ينادي الله عباده بوصف الإيمان، ذلكم الوصف العظيم الذي إذا حققه المسلم في نفسه حمله على فعل الأوامر واجتناب النواهي، فينهاهم عن التقدم بين يدي الله ورسوله في أي حال من الأحوال.
قال ابن جرير الطبري:«يعني تعالى ذكره بقوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ يا أيها الذين أقروا بوحدانية الله، وبنبوة محمد ﷺ ﴿لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾، يقول: لا تعجلوا بقضاء أمر في حروبكم أو دينكم قبل أن يقضي الله لكم فيه ورسوله، فتقضوا بخلاف أمر الله ورسوله … ».
وفي قوله: ﴿لَا تُقَدِّمُوا﴾ قراءتان.
قرأ يعقوب (١) ﴿لا تَقدَّموا﴾ بفتح التاء والدال، وذلك على حذف إحدى التاءين، لأن الأصل (لا تتقدموا) مضارع "تقدموا".
وقرأ الباقون ﴿لَا تُقَدِّمُوا﴾ بضم التاء وكسر الدال، مضارع "قدَّم" مضعف العين. قال الفراء (٢): كلاهما صواب، يقال: قدمت وتقدمت، وقال
(١) هو يعقوب بن إسحاق بن زيد بن عبد الله مولى الحضرمين، الإمام قارئ البصرة في عصره، قرأ القرآن على أبي المنذر سلام بن سليم، وأبي الأشهب، ومهران بن ميمون، وغيرهم، وسمع من حمزة الزيات، وشعبة، وقرأ عليه روح، ورويس، وغيرهما، مات سنة خمس ومائتين. انظر: معرفة القراء (١/ ١٥٧). (٢) هو يحيى بن زياد بن عبد الله بن منظور الديلمي، الأسدي بالولاء، أبو زكريا، المعروف بالفراء، إمام الكوفيين، وأعلمهم بالنحو، واللغة، وفنون الأدب، ولد بالكوفة سنة (١٤٤ هـ)، له معاني القرآن، ومشكل اللغة، وغيرها، مات في طريق مكة سنة (٢٠٧ هـ). انظر: الأعلام (٨/ ١٤٥).
الزجاج: كلاهما واحد (١).
قلت: وعند التأمل يتبين أن الأمر كما قال الزجاج، وأن حاصل معنى القراءتين ومؤداهما واحد.
ومعنى الآية: لا تقطعوا أمرا دون الله ورسوله، ولا تتعجلوا به (٢).
ثم قال ابن جرير:«وقوله: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ يقول: وخافوا الله أيها الذين آمنوا في قولكم، أن تقولوا ما لم يأذن لكم به الله ولا رسوله، وفي غير ذلك من أموركم، وراقبوه إن الله سميع لما تقولون، عليم بما تريدون بقولكم إذا قلتم، لا يخفى عليه شيء من ضمائر صدوركم، وغير ذلك من أموركم، وأمور غيركم»(٣).
[المطلب الثاني: معنى التقدم لغة وفي أقوال المفسرين]
[أولا: معنى التقدم لغة]
أصل هذه الكلمة «قدم» يدل على السبق، قاله ابن فارس (٤).
وبذلك فسره الفيروزابادي (٥)، فقال بعد ذكر قوله تعالى: ﴿لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ
(١) انظر: زاد المسير ٧/ ٤٥٥، ٤٥٦. (٢) انظر: المغني في توجيه القراءات العشر (٣/ ٢٥٨)، والمبسوط في القراءات العشر ص (٤١٢). (٣) انظر: جامع البيان للطبري (٢٦/ ١١٦، ١١٧). (٤) هو أحمد بن فارس بن زكريا القزويني، الرازي، من أئمة اللغة، والأدب، قرأ على البديع الهمداني، والصاحب بن عباد، وغيرهما، له كتاب معجم مقاييس اللغة، والمجمل، مات سنة ٣٩٥ هـ. انظر: الأعلام (١/ ١٩٣). وانظر قوله في: معجم مقاييس اللغة (٥/ ٦٥). (٥) هو مجد الدين، محمد بن يعقوب بن محمد بن إبراهيم بن عمر، أبو طاهر الفيروزابادي، من أئمة اللغة، والأدب، ولد بكارزين من أعمال شوران، سنة (٧٢٩ هـ)، رحل إلى العراق، والشام، ومصر، ثم استقر في زبيد باليمن، له كتاب: القاموس المحيط، وبصائر ذوي التمييز، وغيرهما، مات سنة (٨١٧ هـ). انظر: الأعلام (٧/ ١٤٦).
يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾: «وتحقيقه: لا تسبقوه بالقول والحكم، بل افعلوا ما يأمركم به، كما يفعله العباد المكرمون (١)، كما قال تعالى: ﴿لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْل﴾ [الأنبياء: ٢٧](٢). ونحوه قول أبي عبيدة (٣): «تقول العرب: فلان يقدم بين يدي الإمام وبين يدي أبيه، يتعجل بالأمر والنهي دونه»(٤).
[ثانيا: أقوال المفسرين في معنى التقدم]
لقد تعددت أقوال المفسرين في المراد بالتقدم، وإن كانت تعود إلى شيء واحد، كما سنذكره بعد ذلك، وإليكها:
١ - قال ابن عباس في رواية علي بن أبي طلحة (٥) في قوله: ﴿لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ لا تقولوا خلاف الكتاب والسنة.
٢ - وقال ابن عباس في رواية عطية العوفي (٦): نهوا أن يتكلموا بين
(١) يعني الملائكة. (٢) انظر: بصائر ذوي التمييز (٤/ ١٤٦). (٣) هو أبو عبيدة، معمر بن المثنى التيمي بالولاء، البصري، النحوي، من أئمة العلم بالأدب، واللغة، مولده ووفاته بالبصرة، وكانت ولادته سنة (١١٠ هـ)، له مجاز القرآن، مات سنة (٢٠٩) هـ. انظر: سير أعلام النبلاء (٩/ ٤٤٥)، والأعلام (٧/ ٢٧٢). (٤) انظر: مجاز القرآن (٢/ ٢١٩). (٥) هو علي بن أبي طلحة، سالم مولى بني العباس، سكن حمص، أرسل عن ابن عباس، ولم يره، صدوق قد يخطئ، مات سنة ثلاث وأربعين ومائة. انظر: التقريب (٦٩٨). (٦) هو عطية بن سعد بن جُنادة، بضم الجيم، العوفي، الجدلي، الكوفي، أبو الحسن، صدوق يخطئ كثيرا، وكان شيعيا مدلسا، مات سنة إحدى عشر ومائة هـ. انظر: التقريب ص (٦٨٠).
يدي كلامه.
٣ - وقال مجاهد:«لا تفتاتوا على رسول الله بشيء حتى يقضي الله على لسانه».
٤ - وقال قتادة: ذكر لنا أن أناسا كانوا يقولون: لو أنزل في كذا، لو أنزل في كذا وكذا، قال فكره الله ﷿ ذلك، وقدم فيه.
٥ - قال الحسن: هم قوم نحروا قبل أن يصلي النبي ﷺ، فأمرهم النبي أن يعيدوا الذبح.
٦ - وقال الضحاك: لا تقضوا أمرا دون الله ورسوله من شرائع دينكم.
٧ - وقال ابن زيد: لا تقطعوا الأمر دون الله ورسوله.
٨ - وقال سفيان (١): لا تقضوا أمرا دون رسول الله (٢).
قلت: وكل هذه الأقوال حق، وهي من باب اختلاف التنوع، لا اختلاف التضاد (٣). فمؤداها واحد، والآية شاملة لجميعها، كما قال الألوسي في تفسيره (٤) بعد إيراده لجملة من أقوال المفسرين في ذلك: «ثم إن كل ذلك من باب بيان حاصل المعنى في الجملة».
(١) هو سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري، أبو عبد الله الكوفي، ثقة حافظ فقيه عابد، إمام حجة، وكان ربما دلس، مات سنة (١٦١ هـ)، وله أربع وستون سنة. انظر: التقريب ص (٣٩٤). (٢) انظر: جامع البيان للطبري (٢/ ١١٦، ١١٧)، وتفسير القرآن لابن كثير (٧/ ٣٦٤)، والدر المنثور (٧/ ٥٤٦). (٣) وأكثر الخلاف الوارد بين السلف في التفسير من هذا الباب، كما حققه شيخ الإسلام، ابن تيمية في مقدمة التفسير. انظر: مجموع الفتاوى له (١٣/ ٣٣٣). (٤) انظر: روح البيان له (٢٦/ ١٣٣).
حكم التقدم بين يدي الله ورسوله، وذكر جملة من النصوص الدالة على تحريمه]
[أولا: حكمه]
لا يجوز التقدم بين يدي الله ورسوله في أي أمر من الأمور، سواء في التحليل أو التحريم أو التشريع، أو غير ذلك، فهو أمر محرم، والمؤمن منهي عنه.
قال الأمين الشنقيطي موضحا حكم ذلك:« … وهذه الآية الكريمة فيها التصريح بالنهي عن التقديم بين يدي الله ورسوله، ويدخل في ذلك دخولا أوليا تشريع ما لم يأذن به الله، وتحريم ما لم يحرمه، وتحليل ما لم يحلله، لأنه لا حرام إلا ما حرمه الله، ولا حلال إلا ما أحله الله، ولا دين إلا ما شرعه الله»(١).
[ثانيا: النصوص الواردة في النهي عن التقدم بين يدي الله ورسوله في جميع الأمور]
لقد جاءت جملة من الآيات مبينة أن الحكم خير الأحكام، وهو خير الفاصلين، ولا يجوز التحاكم إلى غيره، وذلك مستلزم عدم جواز التقدم بين يديه، وعدم جواز الأخذ بحكم غيره في أي أمر من الأمور، ومسلتزم للنهي عن ذلك. كما أنه مسلتزم أيضا للنهي عن التقدم بين يدي رسوله، لأن الله قد أمرنا بتحكيم رسوله في جميع شئوننا، كما قال تعالى: ﴿فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً﴾ النساء: ٦٥، وقال تعالى: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾ الحشر: ٧، وقال تعالى: ﴿وَمَا
(١) انظر: أضواء البيان (٧/ ٦١٤).
كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِينا﴾ الأحزاب: ٣٦، وقال تعالى: ﴿مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ﴾ النساء: ٨٠؛ فمن الآيات الدالة على النهي عن التقدم بين يدي الله وأن الحكم له: