حدثنا عبد الله بن أبى زياد، حدثنا عبد الله بن أبى سميط ابن عجلان، قال: سمعت أبى يقول: بلغنا أن يعقوب عليه السلام قال له ربه: أتشكونى؟! فوعزتى لا أكشف ما بك حتى تدعونى. فقال عند ذلك:) إِنّما أَشكُو بَثَى وَحُزنِى إِلَى الله  فقال له جبريل عليه السلام: الله أعلم بما تشكو يا يعقوب. وإنما قال ذلك من قبل لما قيل له: ما الذى أذهب بصرك؟ قال: حزنى على يوسف، فقيل: فما الذى قوس ظهرك؟ قال: حزنى على أخيه. فأوحى الله تعالى إليه: أتشكونى؟! فوعزتى لا أكشف ما بك حتى تدعونى. فقال عند ذلك:) إِنّما أَشكو بَثَى وَحُزنِى إِلى الله) ؛ فأوحى الله إليه: وعزتى لو كانا ميتين لأحييتهما لك حتى تنظر إليهما، وإنما وجدت عليكم أنكم ذبحتم شاة، فقام عليكم مسكين، فلم تطعموه منها شيئاً، فأن أحب خلقى الأنبياء، ثم المساكين، فاصنع طعاما

ص:76

وادع عملة المساكين. فصنع طعاما، ثم قال: من كان صائما فليفطر الليلة عند آل يعقوب. وقوله: (عملة المساكين) أى صوامهم وعبادهم. وكانت مساكين بنى إسرائيل بهذه الصفة لمسكنة العباد، وسائرهم فقراء.

فهذا فعل كان قد بدر من يعقوب عليه السلام، وهو لا يستغربه؛ فجعله الله لبلائه، وجعل البلاء سببا لاستخراج صبره، وامتحان قلبه.

وإن ربنا كريم إذا أراد أن يبتلى عبده لاستخراج ما في ضميره وإبرازه لأهل سمائه وأرضه استحيا أن يبتليه من غير علة أو سبب؛ فيكون ذلك كالارتجاع في العطية.. ألا ترى إلى قوله: (وَما بِكُم مِن نِعمَةٍ فَمِنَ الله) ، ثم قال: (ذَلِكَ بِأَنّ الله لَم يَكُ مُغِيراً نِعمَةً أَنعَمَها عَلَى قَومٍ حَتى يُغيرُوا ما بِأَنفُسِهِم) . وإذا أراد الله أن يبتلى عبدا ليبرز صبره الجميل الذى تولى وصفه بنفسه منه من الله تعالى أعطاه من العافية والرجاء والنعمة، فجعل على مقدمة البلاء سببا كالعلة، مثل ما فعل يعقوب عليه السلام، وكذلك روى في قصة أيوب عليه السلام؛ ليظهر صبره وشرفه على الخلق، وتكون الخلق به مقتدين، قال: وبلغنا أنه كان على مقدمة البلاء أنه كان عند فرعون يوم دخل عليه موسى عليه السلام، وكان أيوب عليه السلام عن نصرته، وكانت منه كلمة أو كلمتان كالمدارى، فكان هذا موجده في الستر على أيوب، فجعله سببا لبلائه؛ فابتلاه وجعل البلاء سببا لإبراز صبره، والثناء عليه، والاحتجاج بفعله على الخلق.

ص:77

وكذلك في شأن إبراهيم عليه السلام؛ حيث كسر الأصنام، ثم قيل له: أأنت فعلت هذا بآلهنتا يا إبراهيم؟ قال: بل فعله كبيرهم هذا. فابتلى بالحريق، ثم جعلها عليه بردا وسلاما، وأبرز صبره وبذل نفسه لله في العالمين. وقال في شأن خروجه إلى الصيد: إنى سقيم. فابتلى بذبح ابنه، ثم خلصه وفداه بذبح عظيم، وقال في شأن سارة حيث مر بها على الملك فقال: هى أختى. فابتلى بفراق إسماعيل وهاجر.

وكذلك في شأن موسى عليه السلام، ومثل هذا كثير. فوجد يعقوب يوسف عليهما السلام مر تهنا بما سلف متعلقا بحكم الله بحق الله، فلم يستجر أن يناديه نداء النادبين، وهاج منه الشوق إليه والحنين من النفس لحبه إياه، ومعاذ الله أن يتوهم على يعقوب عليه السلام أن حبه كان مذموما شهوانيا، وإنما أحبه من بين ولده لحب الله فيه.. أفليس قد ظهرت الحبية فبرز على جميع إخوته: علماً، وحلماً، وكرماً، وصحفاً، وبراً، وتقوى، وعبودية، وبذلاً، وسخاء، وجمالا في معالى الأخلاق.

وكذلك وجدنا فاطمة رضى الله عنها، فحب رسول الله صلى الله عليه وسلم لها لحبية الله فيها من بين ولده.

وكذلك نجد أولاد الأنبياء لهم تفاوت ولهم أثرة، فإذا تلك الأثرة ليست من الآباء من قبل نفوسهم الميالة بالهوى والشهوة، وإنما ذلك بقلوب طاهرة، وأفئدة زكية، وصدور عالمة بتلك الأشياء؛ فتميل قلوبهم إلى بعض أولادهم دون بعض من أجل حظ لهذا الولد عند الله ما ليس لغيره..

ص:78

ألا ترى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما ذكر أولاد خديجة رضى الله عنها، فقالت: يا رسول الله، أين أطفالى منك؟ قال:(في الجنة) . فهل ذكر غير هذا شيئاً؟ وقال عليه السلام عند ذكر إبراهيم عليه السلام: (لو عاش إبراهيم بعدى لكان صديقاً نبياً) ، يعلمك بأنه محظوظ عند الله تعالى حظ الصديقين، وحظ النبيين، ولم يرزقه من الأجل في الدنيا ما يظهر عليه الصديقية والنبوة قلباً وجوارح. وحظه هناك في الآخرة قائم حظ صديق نبى، ولو عاش لظهر عليه هذا.

فلما استحكم البلاء على يعقوب عليه السلام، وطال الأمر، وعملت الرأفة، وغلبت مرافق الشوق، وتلهبت الرأفة؛ فلم يستجز أن يناديه وهو متعلق بحق الله الذى قد وجب على يعقوب بسبب ذلك المسكين. وهو ينتظر ماذا يبرز له من الغيب في هذا الحكم، ويحسن ظنه بالله ولا ييأس من روح الله؛ لأنه متوقع من كرم الله؛ فنادى الأسف الذي عليه أسف. فلما ناداه صار ذلك اللهب إلى الرأس كالمحبب له، فذهب ببصره، قال الله تعالى: (وَابيَضَت عَينَاهُ مِنَ الحُزنِ فَهُوَ كَظَيم) . فإنما كظم عن نداء يوسف، وكن عنه، فنادى أسفه؛ فحمد الله له وذكر كظمه أنه واقف عند حكمى، معظم لأمرى، ومن تعظيمه ووقوفه عند حكمى لم يذكر اسم من اشتاق إليه وحنت نفسه، فنادى الأسف. فلولا أن ذلك الأسف زينة لبلائه، وحلية لمصابه، ما كان ليناديه، ولا ليذكر في التنزيل شأنه.

ص:79

فهؤلاء الأنبياء والرسل عليهم السلام يضعون كل شيء موضعه كما وصف الله تعالى، فيقدرون عليه بما قواهم الله تعالى من النبوة.

كذلك روى لنا سليمان عليه السلام: أنه حزن على ابنه حزنا شديدا حتى عزى بأن يمثل ملك فجاءه متخاصما مع آخر، فقال: إن هذا مشى في زرعى واتخذ طريقا. فقال له سليمان عليه السلام: ما حملك على ذلك؟ فقال: لأنه زرع في طريق الناس وممرهم. ففطن سليمان عليه السلام بأنه أريد بذلك فتعزى.

وكذلك روى عن موسى عليه السلام؛ حيث بكى على هارون عليهما السلام، فقال الله تعالى: يا موسى ما هذا؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟ ما كان ينبغى لك أن تحن على فقد شيء معى، ولا أن تستأنس بغيرى، ولا أن يكون بكاؤك على هارون إلا لى.

وفي هذا كلام كثير تركناه لئلا يطول..

فالأقوياء هذا فعلهم، يعظمون أمر الله، فإذا أبكاهم بكوا، وإذا أحزنهم حزنوا، وإذا خوفهم خافوا، وإذا أضحكهم ضحكوا، وإذا بشرهم فرحوا، وإذا بسطهم انبسطوا.

والضعفاء من خوف خيانة النفوس، إذا أبكاهم دافعوا البكاء، وإذا أحزنهم فزعوا وردوا ذلك إلى أمور السرور، وإذا خوفهم تحيروا، وإذا أضحكهم اتهموا وحسبوها استدراجا ومكرا، وإذا بشرهم نسبوا ذلك إلى الوسوسة، وإذا بسطهم انقبضوا وحسبوه خذلانا. فهذا كله لانسداد الطريق فيما بينهم وبين الله، والحجب التى تحجب النفس مدلاة على عينى

ص:80

الفؤاد والصدور منهم لفوزان دخان الشهوات، وأخلاق النفس مغيمة كغيوم الآفاق إذا أحاطت بالأرض فحجبت إشراق الشمس

ص:81

كتاب المنهيات



Loading...