واما قوله:(ونهى عن شرب الخمر، وعن بيع الخمر، وعن أن يعصر الخمر، وعن أن يشترى الخمر، وعن حمولة الخمر، ونهى أن يسقى الخمر؛ فإن الله تعالى لعن الخمر، وعاصرها، ومعتصرها، وشاربها، وساقيها، وبائعها، وآكل ثمنها، وحاملها، والمحمولة إليه) .
وقال صلى الله عليه وسلم:) من شربها فهو كعابد الوثن، ولا يُقبل له صلاة أربعين يوما؛ فإن مات وفي بطنه شيء منها كان حقا على الله تعالى أن من طينة الخبال(. قيل: وما طينة الخبال؟ قال:)صديد أهل النار وما يخرج من فروج الزناة(فيجتمع ذلك في قدور جهنم فيصير حميما فيشربه أهل النار ويصهر به ما في بطونهم والجلود.
وأما قوله:) ونهى عن شرب الخمر (فكل شراب خامر العقل أو خالطه حتى شده عن أن يشرق على قلبه فهو خمر. وكذلك قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه، حيث قام على المنبر خطيبا في شأن الخمر.
فالخمر نزل تحريما أيضا كالربا، فلما كان الربا أبواب، فكذلك الخمر أجناس. فالخمر ما خامر العقل وغشاه؛ فكل شيء مغطى فهو مخمر. فالعصير إنما يغلى ويصير رجسا بما يناله من يد العدو، وذلك أن العدو خلق من مارج من نار، فإذا أدخل يده فيه فخاضه أزبد وغلى؛ فرجاسته في يده.. ألا ترى أنه قال في تنزيله:) رِجسٌ مِن عَمَلِ الشَّيطانِ فاجتَنِبوهُ) فعمله هو إدخال يده فيه حتى يغلى من حرارة يده المعلونة؛ فرجاسته منها.
فحرمه الله؛ لأنه لما دخل طار إلى رأسه، إلى معدن العقل، فأفسده، وسد الطريق إلى القلب. وذلك أن العقل في الدماغ، وشعاعه وعمله في القلب، وتدبيره في الصدر. فإذا صار سدا، بقى العقل في الدماغ منكمنا، فاستد الطريق. ولذلك قيل: سكر، أي سد. وفي ذلك قيل: سكر النهر، أي سده. وسكر غيره وساكر بنفسه. ومن ذلك قوله تعالى حكاية:(سُكَرَت أَبصارُنا)أي سدت. فكل شراب إلى، فإنما هو من وضع يد الشيطان فيه، فهو داخل مع نصيبه إلى المعدة، وآخذ للذهن، وحابس للعقل، ويبقى الإيمان منفردا في القلب. فالحمد لله على تحريمه على عباده.
قال أبو عبد الله رحمه الله: فهذا سبب من الله في الظاهر لما هو في الباطن، وذلك أن الحلاوة خرجت من الفرح في الأصل، فإذا شربه فرح، والله لا يحب الفرحين بغيره، فطبع الآدمي علىالفرح بوجود كل شيء حلو، وقد وضع في العنب عامة الفرح.
وروى عن وهب: أن آدم عليه السلام لما دخلها أول ما أكل منها العنب، فامتلأ فرحا حتى ثمل، فعندها أكل من الشجرة، ووجد العدو سبيلا إلى خدعه. فعامة الخلق هلكوا في أفراح الدنيا.. ألا ترى كيف ذمة الله تعالى:(وَفَرِحوا بِالحَياةِ الدُّنيا) .. وقال:(وَلاَ تَفرَحُوا بِمَا آتاكُم) .. وقال:(لاَ تَفرَح إِنَّ الله لاَ يُحبُّ الفَرِحين) .
فالأفراح كلها مذمومة، إلا فرحين: فرح بالله، وهو فرح الصديقين؛ وفرح بفضل الله ورحمته وهو الإسلام والقرآن.
والفرح يقسى القلب، فإذا صار فيه الشراب دب فيه الفرح، فلذلك يشتد على هؤلاء الشربة مفارقته والنزوع عنه؛ لأنهم قد وجدوا لذة الفرح. فهم يحتملون مرارته، وأذاه، وغائلته، وصوره العاجل؛ ويخاطرون بما أمامهم من الهول العظيم، والعذاب الأليم، والوعيد الذاهل لأهله. فإذا طبخ بالنار لم يبق للشيطان نصيب، ولم يكن له سلطان في صدره، حتى يجىء بتلك النار، وهي نار ذات زينة وبهجة وشهوة، فيأخذ منها العدو، وفتنتها في الصدر في وقت سلطانه، وإنما يكون سلطانه مع نصيبه من الشراب، فلم يقدر على فتنته إذا ذهب نصيبه.
وأما قوله:(ونَهى أن يعصر الخمر) فهو أن يعصر العنب على نية الخمر، فهو حرام عليه، وأما شرب العصيرن فلا بأس به مالم يغل. وإنما نهى عن أن يعصر الخمر، أى للخمر. وكذلك بيعه وشراؤه وثمنه وحمولته.
وقوله:(يسقى الصبيان) ، يعني في الدواء، وأن الله لم يجعل الشفاء فيما حرم عليكم.
وقوله:(عاصرها ومعتصرها) ، إذا عصرها للخمر. والعاصر هو الفاعل له، والمعتصر هو الذي يعصر له. وشاربها، وساقيها، وحاملها؛ فهؤلاء شركاء في هذه الحرمة.
وقال:(شاربُها كعابد الوثن) لا عقل لهما، قد أحاط فرح العباد لهما بقلبه، وشارب الحمر قد صار في هذا الوقت مسلوب العقل ممتلئا فرحا من ذلك الشراب، فاشتبها في صفة الحال، لا في الملة؛ لأن هذا مسلم، وذاك كافر. ولكنه شبهه به لسلب العقل وفرحه به، فكان المشركون يفرحون بآلهتهم.. ألا ترى إلى قوله (كَأَنَّهُم إٍلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ) ، والوفض السرعة في النهوض كالرمل. وروى عن الحسن رحمه الله أنه قال: يبتدرون آلهتهم أيهم يستلمها قبل.