[فَصْلٌ فِي حِفْظِ اللِّسَانِ وَتَوَقِّي الْكَلَامِ]
قَالَ الْخَلَّالُ فِي تَوَقِّي اللِّسَانِ وَحِفْظِ الْكَلَامِ أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرِ بْنِ مَنْصُورٍ الصَّائِغُ سَمِعْتُ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ وَقَدْ شَيَّعْتُهُ وَهُوَ يَخْرُجُ إلَى الْمُتَوَكِّلِ فَلَمَّا رَكِبَ الْجَمَلَ الْتَفَتَ إلَيْنَا فَقَالَ: انْصَرِفُوا مَأْجُورِينَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَرَوَى الْخَلَّالُ عَنْ عَطَاءٍ قَالَ كَانُوا يَكْرَهُونَ فُضُولَ الْكَلَامِ، وَكَانُوا يَعُدُّونَ فُضُولَ الْكَلَامِ مَا عَدَا كِتَابَ اللَّهِ أَنْ نَقْرَأَهُ أَوْ أَمْرًا بِمَعْرُوفٍ، أَوْ نَهْيًا عَنْ مُنْكَرٍ أَوْ أَنْ تَنْطِقَ فِي مَعِيشَتِكَ بِمَا لَا بُدَّ لَكَ مِنْهُ.
وَقَالَ أَحْمَدُ ثنا أَبُو دَاوُد ثنا شُعْبَةُ حَدَّثَنِي قَيْسُ بْنُ مُسْلِمٍ سَمِعْتُ طَارِقَ بْنَ شِهَابٍ يُحَدِّثُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ: إنَّ الرَّجُلَ يَخْرُجُ مِنْ بَيْتِهِ وَمَعَهُ دِينُهُ فَيَلْقَى الرَّجُلَ إلَيْهِ حَاجَةٌ فَيَقُولُ لَهُ إنَّكَ كَيْتَ إنَّكَ كَيْتَ يُثْنِي عَلَيْهِ وَعَسَى أَنْ لَا يَحْظَى مِنْ حَاجَتِهِ بِشَيْءٍ فَيُسْخِطَ اللَّهَ عَلَيْهِ وَمَا مَعَهُ مِنْ دِينِهِ شَيْءٌ.
وَرَوَى الْخَلَّالُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ قَالَ عَجِبْتُ مِنْ اتِّفَاقِ الْمُلُوكِ الْأَرْبَعَةِ كُلِّهِمْ عَلَى كَلِمَةٍ قَالَ كِسْرَى: إذَا قُلْتُ نَدِمْتُ وَإِذَا لَمْ أَقُلْ لَمْ أَنْدَمْ وَقَالَ قَيْصَرُ أَنَا عَلَى رَدِّ مَا لَمْ أَقُلْ أَقْدَرُ مِنِّي عَلَى رَدِّ مَا قُلْتُ وَقَالَ مَلِكُ الْهِنْدِ عَجِبْتُ لِمَنْ تَكَلَّمَ بِكَلِمَةٍ إنْ هِيَ رُفِعَتْ تِلْكَ الْكَلِمَةُ ضَرَّتْهُ، وَإِنْ هِيَ لَمْ تُرْفَعْ لَمْ تَنْفَعْهُ، وَقَالَ مَلِكُ الصِّينِ: إنْ تَكَلَّمْتُ بِكَلِمَةٍ مَلَكَتْنِي وَإِنْ لَمْ أَتَكَلَّمْ بِهَا مَلَكْتُهَا.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي هَذَا الْمَعْنَى أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ فَصَحَّ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ» وَهُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ.
وَعَنْ ابْنِ عَمْرٍو مَرْفُوعًا «مَنْ صَمَتَ نَجَا» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إلَّا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ لَهِيعَةَ.
وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: " إذَا أَصْبَحَ ابْنُ آدَمَ قَالَتْ الْأَعْضَاءُ كُلُّهَا لِلِّسَانِ اتَّقِ اللَّهَ فِينَا فَإِنَّمَا نَحْنُ بِكَ فَإِنْ اسْتَقَمْتَ اسْتَقَمْنَا وَإِنْ اعْوَجَجْتَ اعْوَجَجْنَا " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مَرْفُوعًا قَالَ وَهُوَ أَصَحُّ.
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا «إنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مَا يَتَبَيَّنُ فِيهَا يَزِلُّ بِهَا فِي النَّارِ أَبْعَدَ مِمَّا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ. وَمَعْنَى مَا يَتَبَيَّنُ فِيهَا لَا يَتَأَمَّلُهَا وَيَجْتَهِدُ فِيهَا وَفِيمَا تَقْتَضِيهِ. وَفِي رِيَاضِ الصَّالِحِينَ لَا يَتَبَيَّنُ فِيهَا أَخَيْرٌ أَمْ لَا؟ وَفِي شَرْحِ مُسْلِمٍ فِي أَوَاخِرِ الْكِتَابِ مَعْنَاهُ لَا يَتَدَبَّرُهَا وَيُفَكِّرُ فِي قُبْحِهَا وَمَا يَخَافُ أَنْ يَتَرَتَّبَ عَلَيْهَا. وَلِأَحْمَدَ وَالْبُخَارِيِّ «إنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا يَرْفَعُهُ اللَّهُ بِهَا، وَإِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا يَهْوِي بِهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ» وَلِلتِّرْمِذِيِّ وَابْنِ مَاجَهْ «إنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ لَا يَرَى بِهَا بَأْسًا يَهْوِي بِهَا سَبْعِينَ خَرِيفًا فِي النَّارِ» فَهَذِهِ الرِّوَايَةُ إنْ صَحَّتْ مَعْنَاهَا لَا يَتَأَمَّلُهَا وَيَجْتَهِدُ فِيهَا وَفِيمَا تَقْتَضِيهِ بَلْ قَالَهَا فِي بَادِئِ الرَّأْيِ وَرَوَاهُ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ بِلَالِ بْنِ الْحَارِثِ وَفِيهِ «مَا كَانَ يَظُنُّ أَنْ تَبْلُغَ مَا بَلَغَتْ» ، وَفِيهِ «يَكْتُبُ اللَّهُ لَهُ بِهَا رِضْوَانَهُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» ، وَفِيهِ «يَكْتُبُ اللَّهُ لَهُ بِهَا سَخَطَهُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ.
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا «مِنْ حُسْنِ إسْلَامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ» رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: غَرِيبٌ وَهُوَ فِي الْمُوَطَّأِ وَلِلتِّرْمِذِيِّ أَيْضًا عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ مُرْسَلًا وَلِلتِّرْمِذِيِّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ بَشَّارٍ وَغَيْرِ وَاحِدٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ خُنَيْسٍ الْمَكِّيِّ سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ حَسَّانَ الْمَخْزُومِيَّ حَدَّثَتْنِي أَمُّ صَالِحٍ عَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ شَيْبَةَ عَنْ أَمِّ حَبِيبَةَ مَرْفُوعًا.
«كُلُّ كَلَامِ ابْنِ آدَمَ عَلَيْهِ لَا لَهُ إلَّا أَمْرًا بِمَعْرُوفٍ أَوْ نَهْيًا عَنْ مُنْكَرٍ أَوْ ذِكْرَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ» وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ ابْنِ الْيَسَارِ. أُمُّ صَالِحٍ تَفَرَّدَ عَنْهَا سَعِيدٌ وَبَاقِيهِ حَسَنٌ قَالَ التِّرْمِذِيُّ: غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إلَّا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ خُنَيْسٍ.
وَفِي الْمُوَطَّأِ عَنْ أَسْلَمَ أَنَّ عُمَرَ دَخَلَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ وَهُوَ يَجْبِذُ لِسَانَهُ فَقَالَ عُمَرُ: مَهْ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: إنَّ هَذَا أَوْرَدَنِي الْمَوَارِدَ. وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَلْخٍ الْبَغْدَادِيُّ صَاحِبِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ حَفْصٍ ثنا إبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَاطِبٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ ابْن عُمَرَ مَرْفُوعًا «لَا تُكْثِرُوا الْكَلَامَ بِغَيْرِ ذِكْرِ اللَّهِ فَإِنَّ كَثْرَةَ الْكَلَامِ بِغَيْرِ ذِكْرِ اللَّهِ قَسْوَةٌ لِلْقَلْبِ، وَإِنَّ أَبْعَدَ النَّاسِ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى الْقَلْبُ الْقَاسِي» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ أَيْضًا عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ النَّضْرِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ إبْرَاهِيمَ بِمَعْنَاهُ وَقَالَ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إلَّا مِنْ حَدِيثِ إبْرَاهِيمَ وَإِبْرَاهِيمُ لَمْ أَجِدْ فِيهِ كَلَامًا وَحَدِيثُهُ حَسَنٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ فَضَالَةَ بْنِ الْفَضْلِ الْكُوفِيِّ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَيَّاشٍ عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «كَفَى بِكَ إثْمًا أَنْ لَا تَزَالَ مُخَاصِمًا» أَبُو وَهْبٍ لَا يُعْرَفُ تَفَرَّدَ بِهِ عَنْهُ ابْنُ عَيَّاشٍ قَالَ التِّرْمِذِيُّ: غَرِيب لَا نَعْرِفُهُ إلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
وَفِي الْمُوَطَّأِ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ قَالَ: إنَّ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَقِيَ خِنْزِيرًا عَلَى الطَّرِيقِ فَقَالَ لَهُ: اُنْفُذْ بِسَلَامٍ، فَقِيلَ لَهُ أَتَقُولُ هَذَا لِلْخِنْزِيرِ؟ فَقَالَ عِيسَى: إنِّي أَكْرَهُ وَأَخَافُ أَنْ أُعَوِّدَ لِسَانِي النُّطْقَ بِالسُّوءِ.
وَلِمُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا «إذَا قَرَأَ ابْنُ آدَمَ السَّجْدَةَ فَسَجَدَ اعْتَزَلَ الشَّيْطَانُ يَبْكِي يَقُولُ يَا وَيْلَهُ» الْحَدِيثَ فَهَذَا مِنْ آدَابِ الْكَلَامِ إذَا كَانَ فِي الْحِكَايَةِ عَنْ الْغَيْرِ سُوءٌ وَاقْتَضَى ذَلِكَ رُجُوعُ الضَّمِيرِ إلَى الْمُتَكَلِّمِ لَمْ يَأْتِ الْحَاكِي بِالضَّمِيرِ عَنْ نَفْسِهِ صِيَانَةً لَهَا عَنْ صُورَةِ إضَافَةِ السُّوءِ إلَيْهَا.
وَفِي رِوَايَةٍ يَا وَيْلِي يَجُوزُ بِفَتْحِ اللَّامِ وَبِكَسْرِهَا، وَرَأَيْتُ فِي بَعْضِ النُّسَخِ يَا وَيْلَتِي وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ لَا خَيْرَ فِي فُضُولِ الْكَلَامِ.
وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ مَنْ كَثُرَ كَلَامُهُ كَثُرَ سَقْطُهُ.
وَقَالَ يَعْقُوبُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لِبَنِيهِ يَا بَنِيَّ إذَا دَخَلْتُمْ عَلَى السُّلْطَانِ فَأَقِلُّوا الْكَلَامَ. وَقَالُوا أَحْسَنُ الْكَلَامِ مَا كَانَ قَلِيلُهُ يُغْنِيكَ عَنْ كَثِيرِهِ وَمَا ظَهَرَ مَعْنَاهُ فِي لَفْظِهِ، وَقَالُوا الْعَيِيُّ النَّاطِقُ أَعْيَا مِنْ الْعَيِيِّ السَّاكِتِ، أَوْصَى ابْنُ عَبَّاسٍ بِخَمْسِ كَلِمَاتٍ فَقَالَ: إيَّاكَ وَالْكَلَامَ فِيمَا لَا يَعْنِيكَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ فَرُبَّ مُتَكَلِّم فِيمَا لَا يَعْنِيهِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ قَدْ عَنَتَ، وَلَا تُمَارِ سَفِيهًا وَلَا فَقِيهًا، فَإِنَّ الْفَقِيهَ يَغْلِبُكَ وَالسَّفِيهَ يُؤْذِيكَ، وَاذْكُرْ أَخَاكَ إذَا غَابَ عَنْكَ بِمَا تُحِبُّ أَنْ تُذْكَرَ بِهِ، وَدَعْ مَا تُحِبُّ أَنْ يَدَعَكَ مِنْهُ، وَاعْمَلْ عَمَلَ رَجُلٍ يَعْلَمُ أَنَّهُ يُجَازَى بِالْإِحْسَانِ وَيُكَافَأُ.
وَقَالَ بَعْضُ قُضَاةِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَقَدْ عَزَلَهُ لِمَ عَزَلْتَنِي؟ فَقَالَ بَلَغَنِي أَنَّ كَلَامَكَ مَعَ الْخَصْمَيْنِ أَكْثَرُ مِنْ كَلَامِ الْخَصْمَيْنِ، وَتَكَلَّمَ رَبِيعَةُ يَوْمًا فَأَكْثَرَ الْكَلَامَ وَأَعْجَبَتْهُ نَفْسُهُ وَإِلَى جَنْبِهِ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ لَهُ: يَا أَعْرَابِيُّ مَا تَعُدُّونَ الْبَلَاغَةَ؟ قَالَ: قِلَّةُ الْكَلَامِ قَالَ: فَمَا تَعُدُّونَ السَّعْيَ فِيكُمْ؟ قَالَ: مَا كُنْتَ فِيهِ مُنْذُ الْيَوْمِ قَالَ بَعْضُهُمْ.
عَجِبْتُ لِإِدْلَالِ الْعَيِيِّ بِنَفْسِهِ ... وَصَمْتِ الَّذِي قَدْ كَانَ بِالْقَوْلِ أَعْلَمَا
وَفِي الصَّمْتِ سَتْرٌ لِلْعَيِيِّ وَإِنَّمَا ... صَحِيفَةُ لُبِّ الْمَرْءِ أَنْ يَتَكَلَّمَا
وَكَانَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ يَعِيبُ كَثْرَةَ الْكَلَامِ وَيَقُولُ لَا يُوجَدُ إلَّا فِي النِّسَاءِ أَوْ الضُّعَفَاءِ، وَذَمَّ أَعْرَابِيٌّ رَجُلًا فَقَالَ هُوَ مِمَّنْ يَنْأَى الْمَجْلِسَ أَعْيَى مَا يَكُونُ عِنْدَ جُلَسَائِهِ، وَأَبْلَغُ مَا يَكُونُ عِنْد نَفْسِهِ وَقَالَ الْمُفَضَّلُ الضَّبِّيُّ لِأَعْرَابِيٍّ مَا الْبَلَاغَةُ؟ فَقَالَ: الْإِيجَازُ فِي غَيْرِ عَجْزٍ، وَالْإِطْنَابُ فِي غَيْرِ خَطَلٍ.
وَقَالَ الْأَحْنَفُ الْبَلَاغَةُ الْإِيجَازُ فِي اسْتِحْكَامِ الْحُجَّةِ وَالْوُقُوفُ عِنْدَ مَا يُكْتَفَى بِهِ.
وَقَالَ خَالِدُ بْنُ صَفْوَانَ: لِرَجُلٍ كَثِيرٌ كَلَامُهُ: إنَّ الْبَلَاغَةَ لَيْسَتْ بِكَثْرَةِ الْكَلَامِ، وَلَا بِخِفَّةِ اللِّسَانِ، وَلَا بِكَثْرَةِ الْهَذَيَانِ، وَلَكِنَّهُ إصَابَةُ الْمَعْنَى وَالْقَصْدُ إلَى الْحُجَّةِ، وَسُئِلَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ مَا الْبَلَاغَةُ؟ قَالَ: " الْقَصْدُ إلَى عَيْنِ الْحُجَّةِ بِقَلِيلِ اللَّفْظِ "، وَقِيلَ لِبَعْضِ الْيُونَانِيَّةِ مَا الْبَلَاغَةُ؟ قَالَ: " تَصْحِيحُ الْأَقْسَامِ، وَاخْتِيَارُ الْكَلَامِ "، وَقِيلَ لِرَجُلٍ مِنْ الرُّومِ مَا الْبَلَاغَةُ؟ فَقَالَ: " حُسْنُ الِاقْتِصَادِ عِنْدَ الْبَدِيهَةِ، وَإِيضَاحُ الدَّلَالَةِ، وَالْبَصَرُ بِالْحُجَّةِ، وَانْتِهَازُ مَوْضِعِ الْفُرْصَةِ "، وَفِي الْخَبَرِ الْمَأْثُورِ " الْخَيْرُ كُلُّهُ فِي ثَلَاثٍ: السُّكُوتِ، وَالْكَلَامِ، وَالنَّظَرِ، فَطُوبَى لِمَنْ كَانَ سُكُوتُهُ فِكْرَةً، وَكَلَامُهُ حِكْمَةً، وَنَظَرُهُ عِبْرَةً ".
وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: سَمِعْتُ مَالِكًا يَقُولُ: لَا خَيْرَ فِي كَثْرَةِ الْكَلَامِ وَاعْتُبِرَ ذَلِكَ بِالنِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ. أَعْمَالُهُمْ أَبَدًا يَتَكَلَّمُونَ وَلَا يَصْمُتُونَ.
وَقَالَ الشَّاعِرُ:
وَإِنَّ لِسَانَ الْمَرْءِ مَا لَمْ يَكُنْ لَهُ ... حَصَاةٌ عَلَى عَوْرَاتِهِ لَدَلِيلُ
وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ هَانِئٍ:
إنَّمَا الْعَاقِلُ مَنْ ... أَلْجَمَ فَاهُ بِلِجَامِ
مُتْ بِدَاءِ الصَّمْتِ خَيْرٌ ... لَكَ مِنْ دَاءِ الْكَلَامِ
وَقَالَهُ آخَرُ:
يَمُوتُ الْفَتَى مِنْ عَثْرَةٍ بِلِسَانِهِ ... وَلَيْسَ يَمُوتُ الْمَرْءُ مِنْ عَثْرَةِ الرِّجْلِ
فَعَثْرَتُهُ مِنْ فِيهِ تَرْمِي بِرَأْسِهِ ... وَعَثْرَتُهُ بِالرِّجْلِ تَبْرَى عَلَى مَهْلِ
وَذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ مَا أَنْشَدَهُ بَعْضُهُمْ:
سَأَرْفُضُ مَا يُخَافُ عَلَيَّ مِنْهُ ... وَأَتْرُكُ مَا هَوِيتُ لِمَا خَشِيتُ
لِسَانُ الْمَرْءِ يُنْبِئُ عَنْ حِجَاهُ ... وَعِيُّ الْمَرْءِ يَسْتُرُهُ السُّكُوتُ.
قَدْ سَبَقَ الْكَلَامُ فِي الْوَعْدِ وَالصِّدْقِ وَالْكَذِبِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَالْأَخْبَارِ فِي ذَلِكَ، وَقَدْ أَثْنَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى إسْمَاعِيلَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَقَالَ: {إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ} [مريم: ٥٤] .
وَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ عَانَى فِي الْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ مَا لَمْ يُعَانِهِ غَيْرُهُ وَعَدَ رَجُلًا فَانْتَظَرَهُ حَوْلًا، رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقِيلَ انْتَظَرَهُ اثْنَيْ عَشَرَ يَوْمًا، وَقِيلَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَقَدْ رُوِيَ «عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ انْتَظَرَ رَجُلًا وَعَدَهُ فِي مَوْضِعٍ مِنْ طُلُوعِ الشَّمْسِ إلَى غُرُوبِهَا» . قَالَ الشَّاعِرُ:
لِسَانُكَ أَحْلَى مِنْ جَنَى النَّحْلِ وَعْدُهُ ... وَكَفَّاكَ بِالْمَعْرُوفِ أَضْيَقُ مِنْ قُفْلِ
وَقَالَ آخَرُ:
لِلَّهِ دَرُّكَ مِنْ فَتًى ... لَوْ كُنْتَ تَفْعَلُ مَا تَقُولْ
وَقَالَ الْآخَرُ:
لَا خَيْرَ فِي كَذِبِ الْجَوَادِ ... وَحَبَّذَا صِدْقُ الْبَخِيلْ
الْخَيْرُ أَنْفَعُهُ لِلنَّاسِ أَعْجَلُهُ ... وَلَيْسَ يَنْفَعُ خَيْرٌ فِيهِ تَطْوِيلُ.
الآداب الشرعية والمنح المرعية،ج:1،ص:34إلى38.