قال المصنف ذكرنا كيف لبس عليهم فِي عبادة الأصنام ومن أقبح تلبيسه عليهم فِي ذلك تقليد الآباء من غير نظر فِي دليل كَمَا قَالَ اللَّه عز وجل: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ} المعنى أتتبعونهم أيضا.
وَقَدْ لبس إبليس عَلَى طائفة منهم فقالوا بمذاهب الدهرية وأنكروا الخالق وجحدوا البعث الذين قَالَ اللَّه سبحانه فيهم:{مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} وعلى آخرين منهم فأقروا بالخالق لكنهم جحدوا الرسل والبعث وعلى آخرين منهم فزعموا أن الملائكة بنات اللَّه وأمال آخرين منهم إِلَى مذهب اليهود وآخرين إِلَى مذهب المجوس وكان فِي بني تميم منهم زرارة بْن جديس التميمي وابنه حاجب.
وممن كان يقر بالخالق والابتداء والإعادة والثواب والعقاب عَبْد المطلب ابْن هاشم وزيد بْن عمرو بْن نفيل وقس بْن ساعدة وعامر بْن الظرب وكان عَبْد المطلب إذا رأى ظالما لم تصبه عقوبة قَالَ تالله أن وراء هذه الدار لدارا يجزي فيها المحسن والمسيء ومنهم زهير بْن أبي سلمى وَهُوَ القائل:
ثم أسلم ومنهم زيد الفوارس بْن حصن ومنهم القلمس بْن أمية الكناني كان يخطب بفناء الكعبة وكانت العرب لا تصدر عَنْ مواسمها حتى يعظها ويوصيها فَقَالَ يوما يا معشر العرب أطيعوني ترشدوا قالوا وما ذاك قَالَ إنكم تفردتم بآلهة شتى أني لأعلم مَا اللَّه بكل هَذَا راض وأن اللَّه رب هذه الآلهة وأنه ليحب أن يعبد وحده فتفرقت عنه العرب لذلك ولم يسمعوا مواعظه وكان فيهم قوم يقولون من مات فربطت عَلَى قبره دابته وتركت حتى تموت حشر عليها ومن لم يفعل ذلك حشر ماشيا وممن قاله عمرو بْن زيد الكلبي.
قال المصنف وأكثر هؤلاء لم يزل عَن الشرك وإنما تمسك منهم بالتوحيد ورفض الأصنام القليل كقس بْن ساعدة وزيد وما زالت الجاهلية تبتدع البدع الكثيرة فمنها النسىء وَهُوَ تحريم الشهر الحرام وتحليل الشهر الحرام وذلك أن العرب كانت قد تمسكت من ملة إِبْرَاهِيم صلوات اللَّه وسلامه عَلَيْهِ بتحريم الأشهر الأربعة فَإِذَا احتاجوا إِلَى تحليل المحرم للحرب أخروا تحريمه إِلَى صفر ثم يحتاجون إِلَى صفر ثم كذلك حتى تتدافع السنة وإذا حجوا قالوا لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك ومنها توريث الذكر دون الأنثى ومنها أن أحدهم كان إذا مات ورث نكاح زوجته أقرب الناس إليه ومنها البحيرة وهي الناقة تلد خمسة أبطن فَإِن كان الخامس أنثى شقوا أذنها وحرمت عَلَى النساء والسائبة من الأنعام كانوا يسيبونها ولا يركبون لها ظهرا ولا يحلبون لها لبنا والوصيلة الشاة تلد سبعة أبطن فَإِن كان السابع ذكرا أَوْ أنثى قالوا وصلت أخاها فلا تذبح وتكون منافعها للرجال دون النساء فَإِذَا ماتت أشترك فيها الرجال والنساء والحام الفحل ينتج من ظهره عشرة أبطن فيقولون قد حمى ظهره فيسيبونه لأصنامهم ولا يحمل عَلَيْهِ ثم يقولون أن اللَّه عز وجل أمرنا بهذا فذلك معنى قوله تعالى:{مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} ثم اللَّه عز وجل رد عليهم فيما حرموه من البحيرة والسائبة والوصيلة والحام وفيما أحلوه بقولهم: {خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا} قال الله تعالى: {قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ} المعنى إن كان اللَّه تعالى حرم الذكرين فكل الذكور حرام وإن كان حرم الأنثيين فكل الإناث حرام وإن كان حرم مَا اشتملت عَلَيْهِ أرحام الأنثيين فإنها تشتمل عَلَى الذكور والإناث فيكون كل جنين حراما وزين لهم إبليس قتل أولادهم فالإنسان منهم يقتل ابنته ويغذو كلبه ومن جملة مَا لبس عليهم إبليس أنهم قالوا لو شاء اللَّه مَا أشركنا أي لو لم يرض شركنا لحال بيننا وبينه فتعلقوا بالمشيئة وتركوا الأمر ومشيئة اللَّه تعم الكائنات وأمره لا يعم مراداته فليس لأحد أن يتعلق بالمشيئة بعد ورود الأمر ومذاهبهم السخيفة التي ابتعدوها كثيرا لا يصلح تضييع الزمان بذكرها ولا هي مما يحتاج إِلَى تكلف ردها.
وَقَدْ ضل فِي هَذَا الطريق خلق كثير وبه هلاك عامة الناس فإن اليهود والنصارى قلدوا آباءهم وعلماءهم فضلوا وكذلك أهل الجاهلية واعلم أن العلة التي بِهَا مدحوا التقليد بِهَا يذم لأنه إذا كانت الأدلة تشتبه والصواب يخفى وجب هجر التقليد لئلا يوقع فِي ضلال وقد ذم اللَّه سبحانه وتعالى الواقفين مَعَ تقليد آبائهم وأسلافهم فَقَالَ عز وجل: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ} المعنى أتتبعونهم وَقَدْ قَالَ عز وجل: {إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ} .
قال المصنف: أعلم أن المقلد عَلَى غير ثقة فيما قلد فيه وفي التقليد إبطال منفعة العقل لأنه إنما خلق للتأمل والتدبر وقبيح بمن أعطي شمعة يستضيء بِهَا أن يطفئها ويمشي فِي الظلمة واعلم أن عموم أصحاب المذاهب يعظم فِي قلوبهم الشخص فيتبعون قوله من غير تدبر بما قَالَ وهذا عين الضلال لأن النظر ينبغي أن يكون إِلَى القول لا إِلَى القائل كَمَا قَالَ علي رَضِيَ اللَّهُ عنه للحرث بْن حوط وَقَدْ قَالَ لَهُ أتظن أنا نظن أن طلحة والزبير كانا عَلَى باطل فَقَالَ لَهُ يا حارث إِنَّهُ ملبوس عليك إن الحق لا يعرف بالرجال أعرف الحق تعرف أهله وكان أَحْمَد بْن حنبل يَقُول من ضيق علم الرَّجُل أن يقلد فِي اعتقاده رجلا ولهذا أخذ أَحْمَد بْن حنبل يَقُول زيد فِي الجد وترك قول أبي بَكْر الصديق رَضِيَ اللَّهُ عنه فَإِن قَالَ قائل فالعوام لا يعرفون الدليل فكيف لا يقلدون فالجواب إن دليل الاعتقاد ظاهر عَلَى مَا أشرنا إليه فِي ذكر الدهرية ومثل ذلك لا يخفى عَلَى عاقل وأما الفروع فإنها لما كثرت حوادثها واعتاص عَلَى العامي عرفانها وقرب لها أمر الخطأ فيها كان أصلح مَا يفعله العامي التقليد فيها لمن قد سبر ونظر إلا أن اجتهاد العامي فِي اختيار من يقلده.
قال المصنف: وأما الطريق الثاني فَإِن إبليس لما تمكن من الأغبياء فورطهم فِي التقليد وساقهم سوق البهائم ثم رأى خلقا فيهم نوع ذكاء وفطنة فاستغواهم عَلَى قدر تمكنه منهم فمنهم من قبح عنده الجمود عَلَى التقليد وأمره بالنظر ثم استغوى كلا من هؤلاء بفن فمنهم من أراه أن الوقوف مَعَ ظواهر الشرائع عجز فساقهم إِلَى مذهب الفلاسفة ولم يزل بهؤلاء حتى أخرجهم عَن الإسلام وَقَدْ سبق ذكرهم فِي الرد عَلَى الفلاسفة ومن هؤلاء من حسن لَهُ أن لا يعتقد إلا مَا أدركته حواسه فيقال لهؤلاء بالحواس علمتم صحة قولكم فَإِن قالوا نعم كابروا لأن حواسنا لم تدرك مَا قالوا إذ مَا يدرك بالحواس لا يقع فيه خلاف وإن قالوا بغير الحواس ناقضوا قولهم ومنهم من نفره إبليس عَن التقليد وحسن لَهُ الخوض فِي علم الكلام والنظر فِي أوضاع الفلاسفة ليخرج بزعمه عَنْ غمار العوام وَقَدْ تنوعت أحوال المتكلمين وأفضى الكلام بأكثرهم إِلَى الشكوك وببعضهم إِلَى الإلحاد ولم تسكت القدماء من فقهاء هذه الأمة عَن الكلام عجزا ولكنهم رأوا أنه لا يشفي غليلا ثم يرد الصحيح عليلا فأمسكوا عنه ونهوا عَن الخوض فيه حتى قَالَ الشافعي رحمه اللَّه لان يبتلى العبد بكل مَا نهى اللَّه عنه مَا عدا الشرك خير لَهُ من أن ينظر فِي الكلام قَالَ وإذا سمعت الرَّجُل يَقُول الاسم هو المسمى أَوْ غير المسمى فاشهد أنه من أهل الكلام ولا دين لَهُ قَالَ وحكمي فِي علماء الكلام أن يضربوا بالجريد ويطاف بهم فِي العشائر والقبائل ويقال هَذَا جزاء من ترك الْكِتَاب والسنة وأخذ فِي الكلام وقال أَحْمَد بْن حنبل لا يفلح صاحب كلام أبدا علماء الكلام زنادقة.