وَقد جاءَ فى حديثٍ الله أَعلم بحَالهِ:"يُحشَرُ أكَلَةُ الرِّبَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ فى صَوَرِ الْخَنَازِيرِ وَالْكِلابِ مِنْ أَجْلِ حِيَلهِمْ عَلَى الرِّبَا كمَا مُسِخَ أصحاب دَاوُدَ لاحْتِيَالِهمْ عَلَى أخْذِ الْحِيتَانِ يَوْمَ السَّبْتِ".
وبكل حال فالمسخ لأجل الاستحلال بالاحتيال قد جاء فى أحاديث كثيرة.
قال شيخنا: وإنما ذلك إذا استحلوا هذه المحرمات بالتأويلات الفاسدة. فإنهم لو استحلوها مع اعتقد أن الرسول حرمها كانوا كفار ولم يكونوا من أمته. ولو كانوا معترفين بأنها حرام لأوشك أن لا يعاقبوا بالمسخ، كسائر الذين يفعلون هذه المعاصى، مع اعترافهم بأنها معصية، ولما قيل فيهم: يستحلون. فإن المستحل للشئ هو الذى يفعله معتقداً حله. فيشبه أن يكون استحلالهم للخمر، يعنى أنهم يسمونها بغير اسمها، كما جاء فى الحديث. فيشربون الأنبذة المحرمة، ولا يسمونه خمراً. واستحلالهم المعازف باعتقادهم أن آلات اللهو مجرد سمع صوت فيه لذة. وهذا لا يحرم كأصوات الطيور، واستحلال الحرير وسائر أنواعه باعتقادهم أنه حلال فى بعض الصور كحال الجرب وحال الحكة. فيقيسون عليه سائر الأحوال ويقولون: لا فرق بين حال وحال. وهذه التأويلات ونحوها واقعة فى الطوائف الثلاثة الذين قال فيهم عبد الله بن المبارك رحمه الله:
ومعلوم أنها لا تغنى عن أصحابها من الله شيئاً بعد أن بلغ الرسول وبين تحريم هذه
وكذلك المفسدة العظيمة التى اشتمل عليها الربا لا تزول بتغيير اسمه من الربا إلى المعاملة ولا بتغيير صورته من صورة إلى صورة، والحقيقة معلومة متفق عليها بينهما قبل العقد يعلمها من قلوبهما عالم السرائر فقد اتفقا على حقيقة الربا الصريح قبل العقد، ثم غير اسمه إلى المعاملة، وصورته إلى التبايع الذى لا قصد لهما فيه ألبتة وإنما هو حيلة ومكر ومخادعة الله تعالى ولرسوله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم.
وأىّ فرق بين هذا وبين ما فعلته اليهود من استحلال ما حرم الله عليهم من الشحوم بتغيير اسمه وصورته؟ فإنهم أذابوه حتى صار ودكا وباعوه وأكلواً ثمنه وقالوا: إنما أكلنا الثمن، لا المثمن، فلم نأكل شحماً.
وكذلك من استحل الخمر باسم النبيذ كما فى حديث أبى مالك الأشعرى رضى الله عنه عن النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أنه قال:"ليشربنّ ناس من أمتى الخمر، يسمونها بغير اسمها، يعزف على رؤوسهم بالمعازف والقينات، يخسف الله بهم الأرض ويجعل منهم القردة والخنازير".
وإنما أتى هؤلاء من حيث استحلوا المحرمات بما ظنوه من انتفاء الاسم، ولم يلتفتوا إلى وجود المعنى المحرم وثبوته، وهذا بعينه هو شبهة اليهود فى استحلال بيع الشحم بعد جمله، واستحلال أخذ الحيتان يوم الأحد بما أو أوقعوها به يوم السبت فى الحفائر والشباك من فعلهم يوم الجمعة، وقالوا: ليس هذا صيد يوم السبت،
وقد أخبر صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أن طائفة من أمته تستحل الربا باسم البيع كما أخبر عن استحلالهم الخمر باسم آخر.
فروى ابن بطة بإسناده عن الأوزاعى عن النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم:"يَأْتِى عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ يَسْتَحِلُّونَ الرِّبَا بِالْبَيْعِ".
يعنى العينة، وهذا وإن كان مرسلاً فإنه صالح للاعتضاد به بالاتفاق، وله من المسندات ما يشهد له، وهى الأحاديث الدالة على تحريم العينة. فإنه من المعلوم أن العينة عند مستحلها إنما يسميها بيعاً، وفى هذا الحديث بيان أنها ربا لا بيع، فإن الأمة لم يستحل أحد منها الربا الصريح، وإنما استحل باسم البيع وصورته، فصوروه بصورة البيع وأعاروه لفظه.
ومن المعلوم أن الربا لم يحرم لمجرد صورته ولفظه، وإنما حرم لحقيقته ومعناه ومقصوده، وتلك الحقيقة والمعنى والمقصود قائمة فى الحيل الربوية كقيامها فى صريحه سواء، والمتعاقدان يعلمان ذلك من أنفسهما ويعلمه من شاهد حالهما، والله يعلم أن قصدهما نفس الربا، وإنما توسلاً إليه بعقد غير مقصود وسمياه باسم مستعار غير اسمه. ومعلوم أن هذا لا يدفع التحريم ولا يرفع المفسدة التى حرم الربا لأجلها، بل يزيدها قوة وتأكيدا من وجوه عديدة.
منها: أنه يقدم على مطالبة الغريم المحتاج بقوة لا يقدم بمثلها المربى صريحاً، لأنه واثق بصورة العقد واسمه.
ومنها: أنه يطالبه مطالبه معتقد حل تلك الزيادة وطيبها بخلاف مطالبه المربى صريحا.
ومنها: اعتقاده أن ذلك تجارة حاضرة مدارة. والنفوس أرغب شئ فى التجارة، فهو فى ذلك بمنزلة من أحب امرأة حباً شديداً ويمنعه من وصالها كونها محرمة عليه. فاحتال إلى أن أوقع بينه وبينها صورة عقد لا حقيقة له، يأمن به من بشاعة الحرام وشناعته، فصار.
يأتيها آمنا. وهما يعلمان فى الباطن أنها ليست زوجته، وإنما أظهرا صورة عقد يتوصلان بها إلى الغرض.
ومن المعلوم أن هذا يزيد المفسدة التى حرم الحكيم الخبير لأجلها الربا قوة فإن الله سبحانه وتعالى حرم الربا لما فيه من ضرر المحتاج، وتعريضه للفقر الدائم. والدين اللازم الذى لا ينفك عنه. وتولد ذلك وزيادته إلى غاية تجتاحه وتسلبه متاعه وأثاثه كما هو الواقع فى الواقع.
فالربا أخو القمار الذى يجعل المقمور سليبا حزينا محسوراً.
فمن تمام حكمة الشريعة الكاملة المنتظمة لمصالح العباد تحريمه، وتحريم الذريعة الموصلة إليه، كما حرم التفرق فى الصرف قبل القبض، وأن يبيعه درهماً بدرهم إلى أجل، وإن لم يكن هناك زيادة، فكيف يظن بالشارع مع كمال حكمته أن يبيح التحيل والمكر على حصول هذه المفسدة، ووقوعها زائدة متضاعفة بأكل المحتال فيها مال المحتاج أضعافاً مضاعفة؟ ولو سلك مثل هذا بعض الأطباء مع المرضى لأهلكهم. فإن ما حرم الله تعالى ورسوله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم من المحرمات إنما هو حمية لحفظ صحة القلب، وقوة الإيمان، كما أن ما يمنع منه الطبيب مما يضر المريض حمية له، فإذا احتال المريض أو الطبيب على تناول ذلك المؤذى بتغيير صورته، مع بقاء حقيقته وطبعه، أو تغيير اسمه مع بقاء مسماه، ازداد المريض بتناوله مرضاً إلى مرضه، وترامى به إلى الهلاك، ولم ينفعه تغير صورته ولا تبدل اسمه.
وأنت إذا تأملت الحيل المتضمنة لتحليل ما حرم الله سبحانه وتعالى، وإسقاط ما أوجب وحل ما عقد وجدت الأمر فيها كذلك، ووجدت المفسدة الناشئة منها أعظم من المفسدة الناشئة من المحرمات الباقية على صورتها وأسمائها، والوجدان شاهد بذلك.
فالله سبحانه إنما حرم هذه المحرمات وغيرها لما اشتملت عليه من المفاسد المضرة بالدنيا والدين، ولم يحومها لأجل أسمائها وصورها. ومعلوم أن تلك المفاسد تابعة لحقائقها، لا تزول بتبدل أسمائها وتغير صورتها، ولو زالت تلك المفاسد بتغير الصورة والأسماء لما لعن الله سبحانه اليهود على تغيير صورة الشحم واسمه بإذابته حتى استحدث اسم الودك وصورته ثم أكلوا ثمنه وقالوا لم نأكله. وكذلك تغيير صورة الصيد يوم السبت بالصيد يوم الأحد.
فتغيير صور المحرمات وأسمائها مع بقاء مقاصدها وحقائقها زيادة فى المفسدة التى حرمت لأجلها، مع تضمنه لمخادعة الله تعالى ورسوله، ونسبة المكر والخداع والغش والنفاق إلى شرعه ودينه، وأنه يحرم الشئ لمفسدة ويبيحه لأعظم منها.
ولهذا قال أيوب السختيانى: يخادعون الله كأنما يخادعون الصبيان، لو أتوا الأمر على وجهه كان أهون.
وقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم:"لا تَرْتَكِبُوا مَا ارْتَكَبَتِ الْيهُودُ فَتَسْتَحِلُّوا مَحَارِمَ اللهِ بأَدْنَى الْحِيَلِ".
وقال بشر بن السرى وهو من شيوخ الإمام أحمد: نظرت فى العلم، فإذا هو الحديث والرأى، فوجدت فى الحديث ذكر النبيين والمرسلين، وذكر الموت، وذكر ربوبية الرب تعالى وجلاله وعظمته، وذكر الجنة والنار، والحلال والحرام، والحث على صلة الأرحام وجماع الخير. ونظرت فى الرأى فإذا فيه المكر والخديعة، والتشاح، واستقصاء الحق والمماراة فى الدين، واستعمال الحيل، والبعث على قطيعة الأرحام، والتجرؤ على الحرام.
وقال أبو داود: سمعت أحمد بن حنبل، وذكر أصحاب الحيل فقال: يحتالون لنقض سنن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم.
والرأى الذى اشتقت منه الحيل المتضمنة لإسقاط ما أوجب الله تعالى وإباحة ما حرم الله هو الذى اتفق السلف على ذمه وعيبه.
فروى حرب عن الشعبى قال: قال ابن مسعود رضى الله عنه: إياكم وأرأيت، أرأيت، فإنما هلك من كان قبلكم بأرأيت أرأيت، ولا تقيسواً شيئاً بشئ فتزل قدم بعد ثبوتها.
وعن الشعبى عن مسروق قال: قال عبد الله: ليس من عام إلا والذى بعده شر.