سماع المكاء، والتصدية، والغناء بالآلات المحرمة،

سماع المكاء، والتصدية، والغناء بالآلات المحرمة،

اللفظ / العبارة' سماع المكاء، والتصدية، والغناء بالآلات المحرمة،
متعلق اللفظ مسائل فقهية
الحكم الشرعي حرام
القسم المناهي العملية
Content

ومن مكايد عدو الله ومصايده، التى كاد بها من قل نصيبه من العلم والعقل والدين، وصاد بها قلوب الجاهلين والمبطلين، سماع المكاء، والتصدية، والغناء بالآلات المحرمة، الذى يصد القلوب عن القرآن، ويجعلها عاكفة على الفسوق والعصيان، فهو قرآن الشيطان، والحجاب الكثيف عن الرحمن، وهو رقية اللواط والزنا، وبه ينال العاشق الفاسق من معشوقة غاية المنى، كاد به الشيطان النفوس المبطلة، وحسنه لها مكراً منه وغروراً، وأوحى إليها الشبه الباطلة على حسنه فقبلت وحيه واتخذت لأجله القرآن مهجوراً، فلو رأيتهم عند ذياك السماع وقد خشعت منهم الأصوات، وهدأت منهم الحركات، وعكفت قلوبهم بكليتها عليه، وانصبت انصبابة واحدة إليه، فتمايلوا له ولا كتمايل النشوان، وتكسروا فى حركاتهم ورقصهم، أرأيت تكسر المخانيث والنسوان؟ ويحق لهم ذلك، وقد خالط خمارة النفوس، ففعل فيها أعظم ما تفعله حُمَّيه الكؤوس، فلغير الله، بل الشيطان، قلوب هناك تمزق، وأثواب تشقق، وأموال فى غير طاعة الله تنفق، حتى إذا عمل السكر فيهم عمله، وبلغ الشيطان منهم أمنيته وأمله، واستفزهم بصوته وحيله، وأجلب عليهم برجله وخيله، وخَزَ فى صدورهم وخزاً. وأزَّهم إلى ضرب الأرض بالأقدام أزا، فطورا يجعلهم كالحمير حول المدار، وتارة كالذباب ترقص وسُيَطْ الديار. فيا رحمتا للسقوف والأرض من دك تلك الأقدام، ويا سوأتا من أشباه الحمير والأنعام، وياشماتة أعداء الإسلام، بالذين يزعمون أنهم خواص الإسلام قضوا حياتهم لذة وطرباً، واتخذوا دينهم لهواً ولعباً، مزامير الشيطان أحب إليهم من استماع سور القرآن، لو سمع أحدهم القرآن من أوله إلى آخره لما حرك له ساكناً، ولا أزعج له قاطنا، ولا أثار فيه وجداً، ولا قدح فيه،من لواعج الشوق إلى الله زنداً، حتى إذا تلى عليه قرآن الشيطان، وولج مزمور سمعه، تفجرت ينابيع الوجد من قلبه على عينه فجرت، وعلى أقدامه فرقصت، وعلى يديه فصفقت، وعلى سائر أعضائه فاهتزت وطربت، وعلى أنفاسه فتصاعدت، وعلى زفراته فتزايدت، وعلى نيران أشواقه فاشتعلت، فيا أيها الفاتن المفتون، والبائع حظه من الله بنصيبه من الشيطان صفقة خاسر مغبون، هلا كانت هذه الأشجان، عند سماع القرآن؟ وهذه الأذواق والمواجيد، عند قراءة القرآن المجيد؟ وهذه الأحوال السنيات، عند تلاوة السور والآيات؟ ولكن كل امرئ يصبو إلى ما يناسبه، ويميل إلى ما يشاكله، والجنسية علة الضم قدراً وشرعاً، والمشاكلة سبب الميل عقلاً وطبعاً، فمن هذا أين الإخاء والنسب؟ لولا التعلق من الشيطان بأقوى سبب، ومن أين هذه المصالحة التى أوقعت فى عقد الإيمان وعهد الرحمن خللاً؟

{أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُريتَهُ أَوْلِياَءَ مِنْ دُونِى وَهُمْ لكُمْ عَدُو بِئْسَ لِلظّالمِينَ بَدَلا} [الكهف: ٥٠] .

ولقد أحسن القائل:

تُلِىَ الكتَابُ، فأطْرَقُوا، لا خِيفَةً ... لكِنَّهُ إِطْرَاقُ سْاهٍ لاهِى

وأتَى الغِنَاءُ، فكالحَميرِتَنَاهَقُوا ... وَاللهِ مَا رَقَصُوا لأجْلِ اللهِ

دُفِ وَمِزْمَارٌ، وَنغْمَةُ شَاذِنٍ ... فمتَى رَأَيتَ عِبَادَةً بملاهى؟

ثَقُلَ الكِتَابُ عليهمُ لَمَّا رَأوْا ... تَقْيِيدَهُ بأَوَامِرٍ وَنَوَاهِى

سَمِعُوا له رَعْدًا وبَرْقاً، إِذْحَوَى ... زَجْرًا وتخْوِيفاً مَنَاهِى

وَرَأَوْهُ أَعْظمْ قاطعٍ لِلنَّفسِ عَنْ ... شهَوَاتِها، ياذبحها المُتَناهِى

وَأتى السماعُ مُوافِقاًأَغْرَاضَها ... فَلأَجْلَ ذاكَ غَدَا عَظِيمَ الجاهِ

أيْنَ المُسَاعِدُ لِلْهَوَىِ مِنْ قاطعٍ ... أَسْبَابَهُ، عِنْدَ الجَهُولِ السّاهى؟

إنْ لَمْ يَكُنْ خَمَر الجُسُومِ، فإنَّهُ ... خَمْرُ العُقولِ مُمَاثِلٌ وَمُضَاهِى

فانظْر إِلى النّشْوان عِنْدَ شَرَابَه ... وانْظُرْ إلى النَّسْوَانِ عِنْدَ مَلاهِى

وانظُرْ إِلى تمْزِيقِ ذَا أَثوَابَهُ ... مِن بَعْدِ تمزيقِ الفُؤَادِ اللاهِى.

واحكم فأىَّ الخمرتين أحق بالتحريم، والتأثيم عند الله؟

وقال آخر:

برِئْنَا إِلَى اللهِ منْ مِعْشَرٍ ... يهِمْ مَرَضٌ مِنْ سَمَاعِ الغِنَا

وكم قلْتُ يَاقَوْمُ، أَنْتُمْ عَلَى ... شَفَا جُرُفٍ مَابِهِ مِنْ بِنَا

شَفَا جُرُفٍ تحْتَهُ هُوَّة ... إِلى دَرَكٍ، كم بِهِ مِنْ عَنا

وتَكْرَارُ النُّصْحِ مِنا لهم ... لنُعْذِرَ فِيهِمْ إِلى ربَّنا

فَلمَّا اسْتَّهانُوا بَتَنْبِيهنا ... رَجَعْنَا إِلى اللهِ فى أَمْرِنا

فعِشْنَا عَلَى سُنَّةِ المُصْطَفَى ... وَمَاتوُا عَلَى تِنْتِنَا تِنْتِنا

ولم يزل أنصار الإسلام وأئمة الهدى، تصيح بهؤلاء من أقطار الأرض، وتحذر من سلوك سبيلهم، واقتفاء آثارهم من، جميع طوائف الملة.

قال الإمام أبو بكر الطرطوشى فى خطبة كتابه، فى تحريم السماع:

الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، ونسأله أن يرينا الحق حقاً فنتبعه، والباطل باطلاً فنجتنبه. وقد كان الناس فيما مضى يستتر أحدهم بالمعصية إذا واقعها، ثم يستغفر الله ويتوب إليه منها، ثم كثر الجهل، وقل العلم، وتناقص الأمر، حتى صار أحدهم يأتى المعصية جهاراً، ثم ازداد الأمر إدباراً، حتى بلغناً أن طائفة من إخواننا المسلمين- وفقنا الله وإياهم- استزلهم الشيطان، واستغوى عقولهم فى حب الأغانى واللهو، وسماع الطقطقة والنقير، واعتقدته من الدين الذى يقربهم إلى الله وجاهرت به جماعة المسلمين وشاقَّت سبيل المؤمنين، وخالفت الفقهاء والعلماء وحملة الدين

{وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُومِنِين نُوَلهِ مَا تَوَلّى وَنُصْلِه جَهَنّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} [النساء: ١١٥] . فرأيت أن أوضح الحق، وأكشف عن شبه أهل الباطل، بالحجج التى تضمنها كتاب الله، وسنة رسوله، وأبدأ بذكر أقاويل العلماء الذين تدور الفتيا عليهم فى أقاصى الأرض ودانيها، حتى تعلم هذه الطائفة أنها قد خالفت علماء المسلمين فى بدعتها. والله ولى التوفيق.

ثم قال: أما مالك فإنه نهى عن الغناء، وعن استماعه، وقال: "إذا اشترى جارية فوجدها مغنية له أن يردها بالعيب".

وسئل مالك رحمه الله: عما يرخص فيه أهل المدينة من الغناء؟ فقال: "إنما يفعله عندنا الفساق".

قال: "وأما أبو حنيفة: فإنه يكره الغناء، ويجعله من الذنوب"،

وكذلك مذهب أهل الكوفة: سفيان، وحماد، وإبراهيم، والشعبى، وغيرهم، لا اختلاف بينهم فى ذلك، ولا نعلم خلافاً أيضاً بين أهل البصرة فى المنع منه.

قلت: مذهب أبى حنيفة فى ذلك من أشد المذاهب، وقوله فيه أغلظ الأقوال. وقد صرح أصحابه بتحريم سماع الملاهى كلها، كالمزمار، والدف، حتى الضرب بالقضيب، وصرحوا بأنه معصية، يوجب الفسق، وترد به الشهادة، وأبلغ من ذلك أنهم قالوا: إن السماع فسق، والتلذذ به كفر، هذا لفظهم، ورووا فى ذلك حديثاً لا يصح رفعه.

قالوا: ويجب عليه أن يجتهد فى أن لا يسمعه إذا مر به، أو كان فى جواره

وقال أبو يوسف، فى دار يسمع منها صوت المعازف والملاهى: "أدخل عليهم بغير إذنهم، لأن النهى عن المنكر فرض"، فلو لم يجز الدخول بغير إذن لامتنع الناس من إقامة الفرض".

قالوا: ويتقدم إليه الإمام إذا سمع ذلك من داره، فإن أصر حبسه وضربه سياطاً، وإن شاء أزعجه عن داره.

وأما الشافعى: فقال فى كتاب "أدب القضاء": "إن الغناء لهو مكروه، يشبه الباطل والمحال. ومن استكثر منه فهو سفيه تردّ شهادته".

وصرح أصحابه العارفون بمذهبه بتحريمه، وأنكروا على من نسب إليه حله، كالقاضى أبى الطيب الطبرى، والشيخ أبى إسحاق، وابن الصباغ.

قال الشيخ أبو إسحاق فى "التنبيه": "ولا تصح الإجارة على منفعة محرمة، كالغناء، والزمر، وحمل الخمر، ولم يذكر فيه خلافاً"

فإقرار هذه الطائفة على ذلك فسق يقدح فى عدالة من أقرهم ومنصبه الدينى.

وما أحسن ما قال بعض العلماء وقد شاهد هذا وأفعالهم:

أَلا قُلْ لَهُمْ قَوْلَ عَبْدٍ نَصُوحٍ ... وَحَقُّ النَّصِيحَةِ أَنْ تُسْتَمعْ:

مَتَى عَلِمَ الناسُ فى دِينِنا ... بأَنّ الغِنَا سُنَّةٌ تُتّبَع؟

وأَنْ يأكلَ المَرْءُ أَكْلَ الحِما ... رِ وَيَرْقُصَ فى الجَمْعِ حَتَّى يقَعْ؟

وقَالُوا: سَكِرْنَا بِحُبَّ الإِلهِ ... وَمَا أسْكَرَ القَوْمَ إلا القِصَعْ

كَذَاكَ البَهَائمِ إِنْ أُشْبِعَت ... يُرَقَّصُهَا رِيُّها والشَّبُعْ

ويَسْكِرُهُ النَّاىُ، ثُمَّ الغِنا ... ويس لَوْ تُلِيَتْ ما انْصَدَعْ

فيَا لَلْعقُولِ، وَيَا لِلنُّهَى ... أَلا مُنْكِرٌ مِنْكُم لِلبِدَعْ

تُهَانُ مَسَاجِدُنَا بَالسّما ... عِ وَتُكْرَمُ عَنْ مِثْلِ ذَاكَ البِيَعْ

وقال آخر، وأحسن ما شاء:

ذَهَبَ الرَّجَالُ وحال دُونَ مجَالِهمْ ... زُمَرَّ مِنَ الأوبْاَشِ وَالأَنذَالِ

زَعَمُوا بأَنّهُمُ عَلَى آثَارِهِمْ ... سَارُوا، ولكِنْ سِيَرةَ البَطّالِ

لَبِسُوا الدُّلُوقَ مُرقَّعاً، وَتَقَشّفُوا ... كَتَقَشُّفِ الأَقْطَابِ وَالأَبْدَالِ

قَطَعُوا طَرِيقَ السَّالِكِينَ، وَغَوَّرُوا ... سُبُل الْهُدَى، بجَهَالةٍ وَضَلالِ

عَمَروُا ظَوَاهِرَهُمْ بأَثوَابِ التٍّقَى ... وَحَشَوْا بَوَاطِنَهُمْ مِنَ الأدْغالِ

إِنْ قُلتَ: قَالَ اللهُ، قَالَ رَسُولُهُ ... هَمزُوكَ هَمْزَ المُنْكِر المُتَغَالى

أَوْ قُلْتَ: قَدْ قَالَ الصَّحَابَةُ، والأُولى ... تَبِعُوهُمُ فى القَوْلِ وَالأَعْمَالِ

أوْ قُلْتَ: قَالَ الآلُ، آلُ المُصْطَفى ... صَلّى عَليهِ اللهُ، أَفْضَلِ آلِ

أوْ قُلْتَ: قَالَ الشّافِعِىُّ، وأحمد ... وأَبو حَنِيفَةَ، وَالإِمَامُ العَالِى

أَوْ قُلْتَ: قَالَ صِحَابُهُمْ مِنْ بَعْدِهِمْ ... فَالكُلُّ عِنْدَهُمُ كَشِبْهِ خَيَالِ

وَيَقُولُ: قَلْبى قَالَ لِى، عَنَ سِرَّهِ، ... عَنْ سر سرى، عَنْ صَفَا أَحْوَالِى

عَنْ حَضْرَتى، عَنِ فِكْرَت عَنْ خَلْوَتى ... عَنْ شَاهِدِى عَنْ وَارِدِى عَنْ حَالِى

عَنْ صَفْوِ وَقْتى، عَنْ حَقِيقِة مَشهدى ... عَنْ سِرَ ذَاتى، عَنْ صِفَاتِ فِعَالِى

دَعْوَى، إذَا حقَّقْتَهَا، أَلْفَيْتَهَا ... أَلْقَابَ زُورٍ، لُفَّفَتْ بِمُحالِ

تَركُوا الحَقَائِقَ وَالشّرائِعَ، وَاقْتدَوْا ... بِظَوَاهِرِ الجُهَّالِ وَالضُّلالِ

جَعَلُوا المِراد فَتْحاً، وألُفَاظَ الخَنَا ... شَطْحاً، وَصَالُوا صَوْلَةَ الإِدْلال

نَبِذُوا كِتَابَ اللهِ خَلْفَ ظُهُورِهْم ... نَبْذَ المُسَافرِ فَضْلَةَ الأَكّالِ

جَعَلُوا السَّماعَ مَطِيّة لِهَوَاهُمُوَ ... غَلَوْا فَقَالُوا فيهِ كُلَّ مُحَالِ

هُوَ طَاعَةٌ، هُوَ قُرْبةٌ، هُوَ سُنةٌ ... صَدَقُوا لِذَاكَ الشَّيْخِ ذِى الإضلالِ

شَيْخٌ قَديِمٌ، صَادَهُمْ بَتَحَيل ... حَتَّى أَجَابُوا دَعوةَ المُحْتَالِ

وَرَأَوْا سَمَاعَ الشعر أنْفَعَ للفَتى ... مِنْ أَوْجُهٍ سَبْعٍ لَهُمْ بِتوِالِ

هَجَرُوا لَهُ القُرْآنَ وَالأَخْبَارَ وَالآ ... ـثارَ، إٍذْ شهِدَتْ لَهُمْ بِضَلالِ

تَاللهِ مَا ظَفِرَ العَدُوُّ بِمثْلِهَا ... مِنْ مِثْلهِمْ، وَاخَيْبَةَ الآمالِ

نَصَبَ الحِبَال لَهُمْ، فَلمْ يَقَعُوا بهَا ... فأَتى بِذَا الشّرَكِ المُحِيطِ الغالى

فإذا هموا وَسَطِ العَرِينَ مُمَزَّقىال ... آثْوابِ، والأدْيَانِ، والأحْوَالِ

لا يَسْمَعُونَ سِوَى الّذِى يَهْوُونهُ ... شُغُلا بِهِ عنْ سائرِ الأشْغَالِ

ودُعُوا إِلى ذاتِ الْيَمينِ فأَعْرَضُوا ... عَنْهَا، وسَارَ القَوْمُ ذاتَ شِمَالِ

خَرُّوا عَلَى القرآنِ عِنْدَ سَمَاعه ... صُمَّا، وعَميَاناً ذَوِى إِهمَالِ

وإذَا تلاَ القَارِى عَلَيْهِمْ سُورَةً ... فأطَالهَا، عَدُّوهُ فى الأثْقَالِ

وَيَقُولُ قَائِلُهُمْ: أَطَلتَ، وَلَيسَ ذَا ... عَشْرٌ، فَخَفَّفْ، أَنْتَ ذُو إِملالِ

هذَا، وَكَمْ لَغْو، وَكم صَخَبٍ، وَكَم ... ضَحِكٍ بِلاَ أَدَبٍ، وَلا إجْمَالِ

حَتَّى إذَا قَامَ السَّماعُ لَدَيْهِمُ ... خَشَعَتْ لهُ الأصْواتُ بالإجْلالِ

وَامْتَدَّتِ الأعْنَاقُ، تَسْمعُ وَحْىَ ذَاِ ... كَ الشّيخِ مِنْ مُتَرنَمَّ قَوَّالِ

وَتحَرَّكَتْ تِلكَ الرُّءُوسُ، وهَزَّهَا ... طَرَبٌ، وأشْوَاقٌ لِنَيْلِ وِصَالِ

فَهُنَالِكَ الأشْوَاقُ وَالأشْجَانُ وال ... أَحوَالُ، لا أهلاً بِذِى الأحوَالِ

تَالله لو كانت صحاة أبصروا ... ماذا دهاهمْ من قبيحِ فِعَالِ

لكنما سُكْرُ السَّماع أَشدُّ مِنْ ... سُكرِ المدامِ، وذا بلا إشكالِ

فإذا هُمَا اجتمعَا لِنَفْسٍ مَرَّةً ... نالتْ من الخسرانِ كل منَالِ

يَا أمَّةً لَعبتْ بدين نبيها ... كتلاعب الصبيان فى الأوحالِ

أشمتوا أَهْلَ الكتابِ بدينكمْ ... والله لن يرضوا بذى الأفعالِ

كم ذا نعير منهم بقريقكم ... سِرا وجهرا عندَ كل جدالِ

قالوا لنا: دين عبادة أهله ... هذا السماع، فذاك دين محالِ

بل لا تجئُ شريعة بجوازه ... فسلوا الشرائع تكتفوا بسؤالِ

لو قلتموا فسق، ومعصية، وتزْ ... بين من الشيطان للأنذالِ

كنا شهدنا أنَّ ذا دين أتى ... بالحق، دين الرسل، لا بضلالِ

والله منهم قدسمعنا ذاإلى اللآ ... ذان من أفواههم بمقال 

وَتمَامُ ذَاكَ الْقَوْلِ بالْحِيَلِ الّتى ... فَسَخَتْ عقُودَ الدينِ فَسْخَ فِصَالِ

جَعَلَتْه كالثَّوْبِ المُهَلْهَلِ نَسْجُهُ ... فِيهِ تُفَصّلُهُ مِنْ الأوصَالِ

مَا شئت مِنْ مَكْرِ وَمِنْ ... خِدَع وَمنْحِيَلٍ، وَتَلْبِيسٍ بِلاَ إقلالِ

فَاحَتلْ عَلَى إسْقَاطِ كُلِّ فَرِيضةٍ ... وَعَلَى حَرَامِ اللهِ بِالإِحْلالِ

واحتَلْ عَلَى المَظْلُومِ يُقْلَبُ ظالمًا ... وَعَلَى الظَّلوم، بِضد تِلكَ الَحالِ

وَاقلِبْ، وَحَولْ، فَالتَّحَيُّل كُلُّهُ ... فى الْقَلْبِ، وَالتَّحْوِيلُ ذُو إِعمالِ

إِنْ كُنْتَ تَفْهَمُ ذَا ظَفِرْتَ بِكُلِّ ما ... تَبْغِى مِنَ الأفْعَالِ وَالأَقوَالِ

وَاحْتَلْ عَلَى شُرْبِ المُدَامِ وسَمها ... غَيْرَ اُسْمِهَا، وَاللَّفْظُ ذُو إجْمَالِ

وَاحْتَلْ عَلَى أكْلِ الربَا واهْجُرْ شَنا ... عَةَ لَفْظهِ، وَاحْتَلْ عَلَى الأبْدالِ

وَاحْتَلْ عَلَى الْوَطْءِ الْحَرَامِ، وَلا تَقُلْ ... هذَا زِناً، وَانْكَحْ رَخِىَّ البَالِ

وَاحْتَلْ عَلَى حَل العقُودِ وفَسْخِهَا ... بَعْدَ اللزُومِ، وَذَاكَ ذُو إِشْكَالِ

إِلا عَلَى المُحْتَالِ، فَهْوَ طِبِيبُهَا ... يَا مِحْنَةَ الأَدْيَانِ بِالمُحْتَالِ

وَاحْتَلْ عَلَى نَقْضِ الْوُقُوفِ، وَعَوْدِهاَ ... طَلْقاً، ولا تَسْتَحِى مِنْ إِبطَالِ

فَكر، وقَدر، ثُمَّ فَصلْ بَعدَ ذَا ... فإِذَا غُلِبْتَ فَلِجَّ فى الإِشْكالِ

واحتل على الميراث، فانزعه من ... الورَّاث، ثم أبلَع جميع المالِ

قد أثبتوا نسباً وحصراً فيكم ... حتى تحوز الإرث للأموالِ

واعمد إلى تلك الشهادة واجعل ... الإبطال هَّمك تحظَ بالأبطالِ

فالحصر إثبات، ونفىٌ، غير معـ ... لوم، وهذا موضع الإشكالِ

واحْتَلْ عَلَى مَالِ اليَتِيمِ، فإِنهُ ... رِزْقٌ هَنِى مِنْ ضَعِيفِ الحالِ

لا سَوْطَهُ تخْشَى، وَلا مِنْ سَيْفه ... والقَولُ قولُكَ فى ذهابِ المالِ

وَاحْتَلْ عَلَى أَكْلِ الوُقُوفِ فإِنهَا ... مِثْلُ السَّوَائِبِ رَبّةِ الإِهمالِ

فَأَبُو حَنِيفَةَ عِنْدَهُ هِى بَاطِلٌ ... فى الأَصَلِ، لَمْ تحْتَجْ إلى إِبْطَالِ

فالمَالُ مَالٌ ضَائِع، أَرْباَبهُ ... هَلَكُوا فَخُذْ مِنْهُ بِلا مِكْيَالِ

وإذَا تَصِحُّ بحُكْمَ قاضٍ عَادِ ... لٍفَشُرُوطُهَا صَارَتْ إِلى اضْمِحْلاَلِ

قد عَطّلَ النَّاسُ الشُّرُوطَ، وَأَهْملوا ... مَقْصُودَهَا، فَالكُلُّ فى إهْمال

وَتَمامُ ذَاكَ قُضَاتُنَا، وشُهُودُنا ... فَاسْأَلْ بهِمْ ذَا خبْرَةٍ بالحَالِ

أمَّا الشُّهودُ فَهُمْ عُدُول عن طري ... قِ العَدْلَ فى الأَقوَال والأفعالِ

زُورًا وتَنْميقاً وكِتْمَانّا، وَتَلْ ... بيساً، وَإِسْرَافاً بِأَخْذِ نَوَالِ

يَنْسَى شَهَادَتَهُ، وَيَحْلِفْ إنهُ ... ناس لهَا، والقَلْبُ ذو إِغْفالِ

فإِذَا رَأَى المنقُوشَ، قال: ذَكَرْتُهَا ... يَا لَلمْذَكرِ، جِئْتَ بالآمالِ

ويقُول قَائِلُهُمْ: أَخوضُ النَّارَ فى ... نِزْرٍ يَسِيرٍ؟ ذاكَ عَيْنَ خَبَالِ

ثَقلْ لَى المِيزَانَ، إِنَى خَائِضٌ ... لِلمْنَكِبَيْنِ، أُجَرُّ بالأغْلالِ

أَمَّا القُضَاةُ فَقَدْ تَوَاتَرَ عَنُهمُ ... مَا قَدْ سَمِعْتَ، فَلا تَفُهْ بمَقَالِ

ماذا تقول لمن يقول: حكمت أنـ ... ك فاسق، أو كافر فى الحالِ؟

فإِذَا اسْتَغَثْتَ أُغِثْتَ بالجَلْدِ الَّذِى ... قَدْ طَرَّقُوهُ كِمَثْلِ طَرْقِ نِعَالِ

فَيَقُولُ طَقْ، فَتَقُولُ: قَطْ، فَتَعَارَضَا ... وَيكُونُ قَوْلُ الْجَلدِ ذَا إِعْمالِ

فأجَارَكَ الرَّحْمنُ ضَرْبٍ، وَمنْ ... عَرْضٍ، وَمِنْ كَذِبٍ وَسُوءِ مَقَالِ

هذَا وَنِسْبَةُ ذَاكَ أَجْمَعِهِ إِلى ... دِينِ الرَّسولِ، وَذَا مِنَ الأَهْوَالِ

حَاشَا رَسُولُ اللهِ يَحْكُمُ بالهوَى ... والْجَهْلِ، تِلْكَ حُكُومَةُ الضّلالِ

وَاللهِ لَوْ عُرِضَتْ عَلَيْهِ كُلُّهَا ... لاجْتَثَّهَا بالنَّقْضِ وَالإِبطَالِ

إِلا الَّتى مِنْهَا يُوافِقُ حُكْمَه ... فَهُوَ الَّذِى يَلقَاهُ بالإِقبال

أَحْكَامُه عَدْلٌ، وحَق كُلُّهَا ... فى رَحْمَةٍ، ومَصالِحٍ، وحَلالِ

شَهِدَتْ عُقُولُ الْخَلْقِ قاطبة بَما ... فى حُكْمِهِ مِنْ صِحَّةٍ وَكَمالِ

فإِذَا أتَتْ أَحْكَامُهُ أَلْفَيْتَهَا ... وَفْقَ العقولِ، تُزِيلُ كُلَّ عِقَالِ

حَتَّى يَقُولَ السَّامِعُونَ لِحُكْمِه ... مَا بَعْدَ هذَا الحْق غَيْرُ ضَلالِ

للهِ أَحْكامُ الرَّسُولِ وَعَدْلَهُا ... بَيْنَ العِبَادِ وَنَورُهَا المُتَلالى.

كَانَتْ بهَا فى الأرْضِ أعْظَمُ رَحمَةٍ ... والنَّاسُ فى سَعْدٍ وَفى إِقبَالِ

أَحْكامُهُمْ تجْرِى عَلَى وَجْهِ السَّدَ ... ادِ، وَحَالُهُمْ فى ذَاكَ أحْسَنْ حَالِ

أَمْناً، وعزا فى هُدًى، وَتَرَاحُمٍ ... وَتَوَاصُلٍ، وَمَحَبّةٍ، وَجلالِ

فَتَغَيَّرَتْ أَوْضَاعُهَا، حَتَّى غَدَتْ ... مَنْكُورةً، بِتَلوُّثِ الأعمالِ

فَتَغَيَّرَتْ أَعمالُهُمْ وَتَبدَّلَتْ ... أَحْوَالُهُمْ بالنَّقْصِ بَعْدَ كمَالِ

لَوْ كانَ دِينُ اللهِ فيهِمْ قائماً ... لَرَأَيْتَهُمْ فى أَحْسَنِ الأحْوَالِ

وإِذا هُمُوا حَكَمُوا بحُكْمٍ جَائرٍ ... حَكَمُوا لمُنْكِرِهِ بِكُل وَبَالِ

قُالوا: أتُنْكِرُ حُكمَ شَرْعِ مُحَمدٍ؟ ... حَاشَا لِذَا الشّرْعِ الشَّرِيفِ العَالِى

عَجَّتْ فُرُوجُ النَّاسِ، ثُمَّ حُقُوقُهُم ... للهِ بِالبُكُرَاتِ والآصَالِ

كمْ تُسْتَحَلُّ بكل حُكْمٍ بَاطِلٍ ... لا يَرْتَضِيهِ رَبُّنَا المُتَعَالِى

والكلُّ فى قَعْرِ الجَحِيمِ، سِوَى الَّذِى ... يَقْضِى بِدينِ اللهِ، لا لِنَوَالِ

أَوَ مَا سَمِعْتَ بأَنّ ثُلْثَيْهِمْ غَدا ... فى النَّار، فى ذَاكَ الزَّمَانِ الَخْالى؟

وَزَمَانُنَا هذَا، فَرَبُّكَ عَالِمٌ ... هَلْ فيهِ ذَاكَ الثُّلْثُ، أَمْ هُوَ خَالِى؟

يا بَاغِىَ الإِحْسَانِ يَطْلُبُ رَبَّهُ ... لِيَفُوزَ مِنْهُ بِغَايَهِ الآمَالِ

انْظُرْ إلى هدْىِ الصَّحَابَةِ وَالذِى ... كانُوا عَلَيْهِ فى الزَّمَانِ الَخْالِى

واسْلُكْ طَرِيقَ القَوْمِ أَيْنَ تَيَمَّمُوا ... خُذْ يَمْنَةً ما الدَّرْبُ ذَاتَ شِمَالِ

تَاللهِ مَا اخْتَارُوا لأَنْفُسِهمْ سِوَى ... سُبُلِ الهُدَى فى القَوْلِ وَالأفعالِ

دَرَجُوا عَلَى نَهْجٍ الرَّسُولِ وَهَدْيه ... وَبِهِ اقْتَدوْا فى سَائرِ الأحوالِ

نِعْمَ الرَّفِيقُ لِطَالِبٍ يَبْغِى الْهُدى ... فمآلُهُ فى الَحْشْرِ خَيْرُ مآلِ

القَانِتِينَ المُخْبِتينَ لِرَبهِمْ ... النَّاطِقِينَ بأَصْدَقِ الأقوَالِ

التَّارِكِينَ لكل فِعْلٍ منكر ... وَالعَامِلينَ بأَحْسَنِ الأعمَالِ

أَهوَاؤُهُمْ تَبَعٌ لِدينِ نَبِيهمْ ... وَسِوَاهُمُ بِالضِّدَّ فى ذِى الحْالِ

مَا شَانَهُمْ فى دِينْهِمْ نَقْص، وَلا ... فى قَوْلِهمْ شَطْحُ الَجْهُولِ الْغالِى

عَمِلُوا بمَا عَلِمُوا، وَلم يَتَكَلّفُوا ... فَلِذَاكَ مَا شَابُوا الْهُدَى بِضَلالِ

وَسوَاهم بالضد فى الأَمْرَيْنِ، قد ... تَرَكُوا الْهُدَى، وَدَعَوْا لكل ضْلالِ

فَهُمُ الأدِلةُ لِلْحَيارَى، مَنْ يَسرْ ... بهُدَاهُمُ لَمْ يَخْش مِنْ إضْلالِ

وَهُمُ النُّجُومُ هِدَايَةً وإِضاءَةً ... وعُلوَّ مَنْزِلةً، وبُعْدَ مَنالِ

يمْشُونَ بَيْنَ النَّاسِ هَوْناً، نُطْقُهمْ ... بالَحْق، لا بجَهَالَةِ الْجُهَّال

حِلماً، وَعِلْمًا، مَعْ تُقًى وَتَوَاضُعٍ ... ونَصِيحَةٍ، مْعَ رُتبةِ الإفضَالِ

يُحْيُونَ لَيْلَهُمُ بِطَاعَةِ رَبهِمْ ... بِتِلاوَةٍ، وَتَضَرُّعٍ، وَسُؤَالِ

وعُيُونُهُمْ تجْرِى بِفَيْضِ دُمُوعِهِمْ ... مِثْلِ انْهِمَالِ الوَابلِ الهَطَّالِ

فى الَّليْلِ رُهبَانٌ، وَعِنْدَ جِهَادِهِمْ ... لِعَدُوهِمْ مِنْ أَشْجَعِ الأبطالِ

وَإِذَا بَدَا عَلَمُ الرَهَانِ رأَيتَهُمْ ... يَتَسَابَقُونَ بِصَالِح الأعمالِ

بِوُجُوهِهِمْ أَثَرُ السُّجُودِ لِرَبهمْ ... وَبهَا أَشِعَّةُ نُورِهِ المُتَلالى

ولَقدْ أَبَانَ لك الكِتَابُ صِفَاتهِمْ ... فى سُورَةِ الفَتْحِ المبِينِ العَالِى

وَبِرَابِع السبع الطوَالِ صِفَاتهُم ... قَوْمٌ يحُبُّهُمُ ذَوُو إِدْلالِ

وَبَرَاءَةٍ، والْحَشْرِ فِيهَا وَصْفُهُمْ ... وَبِهَلْ أَتَى، وَبسُورَةِ الأنفالِ

فصل

هذا السماع الشيطانى المضادّ للسماع الرحمانى، له فى الشرع بضعة عشر اسما:

اللهو، واللغو، والباطل، والزور، والمكاء، والتصدية، ورقية الزنا، وقرآن الشيطان، ومنبت النفاق فى القلب، والصوت الأحمق، والصوت الفاجر، وصوت الشيطان، ومزمور الشيطان، والسمود:

أسْمَاؤْهُ دَلّتْ عَلَى أَوْصَافِهِ ... تَبَّا لِذى الأَسْمَاءِ والأَوْصَافِ

فنذكر مخازى هذه الأسماء، ووقوعها عليه فى كلام الله عز وجل وكلام رْسوله والصحابة ليعلم أصحابه وأهله بما به ظفروا، وأى تجارة رابحة خسروا:

فدع صاحب المزمار والدف والغنا ... وما اختاره الله عن طاعة الله مذهبا

ودعه يعش في غيه وضلاله ... على تاتنا يحيا ويبعث أشيبا

وفي تنتنا يوم المعاد نجاته ... إلى الجنة الحمراء يدعى مقربا

سيعلم يوم العرض أي بضاعة ... أضاع، وعند الوزن ما خف أو ربا

ويعلم ما قد كان فيه حياته ... إذا حصلت أعماله كلها هبا

دعاه الهدى والغي من ذا يجيبه؟ ... فقال لداعي الغي: أهلاً ومرحبا

وأعرض عن داعي الهدى، قائلاً له ... هواي إلى صوت المعارف قد صبا

يراع، ودف بالصنوج، وشاهد ... وصوت مغن، صوته يقنص الظبا

إذا ما تغني فالظباء تجيبه ... إلى أن تراها حوله تشبه الدبا

فما شئت من صيد بغير تطارد ... ووصل حبيب كان بالهجر عذبا

فيا آمري بالرشد، لو كنت حاضراً ... لكان توالي اللهو عندك أقربا



كتاب إغاثة اللهفان،ج:،ص:224إلى227.ومن233إلى238.





Loading...