قال المصنف رحمه اللَّه: اعلم أن أول تلبيس إبليس عَلَى الناس صدهم عَنِ العلم لأن العلم نور فَإِذَا أطفا مصابيحهم خبطهم فِي الظلم كيف شاء وَقَدْ دخل عَلَى الصوفية فِي هَذَا الفن من أبواب أحدها أنه منع جمهورهم من العلم أصلا وأراهم أنه يحتاج إِلَى تعب وكلف فحسن عندهم الراحة فلبسوا المراقع وجلسوا عَلَى بساط البطالة أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيل بْن أَحْمَدَ السمرقندي نا حمد بْن أَحْمَدَ الحداد نا أَبُو نعيم الأصفهاني ثنا أَبُو حامد بْن حيان ثنا أَبُو الْحَسَنِ البغدادي ثنا ابْنُ صَاعِد قَالَ سمعت الشافعي رَضِيَ اللَّهُ عنه يَقُول أسس التصوف عَلَى الكسل وبيان مَا قاله
الشافعي أن مقصود النفس أما الولايات وأما استجلاب الدنيا بالعلوم يطول ويتعب البدن وهل يحصل المقصود أَوْ لا يحصل والصوفية قد تعجلوا الولايات فإنهم يرون بعين الزهد واستجلاب الدنيا فإنها اليهم سريعة.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الحق نا الْمُبَارَك بْن عَبْدِ الجبار نا أَبُو الفرج الطناجيري ثنا أَبُو حفص بْن شاهين قَالَ ومن الصوفية من ذم العلماء ورأى أن الاشتغال بالعلم بطالة وقالوا إن علومنا بلا واسطة وإنما رأوا بعد الطريق فِي طلب العلم فقصروا الثياب ورقعوا الجباب وحملوا الركاء وأظهروا الزهد.
والثاني أنه قنع قوم منهم باليسير مِنْهُ ففاتهم الفضل الكثير فِي كثرته فاقتنعوا بأطراف الأحاديث وأوهمهم أن علو الإسناد والجلوس للحديث كله رياسة ودنيا وان للنفس فِي ذلك لذة وكشف هَذَا التلبيس أنه مَا من مقام عال إلا وله فضيلة وفيه مخاطرة فَإِن الإمارة والقضاء والفتوى كله مخاطرة وللنفس فيه لذة ولكن فضيلة عظيمة كالشوك فِي جوار الورد فينبغي أن تطلب الفضائل ويتقي مَا فِي ضمنها من الآفات فأما مَا فِي الطبع من حب الرياسة فإنه إنما وضع لتجتلب هذه الفضيلة كَمَا وضع حب النكاح ليحصل الولد وبالعلم يتقوم قصد العلم كَمَا قَالَ يَزِيد بْن هرون طلبنا العلم لغير اللَّه فأبى إلا أن يكون لله ومعناه أنه دلنا عَلَى الإخلاص ومن طالب نفسه بقطع مَا فِي طبعه لم يمكنه والثالث أنه أوهم قوما منهم أن المقصود العمل وما فهموا أن التشاغل بالعلم من أوفى الأعمال ثم أن العالم وأن قصر سير عمله فإنه عَلَى الجادة والعابد بغير علم عَلَى غير الطريق والرابع أنه أرى خلقا كثيرا منهم أن العالم مَا اكتسب من البواطن حتى أن أحدهم يتخايل لَهُ وسوسة فيقول حَدَّثَنِي قلبي عَنْ ربي وكان الشبلي يَقُول:
إذا طالبوني بعلم الورق ... برزت عليهم بعلم الخرق
وقد سموا علم الشريعة علم الظاهر وسموا هواجس النفوس العلم الباطن واحتجوا لَهُ بما أَخْبَرَنَا به عَبْد الحق بْن عَبْدِ الخالق نا الْحُسَيْن بْن عَلِيٍّ الطناجيري نا أَبُو حفص بْن شاهين ثنا عَلِيّ بْن مُحَمَّد بْن جَعْفَر بْن أحمد بْن عنبسة العسكري ثني دارم بْن قبيصة بْن بهشل الصنعاني قَالَ سمعت يَحْيَى بْن الْحُسَيْن بْن زيد بْن عَلِيّ قَالَ سمعت يَحْيَى بْن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حسين عَنْ يَحْيَى بْن زيد بْن عَلِيّ عَنْ أبيه عَنْ جده عَنْ الْحَسَن بْن عَلِيّ عَنْ عَلِيّ بْن أبي طالب كرم اللَّه وجهه عَنِ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ:"عِلْمُ الْبَاطِنِ سَرٌّ مِنْ سِرِّ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَحُكْمٌ مِنْ أَحْكَامِ اللَّهِ تَعَالَى يَقْذِفُهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي قُلُوبِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ أَوْلِيَائِهِ".
قَالَ المصنف رحمه اللَّه: قلت وهذا حديث لا أصل لَهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وفي إسناده مجاهيل لا يعرفون أنبأنا مُحَمَّد بْن ناصر نا أَبُو الفضل مُحَمَّد بْن عَلِيٍّ السهلكي نا أَبُو علي عَبْد اللَّهِ بْن إبراهيم النيسابوري ثنا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيّ بْن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جهضم ثنا أَبُو الفتح أَحْمَد بْن الْحَسَنِ ثنا عَلِيّ بْن جَعْفَر عَنْ أبي مُوسَى قَالَ كان فِي ناحية أبي يَزِيد رجل فقيه عالم تلك الناحية فقصد أبا يَزِيد وقال لَهُ قد حكى لي عنك عجايب فَقَالَ أَبُو يَزِيد وما لم تسمع من عجايبي أكثر فَقَالَ لَهُ علمك هَذَا يا أبا يَزِيد عَنْ من ومن ومن من فَقَالَ أَبُو يَزِيد علمي من عطاء اللَّه تعالى ومن حيث قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ عَمِلَ بِمَا يَعْلَمُ وَرَّثَهُ اللَّهُ عِلْمَ مَا لَمْ يَعْلِمُ" ومن حيث قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "العلم علمان علم ظاهر وَهُوَ حجة اللَّه تعالى عَلَى خلقه وعلم باطن وَهُوَ العلم النافع" وعلمك يا شيخ نقل من لسان عَنْ لسان التعليم وعلمي من اللَّه إلهام من عنده فَقَالَ لَهُ الشيخ علمي عَنِ الثقات عَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ جبريل عَنْ ربه عز وجل فَقَالَ لَهُ أَبُو يَزِيد يا شيخ كان للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علم عَنِ اللَّه لم يطلع عَلَيْهِ جبريل ولا ميكائيل قَالَ نعم ولكن أريد أن يصح لي علمك الذي تقول هو من عند اللَّه قَالَ نعم أبينه لك قدر مَا يستقر فِي قلبك معرفته ثم قَالَ يا شيخ علمت أن اللَّه تعالى كلم مُوسَى تكليما وكلم محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ورآه كفاحا وأن حلم الأنبياء وحي قَالَ نعم قَالَ أما علمت أن كلام الصديقين والأولياء بالهام مِنْهُ وفوائده من من قلوبهم حتى أنطقهم بالحكمة ونفع بهم الأمة ومما يؤكد مَا قلت مَا ألهم اللَّه تعالى أم مُوسَى أن تلقي مُوسَى فِي التابوت فألقته وألهم الخضر فِي السفينة والغلام والحائط قوله مُوسَى {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} وكما قَالَ أَبُو بَكْر لعائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا إن ابنة خارجة حاملة ببنت وألهم عُمَر رَضِيَ اللَّهُ عنه فنادى يا سارية الجبل أنبأنا ابْن ناصر أَنْبَأَنَا أَبُو الفضل السهلكي قَالَ سمعت أبا عَبْد اللَّهِ الشيرازي يَقُول سمعت يوسف بْن الْحُسَيْن يَقُول سمعت إِبْرَاهِيم سبتية يَقُول حضرت مجلس أبي يَزِيد والناس يقولون فلان لقي فلانا وأخذ من علمه وكتب مِنْهُ الكثير وفلان لقي فلانا فَقَالَ أَبُو يَزِيد مساكين أخذوا علمهم ميتا عَنْ ميت وأخذنا علمنا عَنِ الحي الذي لا يموت.
قَالَ المصنف رحمه اللَّه: هَذَا الفقه فِي الحكاية الأولى من قلة العلم إذ لو كان عالما لعلم أن الإلهام للشيء لا ينافي العلم ولا يتسع به عنه ولا ينكر أن اللَّه عز وجل يلهم الإنسان الشيء كَمَا قَالَ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إن فِي الأمم محدثين وإن يكن فِي أمتي فعمر" والمراد بالتحديث إلهام الخير إلا أن الملهم لو ألهم مَا يخالف العلم لم يجز لَهُ أن يعمل عَلَيْهِ وأما الخضر فقد قيل أنه نبي ولا ينكر للأنبياء الإطلاع بالوحي على العواقب وليس الإلهام من العلم فِي شيء إنما هو ثمرة لعلم والتقوى.
فيوفق صاحبهما للخير ويلهم الرشد فأما أن يترك العلم ويقول أنه يعتمد عَلَى الإلهام والخواطر فليس هَذَا بشيء إذ لولا العلم النقلي مَا عرفنا مَا يقع فِي النفس أمن الإلهام للخير أَوِ الوسوسة من الشَّيْطَان واعلم أن العلم الإلهامي الملقى فِي القلوب لا يكفي عَنِ العلم المنقول كَمَا أن العلوم العقلية لا تكفي عَنِ العلوم الشرعية فَإِن العقلية كالأغذية والشرعية كالأدوية ولا ينوب هَذَا عَنْ هَذَا وأما قوله أخذوا علمهم ميتا عَنْ ميت أصلح مَا ينسب إليه هَذَا القائل أنه مَا يدري مَا فِي ضمن هَذَا القول وإلا فهذا طعن عَلَى الشريعة أنبأنا ابْن الحصين نا ابْنُ الْمُذْهِبِ نا أَبُو حفص بْن شاهين قَالَ من الصوفية من رأى الاشتغال بالعلم بطالة وقالوا نحن علومنا بلا واسطة قَالَ وما كان المتقدمون في التصوف إلا رؤسا فِي القرآن والفقه والحديث والتفسير ولكن هؤلاء أحبوا البطالة وقال أَبُو حامد الطوسي اعلم أن ميل أهل التصوف إِلَى الالهيه دون التعليمية ولذلك لم يتعلموا ولم يحرصوا عَلَى دراسة العلم وتحصيل مَا صنفه المصنفون بل قالوا الطريق تقديم المجاهدات بمحو الصفات المذمومة وقطع العلائق كلها والإقبال عَلَى اللَّه تعالى بكنه الهمة وذلك بأن يقطع الإنسان همه عَنْ الأهل والمال والولد والعلم ويخلو نفسه فِي زاوية ويقتصر عَلَى الفرائض والرواتب ولا يقرن همه بقراءة قرآن ولا بالتأمل فِي نفسه ولا يكتب حديثا ولا غيره ولا يزال يقول الله الله اللَّه إِلَى أن ينتهي إِلَى حال يترك تحريك اللسان ثم يمحي عَنْ القلب صورة اللفظ.
قَالَ المصنف رحمه اللَّه: قلت عزيز علي أن يصدر هَذَا الكلام من فقيه فإنه لا يخفى قبحه إِنَّهُ عَلَى الحقيقة طي لبساط الشريعة التي حثت عَلَى تلاوة القرآن وطلب العلم وعلى هَذَا المذهب فقد رأيت الفضلاء من علماء الأمصار فإنهم مَا سلكوا هذه الطريق وإنما تشاغلوا بالعلم أولا وعلى مَا قد رتب أَبُو حامد تخلو النفس بوساوسها وخيالاتها ولا يكون عندها من العلم مَا يطرد ذلك فيلعب بِهَا إبليس أي ملعب فيريها الوسوسة محادثة ومناجاة ولا ننكر أنه إذا طهر القلب انصبت عَلَيْهِ أنوار الهدى فينظر بنور اللَّه إلا أنه ينبغي أن يكون تطهيره بمقتضى العلم لا بما ينافيه فَإِن الجوع الشديد والسهر وتضييع الزمان فِي التخيلات أمور ينهي الشرع عنها فلا يستفاد من صاحب الشرع شيء ينسب١ إِلَى مَا نهى عنه كَمَا لا تستباح الرخص فِي سفر قد نهى عنه ثم لا تنافي بين العلم والرياضة بل العلم يعلم كيفية الرياضة ويعين عَلَى تصحيحها وإنما تلاعب الشَّيْطَان بأقوام أبعدوا العلم وأقبلوا عَلَى الرياضة بما ينهي عنه العلم والعلم بعيد عنهم فتارة يفعلون الفعل المنهي عنه وتارة يؤثرون مَا غيره أولى مِنْهُ وإنما كان يفتي فِي هذه الحوادث العلم وَقَدْ عزلوه فنعوذ بالله من الخذلان أَنْبَأَنَا ابْن ناصر عَنْ أبي عَلِيّ بْن البنا قَالَ كان عندنا بسوق السلاح رجل كان يَقُول القرآن حجاب والرسول حجاب ليس إلا عَبْد رب فافتتن جماعة به فأهملوا العبادات واختفى مخافة القتل أنبأنا مُحَمَّد بْن عَبْدِ الملك نا أَحْمَد بْن عَلِيّ بْن ثابت نا أَبُو الْحَسَنِ مُحَمَّد بْن عُبَيْد اللَّه بْن مُحَمَّد الجبائي ثنا أحمد بْن سُلَيْمَان النجاد ثنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سُلَيْمَان ثنا هشام بْن يُونُس ثنا المحاربي عَنْ بَكْر بْن حنش عَنْ ضرار بْن عمرو قَالَ إن قوما تركوا العلم ومجالسة أهل العلم واتخذوا محاريب فصلوا وصاموا حتى يبس جلد أحدهم عَلَى عظمه وخالفوا السنة فهلكوا فوالله الذي لا إله غيره مَا عمل عامل قط عَلَى جهل إلا كان مَا يفسد أكثر مما يصلح.
فصل: وَقَدْ فرق كثير من الصوفية بين الشريعة والحقيقة وهذا جهل من قائله لأن الشريعة كلها حقائق فَإِن كانوا يريدون بذلك الرخصة والعزيمة فكلاهما شريعة وَقَدْ أنكر عليهم جماعة من قدمائهم فِي إعراضهم عَنْ ظواهر الشرع وعن أبي الْحَسَن غلام شعوانه بالبصرة يَقُول سمعت أبا الْحَسَن بْن سالم يَقُول جاء رجل إِلَى سَهْل بْن عَبْدِ اللَّهِ وبيده محبرة وكتاب فَقَالَ لسهل جئت أن أكتب شيئا ينفعني اللَّه به فَقَالَ اكتب إن استطعت أن تلقى اللَّه وبيدك المحبرة والكتاب فأفعل قَالَ يا أبا مُحَمَّد أفدني فائدة فَقَالَ الدنيا كلها جهل إلا مَا كان علما والعلم كله حجة إلا مَا كان عملا والعمل كله موقوف إلا مَا كان مِنْهُ عَلَى الكتب والسنة وتقوم السنة علىالتقوى وعن سَهْل بْن عَبْدِ اللَّهِ أنه قَالَ احفظوا السواد عَلَى البياض فما أحد ترك الظاهر إلا تزندق وعن سَهْل بْن عَبْدِ اللَّهِ أنه قَالَ مَا من طريق إِلَى اللَّه أفضل من العلم فَإِن عدلت عَنْ طريق العلم خطوة تهت فِي الظلام أربعين صباحا وعن أبي بَكْر الدقاق قَالَ سَمِعْتُ أبا سَعِيد الخراز يَقُول كل باطن يخالف ظاهرا فهو باطل وعن أبي بَكْر الدقاق أنه قَالَ كنت مارا فِي تيه بني إسرائيل فخطر ببالي أن علم الحقيقة مباين للشريعة فهتف بي هاتف من تحت شجرة كل حقيقة لا تتبعها الشريعة فهي كفر.
قَالَ المصنف رحمه اللَّه: وَقَدْ نبه الإمام أَبُو حامد الغزالي فِي كتاب الأحياء فَقَالَ من قَالَ إن الحقيقة تخالف الشريعة أَوِ الباطن يخالف الظاهر فهو إِلَى الكفر أقرب مِنْهُ إِلَى الإيمان وقال ابْن عقيل جعلت الصوفية الشريعة اسما وقالوا المراد منها الحقيقة قَالَ وهذا قبيح لأن الشريعة وضعها الحقيقة فِي غير الشريعة فمغرور مخدوع.