فقال على بن الجعد: حدثنا [محمد بن] طلحة عن سعيد بن كعب المروزى عن محمد بن عبد الرحمن بن يزيد عن ابن مسعود رضى الله عنه قال: "الغناء ينبت النفاق فى القلب كما ينبت الماء الزرع".
وقال شعبة: حدثنا الحكم عن حماد عن إبراهيم قال: قال عبد الله بن مسعود: "الغناء ينبت النفاق فى القلب".
وهو صحيح عن ابن مسعود من قوله. وقد روى عن ابن مسعود مرفوعاً رواه ابن أبى الدنيا فى "كتاب ذم الملاهى".
قال: أخبرنا عصمة بن الفضل حدثنا حرمى بن عمارة حدثنا سلام بن مسكين حدثنا شيخ عن أبى وائل عن عبد الله بن مسعود رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم:
"الْغِنَاءُ يُنْبِتُ النِّفَاقَ فى القَلْبِ كما يُنْبِتُ المَاءُ البَقْلَ".
وقد تابع حرمى بن عمارة عليه بهذا الإسناد والمتن مسلم بن إبراهيم.
قال أبو الحسين بن المنادى فى كتاب "أحكام الملاهى": حدثنا محمد بن على بن عبد الله بن حمدان المعروف بحمدان الوراق، حدثنا مسلم بن إبراهيم حدثنا سلام بن مسكين فذكر الحديث. فمداره على هذا الشيخ المجهول، وفى رفعه نظر، والموقوف أصح.
فإن قيل: فما وجه إنباته للنفاق فى القلب من بين سائر المعاصى؟
قيل: هذا من أدل شئ على فقه الصحابة فى أحوال القلوب وأعمالها، ومعرفتهم بأدويتها وأدوائها، وأنهم هم أطباء القلوب، دون المنحرفين عن طريقتهم، الذين داووا أمراض القلوب بأعظم أدوائها، فكانوا كالمدوى من السقم بالسم القاتل، وهكذا والله فعلوا بكثير من الأدوية التى ركبوها أو بأكثرها، فاتفق قلة الأطباء، وكثرة المرَضى، وحدوث أمراض مزمنة لم تكن فى السلف، والعدول عن الدواء النافع الذى ركبه الشارع، وميل المريض إلى ما يقوى مادة المرض، فاشتد المرض وتفاقم الأمر، وامتلأت الدور والطرقات والأسواق من المرضى، قام كل جهول يطبب الناس.
فاعلم أن للغناء خواص لها تأثير فى صبغ القلب بالنفاق، ونباته فيه كنبات الزرع بالماء.
فمن خواصه: أنه يلهى القلب ويصده عن فهم القرآن وتدبره، والعمل بما فيه، فإن القرآن ينهى عن اتباع الهوى، ويأمر بالعفة، ومجانبة شهوات النفوس، وأسباب الغى، وينهى عن اتباع خطوات الشيطان، والغناء يأمر بضد ذلك كله، ويحسنه، ويهيج النفوس إلى شهوات الغى فيثير كامنها، ويزعج قاطنها، ويحركها إلى كل قبيح، ويسوقها إلى وصل كل مليحة ومليح، فهو والخمر رضيعا لبان، وفى تهييجهما على القبائح فرساً رهان، فإنه صنو الخمر ورضيعه ونائبه وخليفته، وخدينه وصديقه، عقد الشيطان بينهما عقد الإخاء الذى لا يفسخ، وأحكم بينهما شريعة الوفاء التى لا تفسخ، وهو جاسوس القلوب، وسارق المروءة، وسوس العقل، يتغلغل فى مكامن القلوب، ويطلع على سرائر الأفئدة، ويدب إلى محل التخيل، فيثير ما فيه من الهوى والشهوة والسخافة والرقاعة، والرعونة، والحماقة. فبينا ترى الرجل وعليه سمة الوقار وبهاء العقل، وبهجة الإيمان، ووقار الإسلام، وحلاوة القرآن. فإذا استمع الغناء ومال إليه نقص عقله، وقَلَّ حياؤه، وذهبت مروءته، وفارقه بهاؤه، وتخلى عنه وقاره، وفرح به شيطانه، وشكا إلى الله تعالى إيمانه، وثقل عليه قرآنه، وقال:يا رب لا تجمع بينى وبين قرآن عدوك فى صدر واحد، فاستحسن ما كان قبل السماع يستقبحه، وأبدى من سره ما كان يكتمه، وانتقل من الوقار والسكينة إلى كثرة الكلام والكذب، والزهزهة والفرقعة بالأصابع، فيميل برأسه، ويهز منكبيه، ويضرب الأرض برجليه، ويدق على أم رأسه بيديه، ويثب وثبات الدباب، ويدور دوران الحمار حول الدولاب، ويصفق بيديه تصفيق النسوان، ويخور من الوجد كخوران الثيران، وتارة يتأوه تأوه الحزين، وتارة يزعق زعقات المجانين، ولقد صدق الخبير به من أهله حيث يقول:
أتذْكُرُ لَيْلَةً وَقَدِ اجْتَمعْنَا ... عَلَى طِيبِ السَّماعِ إلى الصَّبَاحِ؟
وقال بعض العارفين: السماع يورث النفاق فى قوم، والعناد فى قوم، والتكذيب فى قوم، والفجور فى قوم، والرعونة فى قوم.
وأكثر ما يورث عشق الصور، واستحسان الفواحش، وإدمانه يثقل القرآن على القلب، ويكرهه إلى سماعه بالخاصية، وإن لم يكن هذا نفاقاً فما للنفاق حقيقة.
وسر المسألة: أنه قرآن الشيطان، كما سيأتى، فلا يجتمع هو وقرآن الرحمن فى قلب أبدا.
وأيضاً فإن أساس النفاق: أن يخالف الظاهر الباطن، وصاحب الغناء بين أمرين، إما أن يتهتك فيكون فاجراً، أو يظهر النسك فيكون منافقاً، فإنه يظهر الرغبة فى الله والدار الآخرة وقلبه يغلى بالشهوات، ومحبة ما يكرهه الله ورسوله من أصوات المعازف، وآلات اللهو، وما يدعو إليه الغناء ويهيجه، فقلبه بذلك معمور، وهو من محبة ما يحبه الله ورسوله وكراهة ما يكرهه قفر، وهذا محض النفاق.
وأيضاً فإن الإيمان قول وعمل: قول الحق، وعمل بالطاعة، وهذا ينبت على الذكر، وتلاوة القرآن. والنفاق: قول الباطل، وعمل البغى، هذا ينبت على الغناء.
وأيضاً، فمن علامات النفاق: قلة ذكر الله، والكسل عند القيام إلى الصلاة، ونقر الصلاة، وقل أن تجد مفتوناً بالغناء إلا وهذا وصفه.
وأيضاً: فإن النفاق مؤسس على الكذب، والغناء من أكذب الشعر، فإنه يحسن القبيح ويزينه، ويأمر به، ويقبح الحسن ويزهد فيه، وذلك عين النفاق.
وأيضاً، فإن النفاق غش ومكر وخداع، والغناء مؤسس على ذلك.
وأيضا: فإن المنافق يفسد من حيث يظن أنه يصلح، كما أخبر الله سبحانه بذلك عن المنافقين وصاحب السماع يفسد قلبه وحاله من حيث [يظن] أنه يصلحه. والمغنى يدعو القلوب إلى فتنة الشهوات، والمنافق يدعوها إلى فتنة الشبهات، قال الضحاك:"الغناء مفسدة للقلب، مسخطة للرب".
وكتب عمر بن عبد العزيز إلى مؤدب ولده:"ليكن أول ما يعتقدون من أدبك بغض الملاهى، التى بدؤها من الشيطان، وعاقبتها سخط الرحمن، فإنه بلغنى عن الثقات من أهل العلم: أن صوت المعازف، واستماع الأغانى، واللهج بها ينبت النفاق فى القلب كما ينبت العشب على الماء".
فالغناء يفسد القلب، وإذا فسد القلب هاج فيه النفاق.
وبالجملة. فإذا تأمل البصير حال أهل الغناء، وحال أهل الذكر والقرآن، تبين له حذق الصحابة ومعرفتهم بأدواء القلوب، وأدويتها وبالله التوفيق.