يقال مثلًا:لم ينجح فلان في الامتحان حيث لم يكن مواظبا على حضور الدروس، والصحيح أن يقال:لأنه لم يكن مواظبا. الخ .... ومن ذلك (حيثيات الحكم المستعملة في المحاكم، إذا أراد الحاكم أن يصدر حكمه يعلله بقوله: وحيث أن المدعى عليه ثبتت براءته بشهادة الشهود، وحيث المدعي (بالكسر) لم يأت ببينة تشهد له ثم يستمر على هذا الشكل يعطف حيث على مثلها حتى يمل القارئ والسامع.
وصواب ذلك أن يقال: ولما ثبتت براءة المدعى عليه بشهادة العدول، ولم يأت المدعي (بالكسر) ببينة تثبت دعواه، ثم يعطف ما شاء بعد ذلك على هذا النمط، ثم يقول: حكمنا ببراءته بعد انتهاء تعليل الحكم.
وبيان ذلك أن (حيث) ظرف مكان يقال: اجلس حيث يليق بك أن تجلس، أي في الموضع الذي يليق بك أن تجلس فيه.
قال الراغب:(حيث) عبارة عن مكان مبهم يشرح بالجملة التي بعده نحو قوله تعالى {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ}{وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ} اهـ
قال البيضاوي في تفسير قوله تعالى في سورة البقرة (١٤٩){وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ} ومن أي مكان خرجت للسفر {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} إذا صليت. اهـ
وقوله تعالى:{وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} أي في أي موضع كنتم من أرض الله الواسعة توجهوا بوجوهكم نحو البيت في صلاتكم.
وقال البيضاوي في قوله تعالى في سورة الأعراف (١٨٢){وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ} أي سنستدنيهم إلى الهلاك قليلا قليلا، وأصل الاستدراج الاستصعاد أو الاستنزال درجة بعد درجة {مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ} ما نريد بهم، وذلك أن تتواتر عليهم النعم، فيظنوا أنها لطف من الله تعالى بهم فيزدادوا بطرًا وانهماكا في الغي حتى يحق عليهم كلمة العذاب اهـ
أقول: يقول الله تعالى: سنقربهم من العذاب، ونأخذهم به من الجهة التي لا يتوقعونه منها بتكثير النعم عليهم، وتأخير العذاب عنهم حتى يزدادوا بطرا وطغيانا ويغتروا، ويظنوا أن الله ما أكثر عليهم تلك النعم إلا وهو راضٍ عنهم، كما قال تعالى في سورة المؤمنين (٥٥ - ٥٦){أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ}
وقال تعالى في سورة سبأ (٣٧){وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا، فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا، وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ}.
يعني أن كثرة الأموال والأولاد عند المرء لا تدل على أنه من المقربين عند الله، لأن ذلك قد يكون استدراجا ومكرا، والذي يدل على رضوان الله هو الإيمان والعمل الصالح، فصاحبه هو الذي يضاعف الله أجر عمله، ويكون يوم القيامة منعما في الغرفات، آمنا من عذاب الله.
وتجيء (حيث) مجرورة بالباء فلا تخرج عن سنتها، وهي الدلالة على ظرف المكان، قال شاعر يحث بني العباس على الفتك ببني أمية بعد أن أظفرهم الله عليهم:
أنزلوها بحيث أنزلها الله ... بدار الهوان والإفلاس
والضمير في أنزلوها، يعود على أمية بمعنى القبيلة، أي أنزلوا بني أمية بالمكان الذي أنزلهم الله به من الذل.
وتجيء أيضا مجرورة بإلى كذلك، كقول الأدباء: إذا سمعوا بهلاك إنسان يكرهونه: إلى حيث ألقت رحلها أم قشعم، وذلك إشارة إلى قول زهير بن أبي سلمى في المعلقة:
فشد ولم يفزع بيوتًا كثيرة ... لدى حيث ألقت رحلها أم قشعم
فحمل حضين بن ضمضم على خصمه، ولم يخف بيوتًا كثيرة، أي لم يتعرض لها في الموضع الذي ألقت فيه رحلها أي نزلت فيه أم قشعم، وهي المنية أي الموت، أي هجم على خصمه في الموضع الذي حان فيه هلاكه، فأرداه قتيلا. وهنا جرت (حيث) بإضافة لدى إليها، وهي مبنية على الضم في اللغة الفصحى، وبعض العرب يفتحونها، وبعضهم يكسرون ثاءها.
ولا تضاف إلا إلى جملة فعلية نحو قوله تعالى في سورة الأنعام (١٢٤){اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} وقوله تعالى في سورة الطلاق (٢ - ٣){وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} أي من الجهة التي لا يظن أن الرزق يأتيه منها.
أو إلى الجملة الاسمية نحو: أقم حيث المقام طيب، واظعن حيث الظعن سهل، وحيث في ذلك مضافة إلى الجملة الفعلية أو الاسمية، وقد يحذف خبر المبتدأ في الجملة الاسمية نحو: هذا المنزل طيب من حيث الكلأ، والبعد عن طريق القوافل. أما من حيث الماء فليس بجيد، وتقدير الخبر فيهما موجود.
وقد تضاف (حيث) إلى مفرد شذوذا كقول الشاعر:
أما ترى حيث سهيل طالعا ... نجم يضيء كالشهاب لامعا.