النهي عن رفع الصوت عند النبي ﷺ والجهر له عند مخاطبته

النهي عن رفع الصوت عند النبي ﷺ والجهر له عند مخاطبته

اللفظ / العبارة' النهي عن رفع الصوت عند النبي ﷺ والجهر له عند مخاطبته
متعلق اللفظ مسألة فقهية / عقدية
الحكم الشرعي حرام
القسم المناهي العملية
Content

النهي عن رفع الصوت عند النبي  والجهر له عند مخاطبته]

قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ﴾ [الحجرات: ٢].

[المطلب الأول: سبب نزول الآية]

روى البخاري، عن ابن أبي مليكة (١)، قال: كاد الخيّران أن يهلكا أبو بكر وعمر، رفعا أصواتهما عند النبي  حين قدم عليه ركب بني تميم، فأشار أحدهما بالأقرع بن حابس (٢) أخي بن مجاشع، وأشار الآخر برجل آخر (٣)، قال نافع: لا أحفظ اسمه، فقال أبو بكر لعمر: ما أردت إلا خلافي، قال: ما أردت خلافك، فارتفعت أصواتهما في ذلك، فأنزل الله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ﴾ الآية. قال ابن الزبير: فما كان عمر يسمع رسول الله  بعد هذه الآية حتى يستفهمه، ولم


(١) هو عبد الله بن عبيد الله بن عبد الله بن أبي مليكة، بالتصغير، ابن عبد الله بن جدعان، يقال: اسم أبي مليكة: زهير التيمي المدني، أدرك ثلاثين من أصحاب النبي ، ثقة فقيه، مات سنة سبع عشرة ومائة. انظر: التقريب ص (٥٢٤).
(٢) هو الأقرع بن حابس بن عقال بن محمد التميمي، صحابي جليل، كان مقدما في قومه، شهد حنينا، والطائف، وفتح مكة، وكان من المؤلفة قلوبهم، استشهد بالجوزجان سنة (٣١ هـ). انظر: الأعلام (٢/ ٥).
(٣) هو القعقاع بن معبد، كما في الرواية التي تليها.

يذكر ذلك عن أبيه (١): يعني أبا بكر (٢).

ورواه البخاري عن ابن أبي مليكة: أن عبد الله بن الزبير أخبره: أنه قدم ركب من بني تميم على النبي ، فقال أبو بكر: أمر القعقاع بن معبد (٣)، وقال عمر: بل أمّر الأقرع بن حابس، فتماريا فارتفعت أصواتهما، فنزلت في ذلك: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ حتى انقضت الآية (٤).

[المطلب الثاني: التفسير الإجمالي للآية]

قال الطبري: «يقول تعالى ذكره: يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله، لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت رسول الله، تتجهموه (٥) بالكلام، وتغلظون له في الخطاب، يقول: «ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض». يقوله: ولا تنادوه كما ينادي بعضكم بعضا: يا محمد، يا محمد، يا نبي الله، يا نبي الله، يا رسول الله» (٦).


(١) قال الحافظ ابن حجر في الفتح (٨/ ٤٥٦): وقد وقع في رواية الترمذي قال: «وما ذكر ابن الزبير جده»، وقد وقع في رواية الطبري من طريق مؤمل بن إسماعيل، عن نافع، عن ابن عمر، فقال في آخره: «وما ذكر ابن الزبير جده، يعني أبا بكر».
(٢) رواه البخاري في صحيحه، كتاب التفسير، باب سورة الحجرات، وانظر: الفتح (٨/ ٤٥٤)، ح (٤٨٤٥).
(٣) هو القعقاع بن معبد بن زرارة الدارمي التميمي، من سادات العرب، قدم على النبي  في وفد تميم، وآمن به، شهد حنينا مع النبي . انظر: الأعلام (٥/ ٢٠٢).
(٤) رواه البخاري في صحيحه، كتاب التفسير، باب سورة الحجرات، وانظر: الفتح (٨/ ٤٥٧)، ح (٤٨٤٧).
(٥) تتجهموه: أي تكلموه بكلام غليظ شديد. انظر: لسان العرب (١٢/ ١١٠).
(٦) انظر: جامع البيان للطبري (٢٦/ ١١٧).

ويقول السعدي: «ثم قال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ﴾ وهذا أدب مع الرسول  في خطابه. أي: لا يرفع المخاطب له صوته معه فوق صوته، ولا يجهر له بالقول، بل يغض الصوت، ويخاطبه بأدب ولين وتعظيم وتكريم وإجلال وإعظام، ولا يكون الرسول كأحدهم، بل يميزونه في خطابهم كما تميز عن غيره في وجوب حقه على الأمة، ووجوب الإيمان به، والحب له الذي لا يتم الإيمان إلا به، فإن في عدم القيام بذلك محذورا، خشية أن يحبط عمل العبد، وهو لا يشعر، كما أن الأدب معه من أسباب حصول الثواب، وقبول الأعمال (١).

[المطلب الثالث: معنى رفع الصوت والجهر له لغة، وفي أقوال المفسرين]

[أولا: لغة]

الصوت: جنس لكل ما وقر في أذن السامع، وجمعه أصوات، يقال: صات يصوت صوتا، وأصات وصوت به إذا ناداه (٢).

قال الراغب في قوله: ﴿لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي﴾ خصص الصوت بالنهي، لكونه أعم من النطق والكلام. ويجوز أنه خصه لأن المكروه رفع الصوت فوق صوته، لا رفع الكلام (٣).

الجهر بالصوت: هو رفعه وإعلانه، يقال: جهرت بالقول أجهر به، إذا أعلنته، ورجل جهير الصوت: أي عالي الصوت. وكذلك رجل جَهْوَري


(١) انظر: تيسير الكريم الرحمن للسعدي (٥/ ٦٨).
(٢) انظر: معجم مقاييس اللغة (٣/ ٣١٨)، ولسان العرب (٢/ ٧٢)، مادة: "صوت".
(٣) انظر: المفردات في غريب القرآن ص (٢٨٨)، ونقله عنه الفيروزابادي في بصائر ذوي التمييز (٣/ ٤٥٠).

الصوت: رفيعه، والجهر: العلانية (١).

[ثانيا: أقوال المفسرين في المراد برفع الصوت، والجهر له]

إن الناظر في كتب التفسير يجدها قد حفظت لنا جملة من أقوال المفسرين في المراد بالنهي عن رفع الصوت فوق صوت النبي ، والجهر له، وفيما يلي شيء منها:

١ - قال قتادة: كانوا يجهرون له بالكلام، ويرفعون أصواتهم، فوعظهم الله، ونهاهم عن ذلك.

٢ - وقال مجاهد: في قوله: ﴿ولا تجهروا له بالقول﴾ لا تنادوه نداء، ولكن قولا لينا: يا رسول الله.

٣ - وقال الضحاك: قوله: ﴿لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي﴾ هو كقوله: ﴿لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا﴾ [النور: ٦٣]. نهاهم الله أن ينادوه كما ينادي بعضهم بعضا، وأمرهم أن يشرِّفوه ويعظموه ويدعوه إذا دعوه باسم النبوة (٢).

٤ - وقال الزجاج: أمرهم الله بتجليل نبيه، وأن يغضوا أصواتهم، ويخاطبوه بالسكينة والوقار (٣).

قلت: وحاصل هذه الأقوال واحد، وهو النهي عن رفع الصوت فوق صوته ، إذا كانوا بحضرته، سواء كان الحديث معه أو مع غيره، كما نهوا حينما يتكلمون معه أن يكون كلامهم له ككلام بعضهم لبعض - وهو كلام الأكفاء الذين ليس لبعضهم على بعض مزية توجب الاحترام والتوقير - بل


(١) انظر: تهذيب اللغة للأزهري (٦/ ٥٠)، مادة: جهر، ولسان العرب (٤/ ١٥٠)، مادة: جهر.
(٢) انظر: جامع البيان للطبري (٦/ ١١٨)، وزاد المسير (٧/ ٤٥٧).
(٣) أورده عنه الشوكاني في فتح القدير (٥/ ٦١).

حكم رفع الصوت فوق صوت النبي  والجهر له، وذكر النصوص الدالة على وجوب توقيره واحترامه وتعظيمه]

[أولا: حكم رفع الصوت فوق صوته والجهر له]

لقد دلت هذه الآية أن رفع الصوت فوق صوت النبي والجهر له من أشد الذنوب خطرا، وأعظمها إثما، بل قد يكون سببا في حبوط العمل. قال شيخ الإسلام ابن تيمية في الصارم المسلول (١) بعد أن ذكر الآية:

« … فوجه الدلالة أن الله سبحانه نهاهم عن رفع أصواتهم فوق صوته، وعن الجهر له كجهر بعضهم لبعض، لأن هذا الرفع والجهر قد يفضي إلى حبوط العمل، وصاحبه لا يشعر، فإنه علّل نهيهم عن الجهر وتركهم له بطلب سلامة العمل من الحبوط، وبين أن فيه من المفسدة جواز حبوط العمل، وانعقاد سبب ذلك، وما قد يفضي إلى حبوط العمل يجب تركه غاية الوجوب … ».

ثم قال:« … فإذا ثبت أن رفع الصوت فوق صوت النبي  والجهر له بالقول يخاف منه أن يكفر صاحبه وهو لا يشعر، ويحبط عمله بذلك، وأنه مظنة لذلك وسبب فيه، فمن المعلوم أن ذلك لما ينبغي له من التعزير والتوقير والتشريف والتعظيم والإكرام والإجلال» ا. هـ.

[ثانيا: ذكر جملة من النصوص الدالة على وجوب توقير النبي، واحترامه، وتعظيمه]

لقد دلت الآية التي نحن بصددها، وهي قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا


(١) ص (٥٧)، وما بعدها.

تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ﴾ [الحجرات: ٢]. على لزوم توقير النبي ، وتعظيمه، واحترامه، وجاء في مواضع أخر من كتاب الله ما يبين ذلك، ويؤيده، منها:

١ - قوله تعالى: ﴿لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ﴾ [الفتح: ٩]. على أن الضمير في قوله: ﴿وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ﴾ عائد على الرسول ، وعليه أكثر المفسرين (١).

قال السعدي في بيان معنى الآية: «﴿وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ﴾ أي تعزروا الرسول ، ﴿وَتُوَقِّرُوهُ﴾ أي تعظموه، وتجلوه، وتقوموا بحقوقه، كما كانت له المنة العظيمة في رقابكم» (٢).

٢ - وقوله تعالى: ﴿فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [الأعراف: ١٥٧].

قال الطبري مفسرا لهذه الآية: «فالذين صدقوا النبي الأمي، وأقروا بنبوته ﴿وعزروه﴾ يقول وقروه وعظموه، وحموه من الناس، ﴿واتبعوا النور الذي أنزل معه﴾ يعني القرآن والسنة، ﴿أولئك هم المفلحون﴾ يقول الذين يفعلون هذه الأفعال التي وصف بها جل ثناؤه أتباع محمد ، هم المفلحون المدركون ما طلبوا، ورجوا بفعلهم ذلك» (٣).


(١) وممن اقتصر على أن المراد به الرسول الطبري في تفسيره (٢٦/ ٧٤)، وذكر في قوله في آخر الآية: ﴿وتسبحوه﴾ قراءة بلفظ: «وتسبحوا الله» لكنها قراءة شاذة، واقتصر عليه أيضا ابن كثير في تفسيره (٧/ ٣٢٩)، والبغوي في تفسيره (٤/ ١٩٠)، والسعدي في تفسيره (٥/ ٤٦).
(٢) انظر: تيسير الكريم الرحمن للسعدي (٥/ ٤٦).
(٣) انظر: جامع البيان للطبري (٩/ ٨٥، ٨٦).

٣ - قوله تعالى: ﴿لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً﴾ [النور: ٦٣].

قال قتادة في الآية: أمر الله أن يهاب نبيه، وأن يبجل، وأن يعظم، وأن يفخم، ويشرف (١).

٤ - وقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا﴾ [البقرة: ١٠٤].

٥ - وقوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُون﴾ [الحجرات: ٤].

٦ - وقوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ﴾ [الحجرات: ٣].

قال الأمين الشنقيطي: «وقد دلت آيات من كتاب الله على أن الله تعالى لا يخاطبه في كتابه باسمه، وإنما يخاطبه بما يدل على التعظيم والتوقير، كقوله: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِي﴾ [الأنفال: ٦٤]، ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ﴾ [المائدة: ٤١]، ﴿يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ﴾ [المزمل: ١]، ﴿يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ﴾ [المدثر: ١]، مع أنه ينادي غيره من الأنبياء بأسمائهم، كقوله: ﴿وَقُلْنَا يَا آدَم﴾ [البقرة: ٣٥]، وقوله: ﴿وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ﴾ [الصافات: ١٠٤]، وقوله: ﴿يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِك﴾ [هود: ٤٦]، ﴿قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا﴾ [نوح: ٤٨]، وقوله: ﴿قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ﴾ [الأعراف: ١٤٤]، وقوله: ﴿إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ﴾ [آل عمران: ٥٥]، وقوله: ﴿يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً﴾ [ص: ٢٦].

أما النبي  فلم يذكر اسمه في القرآن في خطاب، وإنما يذكر في غير ذلك، كقوله: ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ﴾ [آل عمران: ١٤٤]،


(١) انظر: الدر المنثور (٦/ ٢٣١)، وعزاه لعبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم.

وقوله: ﴿وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ﴾ [محمد: ٢]، وقوله: ﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ﴾ [الفتح: ٢٩] (١).

[المطلب الخامس: حكم رفع الصوت عند قبره بعد وفاته]

لقد قرر أهل العلم أنه كما لا يجوز رفع الصوت فوق صوته في حياته ، كذلك لا يجوز رفع الصوت عند قبره بعد وفاته .

قال ابن كثير: «وقال العلماء: يكره رفع الصوت عند قبره، كما كان يكره في حياته، لأنه محترم حيا وفي قبره، صلوات الله وسلامه عليه دائما» (٢).

ويدل عليه ما رواه البخاري عن السائب بن يزيد، قال: كنت قائما في المسجد فحصبني رجل، فنظرت فإذا عمر بن الخطاب، فقال: اذهب فأتني بهذين، فجئته بهما. قال: من أنتما -أو من أين أنتما؟ - قالا: من أهل الطائف. قال: لو كنتما من أهل البلد لأوجعتكما، ترفعان أصواتكما في مسجد رسول الله (٣).

تنبيه:

أما ما يقوم به أهل البدعة والجهل عند قبره ، من دعائه، وطلب الشفاعة منه، والتوسل به، فهو من المنكر العظيم الذي لا يجوز، لأنه صرف حق الله لغيره، وقد جاءت نصوص الكتاب بتحريمه، ومنها:


(١) انظر: أضواء البيان (٦/ ٦١٦).
(٢) تفسير القرآن لابن كثير (٧/ ٣٦٨)، وانظر: مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام، ابن تيمية (٢٧/ ٣٢٣)، وأحكام القرآن لابن العربي (٤/ ١٧١٤).
(٣) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الصلاة، باب رفع الصوت في المسجد، انظر: الفتح (١/ ٦٦٧)، ح (٤٧٠).

١ - قوله تعالى: ﴿وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً﴾ [الجن: ١٨].

و ﴿أحدا﴾ نكرة في سياق النهي، فتدل على العموم، أي لا يجوز دعاء أحد سواه، كائنا من كان فيما لا يقدر عليه إلا الله، كطلب الشفاعة، وقضاء الحوائج، وتفريج الكربات، ورد الضالة، وإعطاء الولد، وشبهه.

٢ - وقوله تعالى: ﴿وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُون. وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ﴾ [الأحقاف: ٥، ٦].

٣ - وقوله تعالى: ﴿وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ. وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ [يونس: ١٠٦، ١٠٧].

٤ - وقوله تعالى: ﴿قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ. وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ﴾ [سباء: ٢٢، ٢٣] (١).

[المطلب السادس: نماذج من استجابة الصحابة للنهي عن رفع الصوت عند رسول الله]

إن أصحاب محمد  ورضي عنهم خير مثال يحتذى بعد نبينا  في تطبيق نصوص الشرع، والمبادرة في فعل الأوامر، واجتناب النواهي أو غيرها، وسرعة الاستجابة لله ورسوله، فهذا الفاروق لما قال للنبي : يا رسول الله،


(١) ذكر هذه الآيات مستدلا بها على ذلك شيخ الإسلام، المجدد محمد بن عبد الوهاب. انظر: حاشية ثلاث الأصول لابن قاسم ص (٣٥)، وكتاب التوحيد له ص (٨٨)، (١٠٤)، وللمزيد راجع فتح المجيد (١/ ٣٠١ - ٣٢٤)، وتيسير العزيز الحميد ص (١٥٥ - ١٨٢).

لأنت أحب إليَّ من كل شيء إلا من نفسي، فقال النبي :

«لا والذي نفسي بيده حتى أكون أحب إليك من نفسك، فقال عمر: الآن والله لأنت أحب إلي من نفسي، فقال النبي : الآن يا عمر» (١).

الله أكبر ما أعظمه من جيل، وما أعلمه بربه ونبيه، وأقومه بحجة الله على خلقه، وفيما يلي ذكر شيء من استجابة الصحابة لما جاء في الآية التي نحن بصددها:

١ - ما جاء عن أبي بكر الصديق، : أخرج الحاكم عن أبي هريرة، قال: «لما نزلت: ﴿إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله﴾ قال أبو بكر: والذي أنزل عليك الكتاب لا أكلمك إلا كاخي السرار» (٢).

فقد أقسم الصديق، وهو البار بقسمه ألا يكلم رسول الله إلا كاخي السرار -أي كصاحب المساررة الذي يخفض صوته (٣)؛ استجابة لما جاء في قوله تعالى: ﴿لا ترفعوا أصواتكم﴾ [الحجرات: ٢].

٢ - ما جاء عن عمر بن الخطاب، : يدل له ما رواه البخاري (٤) في سبب نزول قوله: ﴿يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي﴾، وفيه: قال ابن الزبير: فما كان عمر يسمع رسول الله  بعد نزول هذه الآية حتى يستفهمه، وقد سبق.


(١) رواه البخاري في صحيحه، كتاب الأيمان والنذور، باب كيف كان يمين النبي. انظر: الفتح (١١/ ٥٣٢)، ح (٦٦٣٢).
(٢) رواه الحاكم في مستدركه (٢/ ٤٦٢)، وصححه، ووافقه الذهبي، وأورده ابن كثير في تفسيره (٧/ ٣٦٥)، من رواية طارق بن شهاب، ثم قال: «حصين بن عمر» هذا وإن كان ضعيفا لكن قد رويناه من حديث عبد الرحمن بن عوف، وأبي هريرة بنحو من ذلك.
(٣) انظر: النهاية في غريب الحديث (٢/ ٣٦٠)، ولسان العرب (٤/ ٣٦٢)، مادة: "سرر".
(٤) قد سبق تخريجه في ص ٢٢.

٣ - ما جاء عن ثابت بن قيس بن شماس (١): رواه البخاري، ومسلم، وأحمد، واللفظ له عن أنس قال: «لما نزلت هذه الآية: ﴿يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي﴾ إلى ﴿وأنتم لا تشعرون﴾، وكان ثابت بن قيس بن الشماس رفيع الصوت، فقال: أنا الذي كنت أرفع صوتي على رسول الله  حبط عملي، أنا من أهل النار، وجلس في أهله حزينا، ففقده رسول الله ، فانطلق بعض القوم إليه، فقالوا له: تفقدك رسول الله ، ما لك؟ قال: أنا الذي أرفع صوتي فوق صوت النبي ، وأجهر له بالقول، حبط عملي، أنا من أهل النار، فأتوا النبي  فأخبروه بما قال، فقال: «لا، بل هو من أهل الجنة»، قال أنس: فكنا نراه يمشي بين أظهرنا، ونحن نعلم أنه من أهل الجنة، فلما كان يوم اليمامة كان فينا بعض الانكشاف، فجاء ثابت بن قيس بن شماس، وقد تحنط ولبس كفنه، فقال: بئسما تعودون أقرانكم، فقاتلهم حتى قتل» (٢).


(١) هو صاحب رسول الله ، ثابت بن قيس بن شماس الأنصاري، الخزرجي، خطيب الأنصار، من كبار الصحابة، بشره النبي  بالجنة، واستشهد باليمامة، فنفذت وصيته بمنام رآه خالد بن الوليد. انظر: التقريب ص (١٨٦).
(٢) أخرجه بهذا اللفظ أحمد في مسنده (١٩/ ٣٩١)، ح (١٢٣٩٩)، وأخرجه مع بعض الاختلاف البخاري في صحيحه، كتاب التفسير، سورة الحجرات، باب ﴿لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي﴾. انظر: الفتح (٨/ ٤٥٤)، ح (٤٨٤٦)، ومسلم في صحيحه (١/ ١١٠)، ح (١١٩)، كتاب الإيمان، باب مخافة المؤمن أن يحبط عمله.

كتاب المنهيات في سورة الحجرات،ص:64 إلى 75.

Loading...