ومن مكايد عدو الله ومصايده، التى كاد بها من قل نصيبه من العلم والعقل والدين، وصاد بها قلوب الجاهلين والمبطلين، سماع المكاء، والتصدية، والغناء بالآلات المحرمة، الذى يصد القلوب عن القرآن، ويجعلها عاكفة على الفسوق والعصيان، فهو قرآن الشيطان، والحجاب الكثيف عن الرحمن، وهو رقية اللواط والزنا، وبه ينال العاشق الفاسق من معشوقة غاية المنى، كاد به الشيطان النفوس المبطلة، وحسنه لها مكراً منه وغروراً، وأوحى إليها الشبه الباطلة على حسنه فقبلت وحيه واتخذت لأجله القرآن مهجوراً، فلو رأيتهم عند ذياك السماع وقد خشعت منهم الأصوات، وهدأت منهم الحركات، وعكفت قلوبهم بكليتها عليه، وانصبت انصبابة واحدة إليه، فتمايلوا له ولا كتمايل النشوان، وتكسروا فى حركاتهم ورقصهم، أرأيت تكسر المخانيث والنسوان؟ ويحق لهم ذلك، وقد خالط خمارة النفوس، ففعل فيها أعظم ما تفعله حُمَّيه الكؤوس، فلغير الله، بل الشيطان، قلوب هناك تمزق، وأثواب تشقق، وأموال فى غير طاعة الله تنفق، حتى إذا عمل السكر فيهم عمله، وبلغ الشيطان منهم أمنيته وأمله، واستفزهم بصوته وحيله، وأجلب عليهم برجله وخيله، وخَزَ فى صدورهم وخزاً. وأزَّهم إلى ضرب الأرض بالأقدام أزا، فطورا يجعلهم كالحمير حول المدار، وتارة كالذباب ترقص وسُيَطْ الديار. فيا رحمتا للسقوف والأرض من دك تلك الأقدام، ويا سوأتا من أشباه الحمير والأنعام، وياشماتة أعداء الإسلام، بالذين يزعمون أنهم خواص الإسلام قضوا حياتهم لذة وطرباً، واتخذوا دينهم لهواً ولعباً، مزامير الشيطان أحب إليهم من استماع سور القرآن، لو سمع أحدهم القرآن من أوله إلى آخره لما حرك له ساكناً، ولا أزعج له قاطنا، ولا أثار فيه وجداً، ولا قدح فيه،من لواعج الشوق إلى الله زنداً، حتى إذا تلى عليه قرآن الشيطان، وولج مزمور سمعه، تفجرت ينابيع الوجد من قلبه على عينه فجرت، وعلى أقدامه فرقصت، وعلى يديه فصفقت، وعلى سائر أعضائه فاهتزت وطربت، وعلى أنفاسه فتصاعدت، وعلى زفراته فتزايدت، وعلى نيران أشواقه فاشتعلت، فيا أيها الفاتن المفتون، والبائع حظه من الله بنصيبه من الشيطان صفقة خاسر مغبون، هلا كانت هذه الأشجان، عند سماع القرآن؟ وهذه الأذواق والمواجيد، عند قراءة القرآن المجيد؟ وهذه الأحوال السنيات، عند تلاوة السور والآيات؟ ولكن كل امرئ يصبو إلى ما يناسبه، ويميل إلى ما يشاكله، والجنسية علة الضم قدراً وشرعاً، والمشاكلة سبب الميل عقلاً وطبعاً، فمن هذا أين الإخاء والنسب؟ لولا التعلق من الشيطان بأقوى سبب، ومن أين هذه المصالحة التى أوقعت فى عقد الإيمان وعهد الرحمن خللاً؟
ولم يزل أنصار الإسلام وأئمة الهدى، تصيح بهؤلاء من أقطار الأرض، وتحذر من سلوك سبيلهم، واقتفاء آثارهم من، جميع طوائف الملة.
قال الإمام أبو بكر الطرطوشى فى خطبة كتابه، فى تحريم السماع:
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، ونسأله أن يرينا الحق حقاً فنتبعه، والباطل باطلاً فنجتنبه. وقد كان الناس فيما مضى يستتر أحدهم بالمعصية إذا واقعها، ثم يستغفر الله ويتوب إليه منها، ثم كثر الجهل، وقل العلم، وتناقص الأمر، حتى صار أحدهم يأتى المعصية جهاراً، ثم ازداد الأمر إدباراً، حتى بلغناً أن طائفة من إخواننا المسلمين- وفقنا الله وإياهم- استزلهم الشيطان، واستغوى عقولهم فى حب الأغانى واللهو، وسماع الطقطقة والنقير، واعتقدته من الدين الذى يقربهم إلى الله وجاهرت به جماعة المسلمين وشاقَّت سبيل المؤمنين، وخالفت الفقهاء والعلماء وحملة الدين
{وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُومِنِين نُوَلهِ مَا تَوَلّى وَنُصْلِه جَهَنّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً}[النساء: ١١٥] . فرأيت أن أوضح الحق، وأكشف عن شبه أهل الباطل، بالحجج التى تضمنها كتاب الله، وسنة رسوله، وأبدأ بذكر أقاويل العلماء الذين تدور الفتيا عليهم فى أقاصى الأرض ودانيها، حتى تعلم هذه الطائفة أنها قد خالفت علماء المسلمين فى بدعتها. والله ولى التوفيق.
ثم قال: أما مالك فإنه نهى عن الغناء، وعن استماعه، وقال:"إذا اشترى جارية فوجدها مغنية له أن يردها بالعيب".
وسئل مالك رحمه الله: عما يرخص فيه أهل المدينة من الغناء؟ فقال:"إنما يفعله عندنا الفساق".
قال:"وأما أبو حنيفة: فإنه يكره الغناء، ويجعله من الذنوب"،
وكذلك مذهب أهل الكوفة: سفيان، وحماد، وإبراهيم، والشعبى، وغيرهم، لا اختلاف بينهم فى ذلك، ولا نعلم خلافاً أيضاً بين أهل البصرة فى المنع منه.
قلت: مذهب أبى حنيفة فى ذلك من أشد المذاهب، وقوله فيه أغلظ الأقوال. وقد صرح أصحابه بتحريم سماع الملاهى كلها، كالمزمار، والدف، حتى الضرب بالقضيب، وصرحوا بأنه معصية، يوجب الفسق، وترد به الشهادة، وأبلغ من ذلك أنهم قالوا: إن السماع فسق، والتلذذ به كفر، هذا لفظهم، ورووا فى ذلك حديثاً لا يصح رفعه.
قالوا: ويجب عليه أن يجتهد فى أن لا يسمعه إذا مر به، أو كان فى جواره
وقال أبو يوسف، فى دار يسمع منها صوت المعازف والملاهى:"أدخل عليهم بغير إذنهم، لأن النهى عن المنكر فرض"، فلو لم يجز الدخول بغير إذن لامتنع الناس من إقامة الفرض".
قالوا: ويتقدم إليه الإمام إذا سمع ذلك من داره، فإن أصر حبسه وضربه سياطاً، وإن شاء أزعجه عن داره.
وأما الشافعى: فقال فى كتاب "أدب القضاء": "إن الغناء لهو مكروه، يشبه الباطل والمحال. ومن استكثر منه فهو سفيه تردّ شهادته".
وصرح أصحابه العارفون بمذهبه بتحريمه، وأنكروا على من نسب إليه حله، كالقاضى أبى الطيب الطبرى، والشيخ أبى إسحاق، وابن الصباغ.
قال الشيخ أبو إسحاق فى "التنبيه": "ولا تصح الإجارة على منفعة محرمة، كالغناء، والزمر، وحمل الخمر، ولم يذكر فيه خلافاً"
فإقرار هذه الطائفة على ذلك فسق يقدح فى عدالة من أقرهم ومنصبه الدينى.
وما أحسن ما قال بعض العلماء وقد شاهد هذا وأفعالهم: