المسألة الحادية عشرة والثانية عشرة: اعتمادهم على القياس الفاسد وإنكار القياس الصحيح.
ولا قياس عند الأصوليين نوعان: قياس علة وهو: إلحاق فرع بأصل في الحكم لجامع بينهما. فإن اختل شرط من شروطه فهو قياس فاسد، لا يعتمد عليه في إثبات حكم من الأحكام. وهذه مسألة خطيرة، يقول ابن القيم: أكثر ضلال الناس إنما هو بسبب القياس الفاسد. وأول من مارس القياس الفاسد إبليس، لما أمره الله بالسجود لآدم {قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي
مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف: ١٢] يزعم أن النار خير من الطين، فيكون هو خيراً من آدم. وهذا قياس فاسد؛ لأن النار ليست خيراً من الطين، بل الطين خير من النار؛ لأن النار محرقة متلفة للأشياء، أما الطين فهو ينبت الأشياء والبذور، وفيه خير للناس. فلو ذهبنا إلى القياس لقلنا: الطين خير من النار، مع أن الاعتماد ليس هو على القياس، بل الاعتماد على اختيار الله سبحانه وتعالى وتفضيله، وهو سبحانه وتعالى يفعل ما يشاء ويختار، لا اعتراض عليه، وله الحكمة البالغة، سبحانه وتعالى.
كذلك المشركون قاسوا هذا القياس لما كذبوا الرسل، قالوا:{إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا}[إبراهيم: ١٠] استدلوا ببشريتهم على عدم صحة رسالتهم؛ لأن الرسالة لا تصح في البشر بزعمهم. وهذا قياس رسالتهم؛ لأن الرسالة لا تصح في البشر بزعمهم. وهذا قياس باطل، لأنه قياس مع الفارق؛ لأن الرسل فضلهم الله على غيرهم، واصطفاهم واختارهم، وهو أعلم –سبحانه وتعالى –بحالهم وصلاحهم للرسالة {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ}[الحج: ٧٥،٧٦] ، ولهذا لما قالوا لرسلهم: {إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ}[إبراهيم: ١١].
تقول الرسل: الله فضّلنا بأنه منّ علينا واختارنا للرسالة، فقياسكم قياس مع الفارق؛ لأن البشر لا يستوون، وليسوا على حد سواء، منهم المؤمن ومنهم الكافر، ومنهم الرسل والعلماء والصالحون، ومنهم الجهال والكفار والفساق، فالبشر يتفاوتون، فهناك فارق، والقياس مع الفارق يكون باطلاً؛ لأن هذا من قوادح القياس عند الأصوليين.
بل الحكمة تقتضي أن يكون الرسول إلى البشر بشراً مثلهم؛ من أجل أن يبين لهم، قال تعالى:{قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكاً رَسُولاً}[الإسراء:٩٥) ] ، فالرسول يكون من جنس المرسل إليهم؛ من أجل تبليغ الرسالة، والحكمة تقتضي أن يكون رسول البشر من البشر، ولو كان الذين يعيشون على وجه الأرض ملائكة، لأرسل إليهم من جنسهم ملكاً.