فَأُمَّةٌ أَطْبَقَتْ عَلَى أَنَّ الْإِلَهَ الْحَقَّ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ - صُلِبَ وَصُفِعَ وَسُمِّرَ وَوُضِعَ الشَّوْكُ عَلَى رَأْسِهِ، وَدُفِنَ فِي التُّرَابِ، ثُمَّ قَامَ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ وَصَعِدَ وَجَلَسَ عَلَى كُرْسِيِّهِ يُدَبِّرُ أَمْرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، لَا يَكْثُرُ عَلَيْهَا أَنْ تُطْبِقَ عَلَى جَحْدِ نُبُوَّةِ مَنْ جَاءَ بِسَبِّهَا وَلَعْنِهَا وَمُحَارَبَتِهَا وَإِبْدَاءِ مَعَايِبِهَا وَالنِّدَاءِ عَلَى كُفْرِهَا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَالشَّهَادَةِ عَلَى بَرَاءَةِ الْمَسِيحِ مِنْهَا، وَمُعَادَاتِهِ لَهَا، ثُمَّ قَاتَلَهَا وَأَذَلَّهَا وَأَخْرَجَهَا مِنْ دِيَارِهَا وَضَرَبَ عَلَيْهَا الْجِزْيَةَ، وَأَخْبَرَ أَنَّهَا مِنْ أَهْلِ الْجَحِيمِ خَالِدَةً مُخَلَّدَةً لَا يَغْفِرُ اللَّهُ لَهَا، وَأَنَّهَا شَرٌّ مِنَ الْحَمِيرِ، بَلْ هِيَ شَرُّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ.
وَكَيْفَ يُنْكَرُ عَلَى أُمَّةٍ أَطْبَقَتْ عَلَى صَلْبِ مَعْبُودِهَا وَإِلَهِهَا، ثُمَّ عَمَدَتْ إِلَى الصَّلِيبِ فَعَبَدَتْهُ وَعَظَّمَتْهُ، وَكَانَ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تَحْرِقَ كُلَّ صَلِيبٍ تَقْدِرُ عَلَى إِحْرَاقِهِ، وَأَنْ تُهِينَهُ غَايَةَ الْإِهَانَةِ إِذْ صَلَبَتْ عَلَيْهِ إِلَهَهَا الَّذِي يَقُولُونَ تَارَةً: إِنَّهُ اللَّهُ، وَتَارَةً يَقُولُونَ إِنَّهُ ابْنُهُ، وَتَارَةً يَقُولُونَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ؟ فَجَحَدَتْ حَقَّ خَالِقِهَا وَكَفَرَتْ بِهِ أَعْظَمَ كُفْرٍ وَسَبَّتْهُ أَقْبَحَ مَسَبَّةٍ، أَنْ تَجْحَدَ حَقَّ عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ وَتَكْفُرَ بِهِ.
وَكَيْفَ يَكْثُرُ عَلَى أُمَّةٍ قَالَتْ فِي رَبِّ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتِ، إِنَّهُ نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ لِيُكَلِّمَ الْخَلْقَ بِذَاتِهِ لِئَلَّا يَكُونَ لَهُمْ حُجَّةٌ عَلَيْهِ، فَأَرَادَ أَنْ يَقْطَعَ حُجَّتَهُمْ بِتَكَلُّمِهِ لَهُمْ بِذَاتِهِ ; لِتَرْتَفِعَ الْمَعَاذِيرُ عَمَّنْ ضَيَّعَ عَهْدَهُ بَعْدَ مَا كَلَّمَهُ بِذَاتِهِ؟ فَهَبَطَ بِذَاتِهِ مِنَ السَّمَاءِ، وَالْتَحَمَ فِي بَطْنِ مَرْيَمَ، فَأَخَذَ مِنْهَا حِجَابًا، وَهُوَ مَخْلُوقٌ مِنْ طَرِيقِ الْجِسْمِ، وَخَالِقٌ مِنْ طَرِيقِ النَّفْسِ، وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ جِسْمَهُ وَخَلَقَ أُمَّهُ، وَأُمُّهُ كَانَتْ قَبْلَهُ بِالنَّاسُوتِ، وَهُوَ كَانَ مِنْ قَبْلِهَا بِاللَّاهُوتِ، وَهُوَ الْإِلَهُ التَّامُّ، وَالْإِنْسَانُ التَّامُّ، وَمِنْ تَمَامِ رَحْمَتِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَلَى عِبَادِهِ أَنَّهُ رَضِيَ بِإِرَاقَةِ دَمِهِ عَنْهُمْ عَلَى خَشَبَةِ الصَّلِيبِ، فَمَكَّنَ أَعْدَاءَهُ الْيَهُودَ مِنْ نَفْسِهِ ; لِيَتِمَّ سُخْطُهُ
عَلَيْهِمْ، فَأَخَذُوهُ وَصَلَبُوهُ وَصَفَعُوهُ وَبَصَقُوا فِي وَجْهِهِ، وَتَوَّجُوهُ بِتَاجٍ مِنَ الشَّوْكِ عَلَى رَأْسِهِ، وَغَارَ دَمُهُ فِي إِصْبَعِهِ لِأَنَّهُ لَوْ وَقَعَ مِنْهُ شَيْءٌ إِلَى الْأَرْضِ لَيَبِسَ كُلُّ مَا فِي وَجْهِهَا، فَثَبَتَ فِي مَوْضِعِ صَلْبِهِ النَّوَّارُ.
وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ فِي الْحِكْمَةِ الْإِلَهِيَّةِ أَنْ يَنْتَقِمَ اللَّهُ مِنْ عَبْدِهِ الْعَاصِي الَّذِي ظَلَمَهُ، وَاسْتَهَانَ بِقَدْرِهِ، لِاعْتِلَاءِ مَنْزِلَةِ الرَّبِّ، وَسُقُوطِ مَنْزِلَةِ الْعَبْدِ، أَرَادَ سُبْحَانَهُ أَنْ يَنْتَصِفَ مِنَ الْإِنْسَانِ الَّذِي هُوَ إِلَهٌ مِثْلُهُ، فَانْتَصَفَ مِنْ خَطِيئَةِ آدَمَ بِصَلْبِ عِيسَى الْمَسِيحِ، الَّذِي هُوَ إِلَهٌ مُسَاوٍ لَهُ فِي الْإِلَهِيَّةِ، فَصُلِبَ ابْنُ اللَّهِ الَّذِي هُوَ اللَّهُ فِي السَّاعَةِ التَّاسِعَةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ. هَذِهِ أَلْفَاظُهُمْ فِي كُتُبِهِمْ.
فَأُمَّةٌ أَطْبَقَتْ عَلَى هَذَا فِي مَعْبُودِهَا، كَيْفَ يَكْثُرُ عَلَيْهَا أَنْ تَقُولَ فِي عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ أَنَّهُ سَاحِرٌ وَكَاذِبٌ وَمَلِكٌ مُسَلَّطٌ وَنَحْوُ هَذَا؟
وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ مُلُوكِ الْهِنْدِ: أَمَّا النَّصَارَى فَإِنْ كَانَ أَعْدَاؤُهُمْ مِنْ أَهْلِ الْمِلَلِ يُجَاهِدُونَهُمْ بِالشَّرْعِ فَأَنَا أَرَى جِهَادَهُمْ بِالْعَقْلِ، وَإِنْ كُنَّا لَا نَرَى قِتَالَ أَحَدٍ، لَكِنِّي أَسْتَثْنِي هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ مِنْ جَمِيعِ الْعَالَمِ، لِأَنَّهُمْ قَصَدُوا مُضَادَّةَ الْعَقْلِ وَنَاصَبُوهُ الْعَدَاوَةَ وَشَذُّوا عَنْ جَمِيعِ مَصَالِحِ الْعَالَمِ الشَّرْعِيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ الْوَاضِحَةِ، وَاعْتَقَدُوا كُلَّ مُسْتَحِيلٍ مُمْكِنًا، وَبَنَوْا مِنْ ذَلِكَ شَرْعًا لَا يُؤَدِّي إِلَى صَلَاحِ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْعَالَمِ، وَلَكِنَّهُ يُصَيِّرُ الْعَاقِلَ إِذَا شَرَعَ بِهِ أَخْرَقَ، وَالرَّشِيدَ سَفِيهًا، وَالْحَسَنَ قَبِيحًا، وَالْقَبِيحَ حَسَنًا، لِأَنَّ مَنْ كَانَ فِي أَصْلِ عَقِيدَتِهِ الَّتِي جَرَى نَشْؤُهُ عَلَيْهَا الْإِسَاءَةُ إِلَى الْخَلَّاقِ، وَالنَّيْلُ مِنْهُ، وَسَبُّهُ أَقْبَحَ مَسَبَّةٍ، وَوَصْفُهُ بِمَا يُغَيِّرُ صِفَاتِهِ الْحُسْنَى، وَأَخْلَقُ بِهِ أَنْ يَسْتَهِلَّ الْإِسَاءَةَ إِلَى مَخْلُوقٍ، وَأَنْ يَصِفَهُ بِمَا يُغَيِّرُ صِفَاتِهِ الْجَمِيلَةَ.
وَلَوْ لَمْ تَجِبْ مُجَاهَدَةُ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ إِلَّا لِعُمُومِ أَضْرَارِهِمُ الَّتِي لَا تُحْصَى وُجُوهُهُ، كَمَا يَجِبُ قَتْلُ الْحَيَوَانِ الْمُؤْذِي بِطَبْعِهِ، لَكَانُوا أَهْلًا لِذَلِكَ.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الَّذِي اخْتَارُوا هَذِهِ الْمَقَالَةَ فِي رَبِّ الْعَالَمِينَ، عَلَى تَعْظِيمِهِ وَتَنْزِيهِهِ وَإِجْلَالِهِ وَوَصْفِهِ بِمَا يَلِيقُ بِهِ، الَّذِينَ اخْتَارُوا الْكُفْرَ بِعَبْدِهِ وَرَسُولِهِ وَجَحَدُوا نُبُوَّتَهُ، وَالَّذِينَ اخْتَارُوا عِبَادَةَ صُوَرٍ خَطُّوهَا بِأَيْدِيهِمْ فِي الْحِيطَانِ، مُزَوَّقَةٍ بِالْأَحْمَرِ وَالْأَصْفَرِ وَالْأَزْرَقِ، لَوْ دَنَتْ مِنْهَا الْكِلَابُ لَبَالَتْ عَلَيْهَا، فَأَعْطَوْهَا غَايَةَ الْخُضُوعِ وَالذُّلِّ وَالْخُشُوعِ وَالْبُكَاءِ، وَسَأَلُوهَا الْمَغْفِرَةَ وَالرَّحْمَةَ وَالرِّزْقَ وَالنَّصْرَ، هُمُ الَّذِينَ اخْتَارُوا التَّكْذِيبَ بِخَاتَمِ الرُّسُلِ عَلَى الْإِيمَانِ بِهِ وَتَصْدِيقِهِ وَاتِّبَاعِهِ، وَالَّذِينَ نَزَّهُوا مَطَارِنَتَهُمْ وَبَتَارِكَتَهُمْ عَنِ الصَّاحِبَةِ وَالْوَلَدِ، وَنَحَوْهُمَا لِلْفَرْدِ الصَّمَدِ، هُمُ الَّذِينَ أَنْكَرُوا نُبُوَّةَ عَبْدِهِ وَخَاتَمِ رُسُلِهِ. وَالَّذِينَ اخْتَارُوا صَلَاةً يَقُومُ أَعْبَدُهُمْ وَأَزْهَدُهُمْ إِلَيْهَا، وَالْبَوْلُ عَلَى سَاقِهِ وَأَفْخَاذِهِ فَيَسْتَقْبِلُ الشَّرْقَ ثُمَّ يُصَلِّبُ عَلَى وَجْهِهِ، وَيَعْبُدُ الْإِلَهَ الْمَصْلُوبَ،
كتاب هداية الحيارى،ج:1،ص:251إلى254.