يعنون بذلك الجلسة التي وقعت في نهار اليوم الذي قبل يومك الذي أنت فيه. وهذا خطأ سببه الجهل باللغة وعدم التفريق بين معنى الأمس بالألف واللام وأمس بدونهما وبين اللفظين بَوْن بعيد تضل فيه القطى، فإنه إذا جاء بالألف واللام معناه الزمان الذي قبل زمانك دون تعيين يوم قريب أو بعيد وأما أمس بدون الألف واللام فمعناه نهار اليوم الذي قبل يومك. وأما الليلة التي قبل يومك فتسمى البارحة وأكثر الكتاب لا يميزون بين أمس والبارحة فيظنوهما سواء قال سليمان بن عمر الملقب بالجمل في حاشيته على تفسير الجلالين عند قوله تعالى رقم (٢٤) من سورة يونس: {فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ}.
ما نصه: قوله بالأمس المراد به الزمن الماضي لا خصوص اليوم الذي قبل يومك، وأما أمس الذي هو اسم لنهار اليوم الذي قبل يومك الذي أنت فيه، ففيه لغتان للعرب: لغة الحجاز ولغة تميم، أما أهل الحجاز فهو مبني عندهم على الكسر في حال الرفع والنصب والجر تقول مضى أمسِ، بكسر السين، فهو فاعل مبني على الكسر في محل رفع. وتقول في النصب فعلت ذلك أمس، فأمس ظرف مبني على الكسر في محل نصب وتقول ما رأيته مذ أمس فمذ حرف جر، وأمس مبني على الكسر في محل جر، وفي كل هذه الأحوال تكسر السين من أمس بدون تنوين أما لغة تميم فإنهم يجرونه على إعراب ما لا ينصرف تقول على لغتهم مضى أمسُ بالرفع بدون تنوين، فأمسُ فاعل مرفوع وعلامة رفعه الضمة الظاهرة في آخره وتقول في النصب فعلت ذلك أمسَ بدون تنوين فأمس ظرف زمان منصوب وعلامة نصبه الفتحة الظاهرة في آخره، وتقول في حال الجر ما رأيته مذ أمْسَ فمذ حرف جر وأمس مجرور وعلامة جره الفتحة النائبة عن الكسرة لأنه اسم لا ينصرف وعلى هذه قول الشاعر:لقد رأيت عجبا مذ أمسا ... يأكلن ما في رحلهن همسا
عجائزا مثل السعالى خمسا ... لا ترك الله لهن ضرسا
فقوله (مذ أمسَ) الألف زائدة لإطلاق القافية وأمس مجرور وعلامة جره الفتحة النائبة عن الكسرة لأنه اسم لا ينصرف، والسعالى جمع سعلاة، قال صاحب القاموس السِّعلاة والسعلاء بكسر السين فيهما الغول أو ساحرة الجن وتشبه المرأة العجوز عند إرادة ذمها بالسعلاة، قال الشاعر:
يا قبح الله بني السعلاة ... زيد بن عمرو من شرار النات
قاله يهجو بني زيد بن عمرو، وشبه أمهم العجوز بالسعلاة وقوله في آخر البيت من شرار النات يعني من شرار الناس بإبدال السين تاء. وقال أبو حيان في تفسيره المسمى بالبحر المجلد الخامس ص ١٤٤ في تفسير الآية المتقدمة ما نصه وقوله كأن لم تغن بالأمس مبالغة في التلف والهلاك حتى كأنها لم توجد قبل ولم يقم بالأرض بهجة خضرة نضرة تسر أهلها وهو من غنى بكذا، أقام به. قال الزمخشري والأمس مثل في الوقت كأنه قيل كأن لم تغن آنفا اهـ - وليس الأمس عبارة عن مطلق الوقت ولا هو مرادف لقوله آنفا لأن آنفا معناه الساعة. والمعنى كأن لم يكن لها وجود فيما مضى من الزمان، انتهى كلام أبي حيان وهو واضح في أن الأمس تدل على الزمان الماضي قبل النطق بها من غير تعيين ليوم بعينه وقد خطأ أبو حيان الزمخشري في التعبير عن ذلك الوقت الماضي بقوله آنفا لأن معنى، آنفا:وقت قريب جدا من وقت النطق فلذلك عبروا عنه بالساعة أي في هذه الساعة.
وهذا اللفظ بمعناه الذي أشار إليه أبو حيان موجود في سورة محمد رقم (١٦) قال تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا} معناه: من المنافقين من يستمع إليك يا محمد، وأنت تحدث الناس، حتى إذا خرجوا من عندك قال المنافقون للمؤمنين الذين آتاهم الله العلم بكتابه وسنة رسوله، ماذا قال محمد آنفا أي في هذه الساعة حين كنا عنده، ولقد صدق أبو حيان في تخطئة الزمخشري فإن الأمس تدل على وقت من الزمان الماضي غير معين، وقال الإمام بن جرير الطبري في تفسيره الجزء الحادي عشر صفحة ٧٢ ما نصه قوله أتاها أمرنا ليلا أو نهارا يقول جاء الأرض أمرنا: يعني قضاءنا بهلاك ما عليها من النبات إما ليلا أو نهارا فجعلناها: يقول فجعلنا ما عليها حصيدا يعني مقطوعة مقلوعة من أصولها وإنما هي محصودة صرفت إلى حصيد كأن لم تغن بالأمس يقول كأن لم تكن تلك الزروع والنبات على ظهر الأرض نابتة قائمة على الأرض قبل ذلك بالأمس وأصله من غني (بكسر النون) فلان بمكان كذا، يغنى (بفتح النون) به إذا أقام به كما قال النابغة الذبياني:
غنيت بذلك إذ هم لي جيرة ... منها بعطف رسالة وتودد
يقول فكذلك يأتي الغناء على ما يتباهون به من دنياهم وزخارفها فيغنيها ويهلكها كما أهلك أمرنا وقضاؤنا نبات هذه الأرض بعد حسنها وبهجتها حتى صارت كأن لم تَغْنَ بالأمس كأن لم يكن قبل ذلك نبات على ظهرها انتهى كلام ابن جرير
وعبارة البغوي والخازن موافقة لما نقلنا عن الإمام ابن جرير، ثم تأملت كلام النسفي في تفسيره فوجدته قد اقتدى بالزمخشري فأخذ كلامه بلفظه وقد رأيت ما رد به أبو حيان عليه، وقال صاحب المصباح في (أمس) اسم علَم على اليوم الذي قبل يومك ويستعمل فيما قبله مجازا وهو مبني على الكسر وبنو تميم تعربه إعراب مالا ينصرف فتقول ذهب أمس بما فيه بالرفع، قال الشاعر:
لقد رأيت عجبا مذ أمسا ... عجائزا مثل السعالى خمسا
انتهى كلام المصباح - وقال ابن هشام في القطر، ص ٢٠ وأما أمس إذا أردت به اليوم الذي قبل يومك فأهل الحجاز يبنونه على الكسر فيقولون مضى أمس واعتكفت أمس، وما رأيته مذ أمس بالكسر في الأحوال الثلاثة، قال الشاعر:
منع البقاء تقلب الشمس ... وطلوعها حمراء صافية
اليوم أعلم ما يجيء به ... وطلوعها من حيث لا تمسي
وغروبها صفراء كالورس ... ومضى بفصل قضائه أمس
انتهى كلام ابن هشام، ثم ذكر بعد ما نقلت عنه ما تقدم في كلام المصباح أن بني تميم يعربونها إعراب مالا ينصرف إلا أنه ذكر تفصيلا في ذلك لم أر نقله فراجعوه إن شئتم، وقد يدخل الألف واللام على أمس الذي يراد به نهار اليوم الذي قبل يومك الذي أنت فيه لضرورة الشعر قال: زهير بن أبي سلمى في معلقته:
وأعلم ما في اليوم والأمس قبله ... ولكنني عن علم ما في غد عم
ومن استعمال الأمس بمعنى الزمان الماضي قول بعض المحدثين:إن الوجوه التي قد ... كنت تعرفها
بالأمس كانوا هنا ... واليوم قد رحلوا
يعني الأحبة كانوا هناك فيما مضى من الزمان واليوم لا يوجدون. وخير ما يحتج به في هذا المقام قول الله تعالى المتقدم ذكره في سورة يونس:{فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ}ولا يصح بوجه أن يراد به كأن لم تكن قبل يوم واحد كما رأيت نصوص الأئمة في ذلك إذا تقرر هذا فاعلم أن صاحب لسان العرب وصاحب القاموس ذكرا كلاما مفصلا في أحكام(أمس)اللفظية ولم يحققا معناه إذا كان بالألف واللام وإذا كان بدونها وإذا أريد بأمس يوم من الأيام الماضية فإنه يعرب وينون تقول لم يقع ذلك في أي أمس من الأموس أي لم يقع هذا الأمر في أي يوم من الأيام الماضية ومن ذلك تعلم أن أمس إذا كان نكرة يجمع على أموس في جمع الكثرة وأمُس، بضم الميم، كفلس وأفلس في جمع القلة ويظهر لي أن أداة التعريف تدخل على أمس النكرة ولا تدخل على أمس إذا كان معرفة إلا لضرورة الشعر كما تقدم مثاله.