قال أبو الفرج بن الجوزى:"قد لبس إبليس على بعض المصلين فى مخارج الحروف، فتراه يقول: الحمد، الحمد. فيخرج بإعادة الكلمة عن قانون أدب الصلاة. وتارة يلبس عليه فى تحقيق التشديد فى إخراج ضاد "المغضوب" قال: "ولقد رأيت من يخرج بصاقه مع إخراج الضاد لقوة تشديده. والمراد تحقيق الحرف حسب. وإبليس يخرج هؤلاء بالزيادة عن حد التحقيق، ويشغلهم بالمبالغة فى الحروف عن فهم التلاوة. وكل هذه الوساوس من إبليس".
وقال محمد بن قتيبة فى مشكل القرآن: "وقد كان الناس يقرؤون القرآن بلغاتهم، ثم خلف من بعدهم قوم من أهل الأمصار وأبناء العجم ليس لهم طبع اللغة، ولا علم التكلف، فهفوا فى كثير من الحروف. وذلوا فأخلواً. ومنهم رجل ستر الله عليه عند العوام بالصلاح، وقربه من القلوب بالدين. فلم أر فيمن تتبعت فى وجوه قراءته أكثر تخليطاً ولا أشد اضطراباً منه، لأنه يستعمل فى الحروف ما يدعه فى نظيره، ثم يؤصل أصلا ويخالف إلى غيره بغير علة، ويختار فى كثير من الحروف ما لا مخرج له إلا على طلب الحيلة الضعيفة. هذا إلى نبذه فى قراءته مذاهب العرب وأهل الحجاز، بإفراطه فى المد والهمز والإشباع، وإفحاشه فى الإضجاع والإدغام، وحمله المتعلمين على المذهب الصعب، وتعسيره على الأمة ما يسره الله تعالى، وتضييقه ما فسحه الله. ومن العجب أنه يقرئ الناس بهذه المذاهب، ويكره الصلاة بها. ففى أى موضع يستعمل هذه القراءة، إن كانت الصلاة لا تجوز بها؟، وكان ابن عيينة يرى لمن قرأ فى صلاته بحرفه، أو ائتم بإمام يقرأ بقراءته أن يعيد، ووافقه على ذلك كثير من خيار المسلمين. منهم بشر بن الحارث، والإمام أحمد بن حنبل، وقد شغف بقراءته عوام الناس وسوقتهم. وليس ذلك إلا لما يرونه من مشقتها وصعوبتها، وطول اختلاف المتعلم إلى المقرئ فيها. فإذا رأوه قد اختلف فى أم الكتاب عشرا. وفى مائة آية شهراً، وفى السبع الطوال حولا. ورأوه عند قراءته مائل الشدقين، دار الوريدين، راشح الجبين، توهموا أن ذلك لفضله فى القراءة وحذقه بها، وليس هكذا كانت قراءة رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، ولا خيار السلف ولا التابعين، ولا القراء العالمين، بل كانت سهلة رسلة".
وقال الخلال فى الجامع: عن أبى عبد الله، إنه قال: "لا أحب قراءة فلان"، يعنى هذا الذى أشار إليه ابن قتيبة، وكرهها كراهية شديدة، وجعل يعجب من قراءته، وقال: "لا تعجبنى. فإن كان رجل يقبل منك فانهه".
وحكى عن ابن المبارك عن الربيع بن أنس: أنه نهاه عنها.
وقال الفضل بن زياد: "إن رجلاً قال لأبى عبد الله: فما أترك من قراءته؟ قال: الإدغام، والكسر. ليس يعرف فى لغة من لغات العرب".
وسأله عبد الله ابنه عنها فقال: "أكره الكسر الشديد والإضجاع".
وقال فى موضع آخر: "إن لم يدغم ولم يضجع ذلك الإضجاع فلا بأس به".
وسأله الحسن بن محمد بن الحارث: "أتكره أن يتعلم الرجل تلك القراءة؟ "، قال: "أكرهه أشد كراهة، إنما هى قراءة محدثة". وكرهها شديداً حتى غضب.
وروى عنه ابن سنيد أنه سئل عنها فقال: "أكرهها أشد الكراهة"، قيل له: ما تكره منها؟ قال: "هى قراءة محدثة، ما قرأ بها أحد".
وروى جعفر بن محمد عنه أنه سئل عنها فكرهها. وقال: "كرهها ابن إدريس"، وأراه قال: وعبد الرحمن بن مهدى. وقال: "ما أدرى، إيش هذه القراءة؟ " ثم قال: "وقراءتهم ليست تشبه كلام العرب".
وقال عبد الرحمن بن مهدى "لو صليت خلف من يقرأ بها لأعدت الصلاة".
ونص أحمد رحمه الله على أنه يعيد. وعنه رواية أخرى:"أنه لا يعيد".
والمقصود. أن الأئمة كرهوا التنطع والغلو فى النطق بالحرف.
ومن تأمل هدى رسول الله صلى الله تعالى وآله وسلم، وإقراره أهل كل لسان على قراءتهم تبين له أن التنطع والتشدق والوسوسة فى إخراج الحروف ليس من سنته.