وأما قوله:(ونهى عن قتل النملة، والهدهد، والصرد، والنحل) .
فإن الدواب خلقت من الأرض من الموضع الذي رفعت منه تربة آدم عليه السلام، فجعلت سخرة له. فأما ما كان من التربة مما يلي أسفل آدم عليه السلام فهو السباع وما لا يؤكل، وما كان مما يلي أعلاه فذلك مما يؤكل، والحمامة من موضع القلب، فلذلك يؤنس بها وتأنس بالآدميين، وهو قوله تعالى:(أَوَ لَم يَرَوا أَنَّا خَلَقنا لَهُم مِمَّ عَمِلَت أَيدينّا أَنعاماً فَهُم لَهَا مالِكُونَ) . فعمل الله كان في تربة آدم عليه السلام، ثم خلق مما عملت الأيدي هذه الدواب، أي من ذلك الموضع. ثم كل دابة راجعة إلى تربتها، وإلى جوهرها من الأرض.
وقسم الله الخير والشر بين خلقه، فوضع الخير في بعض، والشر في بعض.. ألا ترى أن الضفدع كيف نصرت إبراهيم عليه السلام بالماء الذي نقل بفمه ليطفئ ألا ترى أن الوزع كيف نفخ النار على إبراهيم عليه السلام عداوة له، وولاية لإبليس؛ لأنه من جنس الحية؟ وألا ترى أن الغراب كيف ترك أمر الرسول عليه السلام، وأقبل على جيفة حمامة، وجفا حيث خرج من السفينة يوم استوت سفينة نوح عليه السلام على الجودي؟ وألا ترى أن الحمامة كيف أسرعت الرجعة وفي منقارها ورق الزيتون، وعلى رجليها أثر الطين؛ فهذه جواهر الأرض، فالنملة كيسة.. ألا ترى أنها تجمع في صيفها لشتائها حرزا وأخذا بالحزم، فلم يكن هذا لها من بينالدواب إلا ولها هناك فضل معرفة وبصر؟ ألا ترى كيف قالت عندما أقبل سليمان عليه السلام في موكبه حتى تبسم نبي الله ضاحكا من قولها، فقالت:(يا أَيُّهَا النَّملُ اِدخلُوا مَسَاكِنَكُم لاَ يَحطِمَنَّكُم سُلَيمانُ وَجُنودُهُ وَهُم لاَ يَشعُرُونَ). ألا ترى أنه فزع عندما سمع هذه الكلمة إلى إيزاع الشكر؛ لأنها ذكرت الحطم، ثم نسبته إلى أن يفعل ذلك.
وأما الهدهد، فحدثنا سليمان بن حميد أبو الربيع الأيادي، حدثنا عون بن عمارة، عن الحسن الجعدي، عن الزبير بن حريث، عن عكرمة، قال: إنما صرف الله شر سليمان عليه السلام عن الهدهد لأنه كان بارا بأبويه.
وسمعته يقول: إن ملكا خرج إلى الصيد في يوم صحو، فقابله حراث يرجع مع آلته إلى بيته، فقال للملك: ارجع فهذا يوم مطير، فلم يقبل الأمير ما قال ومضى، وكان ساعة جاء المطر؛ فقال الأمير: هو رجل منجم، علىّ به.
فقال: لست بمنجم، ولكن أعلم علم النمل أنه يدخل طعامه يوما يعلم أنه يكون مطرا في بيته، ويخرجه يوما يعلم أنه لا يكون مطرا؛ فهم منجم لا أنا.
وأما الصرد، فحدثنا سفيان بن وكيع، حدثنا ابن مهدي، عن قرة بن خالد، عن موسى بن أبي غليط، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: الصرد أول طير صام. وروى في الخبر: أنه كان دليل إبراهيم عليه السلام حيث سار من الشام لبناء الكعبة.
وأما النحلة، فمذكورة في التنزيل بالطاعة لله تعالى، فقال:(وَأَوحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحلِ أَنِ اتَّخِذي مِنَ الجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعرِشُونَ) إلى قوله: (ذُلُلاً) فالثمرات منها ما هو حلو، ومنها مر، ومنها بشع، ومنه حامض، ومنه حار، ومنه رخو لين؛ فذلت لله فأكلت من الكل وتركت شهوتها، فجعل الله ما في بطنها عسلا حلوا كله، وصير فيه شفاء للناس؛ لأنها لم تأكل بنهمة ولا شهوة، وإنما أكلته طاعة وذلة لربها؛ فصارت بذلك سالكة لسبل ربها بترك النهمة والهوى؛ يعلم العباد أن السالك لسبيله من ترك النهمة في الأمور.
فهذه زنابير احتملت من ربها كل هذا الثناء، ونالت هذه المرتبة؛ فكيف بالآدمي المكرم المفضل على البرية، وقد قال الله تعالى:(وَفَضَّلناهُم عَلَى كَثيرٍ مِمَّن خَلَقنا تَفضيلاُ) .