يقول ابن جرير:«يقول تعالى ذكره: يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله لا يهزأ قوم مؤمنون من قوم مؤمنين، ﴿ولا نساء من نساء﴾ يقول: ولا يهزأ نساء مؤمنات من نساء مؤمنات، عسى المهزوء منهن أن يكن خيرا من الهازئات»(١).
ويقول ابن كثير:«ينهى تعالى عن السخرية بالناس، وهو احتقارهم والاستهزاء بهم، كما ثبت في الصحيح عن رسول الله ﷺ أنه قال:
«الكبر بطر الحق وغَمْص الناس» (٢). وفي رواية:«وغمط الناس»(٣). والمراد من ذلك احتقارهم واستصغارهم، وهذا حرام، فإنه قد يكون المحتقَر أعظم قدرا عند الله وأحب إليه من الساخر منه المحتقِر له، ولهذا قال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ
(١) انظر: جامع البيان للطبري (٢٦/ ١٣٠، ١٣١). (٢) أخرجه أبو داود في سننه (٤/ ٥٩)، ح (٤٠٩٢)، كتاب اللباس، باب ما جاء في الكبر، والترمذي في سننه (٤/ ٣٦١)، ح (١٩٩٩)، كتاب البر والصلة، باب ما جاء في الكبر، وقال: حديث حسن صحيح غريب، وصححه الألباني في صحيح أبي داود (٢/ ٧٧١)، ح (٣٤٤٨) من حديث ابن مسعود. (٣) رواه مسلم في صحيحه (١/ ٩٣)، ح (٩١)، كتاب الإيمان، باب تحريم الكبر وبيانه، من حديث ابن مسعود.
قلت: ولكثرة وقوع الناس من رجال ونساء في السخرية، أفرد -والله أعلم- النساء بالذكر لشدة التوكيد على ذلك، مع أن الأكثر أن الخطاب في القرآن يكون مع الرجال، ويكون النساء تبعا لهم، كما في قوله: ﴿يا أيها الذين آمنوا﴾، ﴿يا أيها الناس﴾، ﴿إن الذين آمنوا﴾، ﴿إنما المؤمنون﴾، ﴿يوصيكم الله﴾، وغيرها، لكن خصهن بالذكر للتأكيد على شدة التحريم في حق الجميع.
وقيل: بل أفرد النساء بالذكر، لأن السخرية منهن أكثر، ذكره الشوكاني (٢).
وقد ذكر أهل العلم أن لفظة القوم مما يختص به الرجال (٣). ويدل لذلك قول زهير بن أبي سلمى (٤):
ولا أدري ولست أخال أدري … أقوم آل حصن أم نساء (٥)
[المطلب الثاني: معنى السخرية لغة، وفي أقوال أهل العلم من المفسرين وغيرهم]
[أولا: السخرية لغة]
السخرية: هي الاستهزاء، يقال: سخر منه وبه سَخْرا، وسَخَرا، ومَسْخَرا، وسُخْرا بالضم، وسُخْرَة، وسِخرِيا، وسُخْرِيا، وسُخْرِية: هزئ به (٦).
(١) انظر: تفسير القرآن لابن كثير (٧/ ٣٧٦). (٢) انظر: فتح القدير للشوكاني (٥/ ٦٥). (٣) انظر: الكشاف للزمخشري (٤/ ١٢١)، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي (١٦/ ٣٢٥)، والتحرير والتنوير لابن عاشور (٢٦/ ٢٤٧). (٤) هو زهير بن ابن أبي سلمى ربيعة بن رباح المزني، من مضر، حكيم الشعراء في الجاهلية، ولد في بلاد مزينة، نواحي المدينة، وكان يقيم في الحاجر من ديار نجد، كان ينظم القصيدة في شهر، وينقحها في سنة، فكانت قصائده تسمى بالحوليات. انظر: الإعلام (٢/ ٥٢). (٥) أورده القرطبي في الجامع لأحكام القرآن ١٦/ ٣٢٥، وأبو حيان في البحر المحيط ٩/ ٥١٧. (٦) انظر: تهذيب اللغة (٧/ ١٦٧)، مادة: "سخر"، والجامع لأحكام القرآن (١٦/ ٣٢٤)، ولسان العرب (٤/ ٣٥٢)، مادة: "سخر". (٧) انظر: لسان العرب (٤/ ٣٥٣)، مادة: "سخر"، والصحاح (٢/ ٦٧٩)، مادة: "سخر". وحكى الجوهري(١)، عن أبي زيد(٢): سخرت به، وهو أردأ اللغتين.
وقال الأخفش (٣): سخرت منه، وسخرت به، وضحكت منه، وضحكت به، وهزءت منه، وهزئت به، كل يقال (٤).
[ثانيا: السخرية في أقوال المفسرين وغيرهم]
لقد تكلم المفسرون على المعنى المراد بقوله: ﴿لا يسخر قوم من قوم﴾ فمن أقوالهم:
١ - قال مجاهد: هو سخرية الغني بالفقير.
٢ - وقال ابن زيد: لا يسخر من ستر الله ذنوبه ممن كشفه الله.
٣ - قال الطبري بعد إيراد القولين السابقين:«والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال: إن الله عم بنهيه المؤمنين أن يسخر بعضهم من بعض جميع معاني السخرية، فلا يحل لمؤمن أن يسخر من مؤمن لا لفقره، ولا لذنب ركبه، ولا لغير ذلك»(٥).
(١) هو إسماعيل بن حماد الجوهري، أبو نصر، لغوي، من الأئمة، أشهر كتبه الصحاح، وله العروض، سافر إلى الحجاز، وطاف البادية، ثم رجع إلى خراسان، وأقام بنيسابور، حاول الطيران فمات بسبب ذلك سنة (٣٩٣ هـ). انظر: الأعلام (١/ ٢١٣). (٢) هو سعيد بن أوس بن ثابت الأنصاري، أحد أئمة اللغة، والأدب، ولد سنة (١١٥ هـ)، كان من ثقات اللغويين، ويرى رأي القدرية، له كتاب النوادر في اللغة، والهمز، ولغات القرآن، مات بالبصرة سنة (٢١٥ هـ). انظر: الأعلام (٣/ ٩٢). (٣) هو سعيد بن مسعدة المجاشعي بالولاء، البلخي ثم البصري، المعروف بالأخفش الأوسط، نحوي عالم باللغة والأدب، أخذ عن سيبويه، وألف معاني القرآن، والاشتقاق، وغيرهما، مات سنة (٢١٥ هـ). انظر: الأعلام (٣/ ١٠١). (٤) انظر: الصحاح للجوهري (٢/ ٦٧٩)، مادة: "سخر". (٥) انظر: جامع البيان للطبري (٢٦/ ١٣١)، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي (١٦/ ٣٢٥).
قلت: وهذا هو القول الصواب في تفسير هذه الآية.
هذا ما يتعلق بأقوال المفسرين في الآية التي نحن بصددها، وقد تناول العلماء تعريف السخرية، والمراد بها مطلقا، فمن ذلك:
١ - ما عرفها به الغزالي في الإحياء، حيث قال: السخرية هي الاستحقار والاستهانة، والتنبيه على العيوب والنقائص بوجه يضحك منه، وقد تكون بالمحاكاة بالفعل والقول، وقد يكون بالإشارة أو الإيماء (١).
٢ - وعرفها بعضهم: بأنها ذكر الشخص بما يكره على وجه مضحك بحضرته (٢).
٣ - واختار الألوسي: أنها احتقار الشخص قولا أو فعلا على وجه مضحك (٣).
[المطلب الثالث: حكم السخرية، وما ورد مني النهي عنها]
[أولا: حكم السخرية]
السخرية محرمة بإجماع أهل العلم، وكبيرة من كبائر الذنوب، يجب على المسلم تجنبها، والحذر منها، وهي من صفات المنافقين والكافرين (٤).
(١) انظر: الإحياء (٣/ ١٣١). (٢) ذكره الألوسي في روح البيان (٢٥/ ١٥٢). (٣) انظر: المرجع السابق بنفس الجزء والصفحة. (٤) وقد حكى الهيثمي في الزواجر (٢/ ٣٣) الإجماع على تحريم ذلك، ونص على التحريم القاسمي في محاسن التأويل (١٥/ ٥٤٥٨).
النصوص الدالة على تحريم السخرية]
كما حرم الله السخرية في هذه الآية الكريمة، جاءت النصوص في الكتاب والسنة دالة على ذلك، فمنها:
قال ابن كثير ﵀ مبينا دلالة هذه الآيات: يخبر تعالى عن المجرمين أنهم كانوا في الدار الدنيا يضحكون من المؤمنين أي يستهزئون بهم ويحتقرونهم وإذا مروا بالمؤمنين يتغامزون عليهم أي محتقرين لهم ﴿وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ﴾ أي وإذا انقلب أي رجع هؤلاء المجرمون إلى منازلهم انقلبوا إليها فاكهين أي مهما طلبوا وجدوا ومع هذا ما شكروا نعمة الله عليهم بل اشتغلوا بالقوم المؤمنين يحقرونهم ويحسدونهم ﴿وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ﴾ أي لكونهم على غير دينهم قال الله تعالى ﴿وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ﴾ أي وما بعث هؤلاء المجرمون حافظين على هؤلاء المؤمنين ما يصدر منهم من أعمالهم وأقوالهم ولا نسوا هم فلم اشتغلوا بهم وجعلوهم نصب أعينهم كما قال تعالى ? ﴿قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ(١٠٨)إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ(١٠٩)فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ(١١٠)إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ(١١١)﴾[المؤمنون: ١٠٨ - ١١١]ولهذا قال ها هنا ﴿فَالْيَوْمَ﴾ يعني يوم القيامة ﴿الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ﴾ أي في مقابلة ما ضحك بهم أولئك ﴿عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ﴾(٣٦)أي إلى الله﷿في مقابلة من زعم فيهم أنهم ضالون وليسوا بضالين بل هم من أولياء الله المقربين ينظرون إلى ربهم في دار كرامته وقوله تعالى: ﴿هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ﴾ أي هل جوزي الكفار على ماكانوا يقابلون به المؤمنين من الاستهزاء والتنقيص أم لا يعني قد جوزوا أوفر الجزاء وأتمه وأكمله"(١).
٤ - ومنها مارواه مسلم، عن أبي هريرة، ﵁، قال: قال رسول الله ﷺ: «بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه»(٢).
فقد دل الحديث على أنه يكفي المسلم شرا احتقاره لأخيه، والاحتقار من السخرية.
٥ - ما رواه البخاري، ومسلم واللفظ له، عن أبي بكرة، ﵁،
(١) تفسير ابن كثير (٨/ ٣٥٣). (٢) رواه مسلم في صحيحه (٤/ ١٩٨٦)، ح (٢٥٦٤)، كتاب البر والصلة، باب تحريم ظلم المسلم وخذله، واحتقاره، ودمه، وعرضه، وماله، وأحمد في مسنده (١٣/ ١٥٩)، ح (٧٧٢٧)، وأبو داود في سننه (٤/ ٢٧٠)، ح (٤٨٨٢)، كتاب الأدب، باب الغيبة، والترمذي في سننه (٤/ ٣٢٥)، ح (١٩٢٧)، كتاب البر والصلة، باب ما جاء في شفقة المسلم على المسلم.
قال: خطبنا رسول الله ﷺ، فقال:«أي شهر هذا؟»، قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه. قال:«أليس ذا الحجة؟». قلنا: بلى، قال:«فأي بلد هذا؟»، قلنا: الله ورسوله أعلم. فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال:«أليس البلدة؟»، قلنا: بلى. قال:«فأي يوم هذا؟»، قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال:«أليس يوم النحر؟»، قلنا: بلى يا رسول الله، قال:«فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا … »(١).
ففي هذا الحديث شدة تحريم الأعراض، والسخرية استهزاء بها واحتقار لها.
٦ - ما رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي، عن عائشة، ﵂، قالت: قلت للنبي ﷺ: حسبك من صفية كذا وكذا، تعني قصيرة، فقال: «لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته (٢)، قالت: وحكيت له إنسانا، فقال:«ما أحب أني حكيت إنسانا، وأن لي كذا وكذا»(٣).
(١) رواه البخاري في صحيحه، كتاب العلم، باب قول النبي رب مبلغ أوعى من سامع. انظر: الفتح (١/ ١٩٠)، ح (٦٧)، ومسلم في صحيحه (٣/ ١٣٠٧)، ح (١٦٧٩)، كتاب القسامة، باب تغليظ تحريم الدماء والأعراض والأموال. (٢) أي خالطته مخالطة يتغير بها طعمه، أو ريحه، لشدة نتنها وقبحها، قاله النووي في الأذكار ص (٣٠٠). وقال صاحب عون المعبود (١٣/ ٢٢١): (لمزجته: أي غلبته، وغيرته، وأفسدته). (٣) أخرجه أحمد في مسنده (٤٢/ ٣٦١)، ح (٢٥٥٦٠)، وأبو داود في سننه (٤/ ٢٦٩)، ح (٤٨٧٥)، كتاب الأدب، باب في الغيبة، والترمذي في سننه (٤/ ٦٦٠)، ح (٢٥٠٢)، كتاب صفة القيامة، باب (٥١)، وقال: هذا حديث حسن صحيح، وصححه الألباني أيضا في صحيح أبي داود (٣/ ٩٢٣)، ح (٤٠٨٠).