[الإِلْحَادُ في الصِّفاتِ، كَقَوْلِه تَعَالى:{وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ}[فصلت: ٢٢] .
الشرح
الصفات: أي صفات الله عز وجل التي أثبتها لنفسه، والإلحاد في اللغة معناه: الميل عن الاستقامة، والمراد به هنا: الميل في صفات الله، ومن ذلك نفيها عنه سبحانه وتعالى، فنفي الصفات إلحاد؛ لأنه ميل عن الحق، وانحراف عن الحق، فأهل الجاهلية يلحدون في صفات الله، بمعنى أنهم يجحدونها وينفونها عن الله، والدليل على ذلك قوله تعالى:{وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ}[فصلت:٢٢] حيث ظنوا أن الله لا يعلم كثيراً من أعمالهم، فنفوا صفة العلم عن الله.
هذا وجه الشاهد من الآية؛ لأن العلم صفة عظيمة من صفات الله سبحانه، فهو يعلم كل شيء، لا يخفى عليه شيء من أعمال عباده ومن غيرها{يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ}[التغابن: ٤]
يعلم ما كان وما يكون، وما لم يكن لو كان كيف يكون، فعلمه سبحانه وتعالى شامل ومحيط بكل شيء، فمن ظن أنه لا يعلم بعض أعماله فإنه يكون ملحداً في صفات الله، نافياً لصفة العلم.
ثم قال جل وعلا:{وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ}[فصلت: ٢٣] .
أي: أوقعكم في الردى، وهو الهلاك:{فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ}[فصلت: ٢٣] فدل على أن من نفى صفة من صفات الله سبحانه وتعالى، أنه متشبه بأهل الجاهلية، ومتوعد بأشد الوعيد، فعلى هذا يكون نفات الصفات –من الجهمية والمعتزلة والأشاعرة والماتوردية –قد ورثوا هذه الخصلة القبيحة عن أهل الجاهلية، وأنهم متعرضون لهذا الوعيد الشديد، وأنهم ظنوا بالله ظن السوء.
ومن الإلحاد في الصفات تأويلها وصرفها عن معناها الصحيح إلى معنى باطل كتأويل الاستواء بالاستيلاء واليد بالقدرة وغير ذلك. ومن الإلحاد فيها تفويض معناها إلى الله وجحد معناها الذي تدل عليها نصوصها.
أهل الجاهلية يلحدون في الصفات، ويلحدون في أسماء الله سبحانه وتعالى، فينفونها، كما قال تعالى:{وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ} والرحمن من أسمائه سبحانه وتعالى، وذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم لمّا أراد أن يكتب الصلح بينه وبين المشركين في الحديبية، فجاء سهيل بن عمرو، فقال: هات اكتب بيننا وبينكم كتاباً. فدعا النبي صلى الله عليه وسلم الكاتب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"بسم الله الرحمن الرحيم"، قال سهيل: أما الرحمن فوالله ما أدري ما هو ١قالوا: ما نعرف الرحمن إلا رحمن اليمامة –يعنون مسيلمة؛ لأن مسيلمة تسمّى بالرحمن -،فأنزل الله تعالى: {كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ}[الرعد:٣٠].
وكذلك لما كان النبي صلى الله عليه وسلم في مكة، وكان يصلي ويدعو ويقول: يا ألله، يا رحمن. قال المشركون: انظروا إلى هذا الرجل، يزعم أنه يعبد إلهاً واحداً، وهو يقول: يا ألله، يا رحمن، يعبد إلهين. فأنزل الله تعالى:{قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيّاً مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ}[الإسراء: ١١٠] فأسماء الله كثيرة، وتعدد الأسماء لا يدل على تعدد المسمى، وإنما يدل على عظمة هذا المسمى الذي تعددت أسماؤه.
فالشاهد: أن المشركين ينكرون أسماء الله، فمن نفى أسماء الله من الفرق الضالة كالجهمية، أو نفى معانيها وأثبت ألفاظها كالمعتزلة أو نفي بعض الصفات وأثبت بعضها كالأشاعرة، فإنه يكون وارثاً لأهل الجاهلية. وقد قال الله تعالى مثبتاً أسماءه:{وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا}[لأعراف: ١٨٠] ، وقال سبحانه:{اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى}[طه:٨] ، وقال الله تعالى:{لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} ، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: "أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو علمته أحداً من خلقك، أو أنزلته في كتابك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك" ١، فأسماء الله كثيرة، منها ما أنزله في كتابه، وهذا كثير في القرآن، الرحمن، الرحيم، العزيز، الحكيم، الرؤوف، التواب، الغفار ...
وفي آخر سورة الحشر {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى}[الحشر: ٢٢،٢٤] .
فيجب الإيمان بأسماء الله سبحانه وتعالى، وقال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: "إن لله تسعة وتسعين اسماً، من أحصاها دخل الجنة" ٢، والأدلة على أسماء الله سبحانه وتعالى كثيرة، فمن لم يؤمن بأسماء الله، فإنه لا يؤمن بالله سبحانه وتعالى.
١ أخرجه أحمد في المسند (١/٣٩١) ، والحاكم (٢/١٨٩ رقم ١٩٢٠) ، وابن حبان في صحيحه (٢/١٦٠ رقم ٩٦٨) ، وصححه الشيخ أحمد شاكر (حديث رقم ٣٧١٢) ، والألباني في الصحيحة (رقم ١٩٨) . ٢ أخرجه البخاري (رقم ٢٧٣٦) ، ومسلم (رقم ٢٦٧٧) .