أخرج أحمد، وأبو داود، والترمذي عن أبي جَبيرة بن الضحاك (١)، قال:«فينا نزلت في بني سلمة ﴿ولا تنابزوا بالألقاب﴾، قال: قدم رسول الله ﷺ المدينة، وليس فينا رجل إلا وله اسمان أو ثلاثة، فكان إذا دُعي أحد منهم باسم من تلك الأسماء، قالوا: يا رسول الله إنه يغضب من هذا فنزلت: ﴿ولا تنابزوا بالألقاب﴾»(٢).
(١) هو أبو جبيرة بفتح أوله بن الضحاك بن خليفة الأنصاري، الأشهلي، لا يعرف اسمه، قال أبو أحمد الحاكم، وابن منده: هو أخو ثابت بن الضحاك، اختلف في صحبته، فنفاها عنه أبو حاتم، وجزم بها المزي، والذهبي، وابن حجر، روى عنه ابنه محمود، وقيس بن أبي حازم، وشبل بن عوف، والشعبي. انظر: تهذيب الكمال (٣٣/ ١٨١)، والإصابة (٧/ ٣٠)، وتهذيب التهذيب (١٢/ ٥٢). (٢) أخرجه أحمد في مسنده (٣٠/ ٢٢١)، ح (١٨٢٨٨)، وأبو داود في سننه (٤/ ٢٩٠)، ح (٤٩٦٢)، كتاب الأدب، باب في الألقاب، والترمذي في سننه (٥/ ٣٨٨)، ح (٣٢٦٨)، كتاب تفسير القرآن، باب ومن سورة الحجرات، وقال: «هذا حديث حسن صحيح غريب»، والنسائي في تفسيره (٢/ ٣٢٠)، ح (٥٣٦)، والحاكم (٢/ ٤٦٣)، وصححه، ووافقه الذهبي، والألباني في صحيح سنن أبي داود (٣/ ٩٣٧)، ح (٤١٥٢). قلت: أبو جبيرة وإن كان مختلفا في صحبته، فقد روى هذا الحديث عن عمومة له، كما عند الإمام أحمد (٢٧/ ٢٠٢)، ح (١٦٦٤٢)، فهو مرفوع متصل الإسناد، وغير منقطع.
[المطلب الثاني: التفسير الإجمالي للآية]
يقول تعالى: ﴿ولا تلمزوا أنفسكم﴾ أي: لا يطعن بعضكم على بعض، ولا يعب بعضكم بعضا، وهذا كقوله: ﴿ولا تقتلوا أنفسكم﴾ [النور: ٦١]، لأن المؤمنين كالنفس الواحدة، فمتى عاب المؤمن المؤمن فكأنه عاب نفسه، فينبغي أن يكون حالهم كالجسد الواحد، ولأنه إذا همز غيره أوجب للغير أن يهمزه، فيكون كالمتسبب بذلك.
ثم قال: ﴿ولا تنابزوا بالألقاب﴾ أي: لا تتداعوا بالألقاب، وهي التي يسوء الشخص سماعها، ولا يعير بعضكم بعضا، وهذا هو التنابز، وأما الألقاب غير المذمومة فلا تدخل في هذا.
ثم قال تعالى: ﴿بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان﴾ أي: بئس الصفة والاسم الفسوق، وهو التنابز بالألقاب، كما كان أهل الجاهلية يتناعتون بعد ما دخلتم في الإيمان، وعقلتموه، ﴿ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون﴾ ومن لم يتب من نبز أخيه بما نهى الله عن نبزه به من الألقاب، أو لمزه إياه، أو سخريته منه، فأولئك هم الذين ظلموا أنفسهم، لتعريضها لعقوبة الله وعذابه، لأن الناس قسمان لا ثالث لهما، إما ظالم لنفسه غير تائب، وإما تائب مفلح (١).
(١) تم استخلاصه من جامع البيان للطبري (٢٦/ ١٣١ - ١٣٤)، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي (١٦/ ٣٢٧)، وتفسير القرآن لابن كثير (٧/ ٣٧٦)، وتيسير الكريم الرحمن للسعدي (٥/ ٧٢، ٧٣). (٢) انظر: المبسوط في القراءات العشر ص (٤١٣)، والمغني في القراءات (٢/ ٢٠٩).
وهما لغتان في الكلمة، لا يختلف المعنى باختلافهما (١).
[المطلب الثالث: معنى اللمز والنبز بالألقاب لغة، وفي كلام المفسرين]
[أولا: اللمز لغة]
اللمز: هو العيب، وقيل: العيب بالسر، وأصله الإشارة بالعين ونحوها، يقال: لمزه يلمُزه ويلمِزه لمزا، إذا عابه، ورجل لمّاز ولمُزة، أي: عيَّاب.
ويأتي اللمز أيضا بمعنى الدفع والضرب، يقال: لمزه يلمزه لمزا، إذا ضربه ودفعه (٢). واللمزة والهمزة بمعنى واحد، وهو الذي يغتاب الناس ويغضهم قاله الزجاج، وأبو عبيدة.
وفرق بينهما أبو العالية، والحسن، وعطاء، فقالوا: الهمزة: الذي يغتاب الرجل في وجهه. واللمزة: الذي يغتاب من خلفه.
وقال مجاهد: الهمزة باليد والعين، واللمزة باللسان (٣).
ويقال: النبز، والنزب لقب السوء، وتنابزوا بالألقاب، أي: لقب بعضهم بعضاً (٤).
(١) انظر: إتحاف فضلاء البشر ص (٣٩٧). (٢) انظر: الصحاح (٣/ ٨٩٤)، مادة: لمز، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي (٨/ ١٦٦). (٣) انظر: تفسير القرآن لابن كثير (٨/ ٤٨١)، وفتح القدير للشوكاني (٥/ ٤٩٧). (٤) انظر: الصحاح (٣/ ٨٩٧)، مادة: "نبز"، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي (١٦/ ٣٢٨)، ولسان العرب (٥/ ٤١٣)، مادة: "نبز".
والألقاب: جمع لقب، هو النبز، وهم اسم يسمى به الإنسان غير اسمه الأصلي، ويراعى فيه المعنى، بخلاف الأعلام، والألقاب ثلاثة: لقب تشريف، ولقب تعريف، ولقب تسخيف، وإياه قصد بقوله: ﴿ولا تنابزوا بالألقاب﴾، ولقبته بكذا فتلقب (١).
ثالثا: أقوال المفسرين في المراد باللّمز:
ذكر المفسرون معنيين للّمز الوارد في الآية، وهما:
١ - قال ابن عباس، ومجاهد، وقتادة: لا يطعن بعضكم على بعض (٢).
٢ - وقال الضحاك: لا يلعن بعضكم بعضا (٣).
قلت: المعنى واحد، لأن لعن بعضهم بعضا من طعن بعضهم على بعض.
[رابعا: أقوال المفسرين في المراد بالنبز بالألقاب]
لقد تعددت أقوال المفسرين في المراد بالتنابز بالألقاب، وهي متقاربة في المعنى، منها:
١ - قال ابن عباس في رواية العوفي: هي تعيير التائب بسيئات قد كان عملها.
٢ - قال ابن عباس في رواية أخرى، والحسن، وسعيد بن جبير، وعطاء
(١) انظر: تهذيب اللغة (٩/ ١٧٦)، مادة "لقب"، وزاد المسير (٧/ ٤٦٧)، وبصائر ذوي التمييز (٤/ ٤٣٨)، والمعجم الوسيط (٢/ ٨٦٧)، مادة: "لقب". (٢) انظر: جامع البيان للطبري (٢٦/ ١٣١، ١٣٢، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي (١٦/ ٣٢٧)، وتفسير القرآن لابن كثير (٧/ ٣٧٦). (٣) عزاه له القرطبي في الجامع لأحكام القرآن (١٦/ ٣٢٧)، والشوكاني في فتح القدير (٥/ ٦٥).
الخراساني، والقرظي: هو تسمية المسلم بعد إسلامه بدينه قبل الإسلام، كقولهم: يا يهودي، يا نصراني.
٣ - قال عكرمة: هو قول الرجل للرجل: يا كافر، يا منافق.
٤ - قال ابن زيد: هو تسمية المسلم بالأعمال السيئة، كقوله: يا زاني، يا سارق، يا فاسق (١).
قلت: والآية شاملة لجميع ما ذكر، كما حققه إمام المفسرين الطبري بقوله:«والذي هو أولى الأقوال في تأويل ذلك عندي بالصواب، أن يقال: إن الله تعالى ذكره نهى المؤمنين أن يتنابزوا بالألقاب، والتنابز بالألقاب: هو دعاء المرء صاحبه بما يكرهه من اسم أو صفة، وعم الله بنهيه ذلك، لم يخصص به بعض الألقاب دون بعض، فغير جائز لأحد من المسلمين أن ينبز أخاه باسم يكرهه، أو صفه يكرهها، وإذا كان ذلك كذلك صحت الأقوال التي قالها أهل التأويل في ذلك التي ذكرناها كلها، ولم يكن بعض ذلك أولى بالصواب من بعض، لأن كل ذلك مما نهى الله المسلمين أن ينبز بعضهم بعضا» ا. هـ (٢).
[المطلب الرابع: حكم اللمز والتنابز بالألقاب، وما ورد من النهي عن ذلك]
لا يجوز لمز المسلم لأخيه، وقد حرم الله ذلك، كما هو صريح قوله: ﴿ولا تلمزوا أنفسكم﴾، وهو نهي صريح، والنهي يقتضي التحريم، مع ما تأيد به من النصوص الأخرى الدالة على المنع، وستأتي قريبا.
[ب- حكم التنابز بالألقاب]
لا يجوز التنابز بالألقاب إذا كان بما يكرهه المسلم، وقد حكى النووي اتفاق العلماء على تحريم تلقيب الإنسان بما يكره، وسواء كان صفة له، أو لأبيه، أو لأمه، أو غيرهما (١).
وإن كان بما لا يكرهه الشخص، أو يعجبه ولا اطراء فيه، فهو جائز أو مستحب، كما لقب النبي ﷺ أبا بكر بالصديق، وعمر بالفاروق، وعثمان بذي النورين، ونحو ذلك (٢).
ولهذا عقد البخاري في كتاب الأدب من صحيحه ترجمة لذلك، فقال: باب ما يجوز من ذكر الناس نحو قولهم: الطويل والقصير، وقال النبي ﷺ:«ما يقول ذو اليدين»، وما لا يراد به شين الرجل.
وأورد فيه حديث أبي هريرة، قال: «صلى بنا النبي ﷺ الظهر ركعتين، ثم سلم، ثم قام إلى خشبة في مقدم المسجد، ووضع يده عليها -وفي القوم أبو بكر وعمر، فهابا أن يكلماه- وخرج سَرَعان (٣) الناس، فقالوا: قصرت الصلاة، وفي
القوم رجل كان النبي ﷺ يدعوه ذا اليدين، فقام فصلى ركعتين ثم سلم، ثم كبر فسجد مثل سجوده أو أطول، ثم رفع رأسه وكبر، ثم وضع قبل سجوده أو أطول، ثم رفع رأسه وكبر».
قال الحافظ ابن حجر، شارحا لذلك:«هذه الترجمة معقودة لبيان حكم الألقاب، وما لا يعجب الرجل أن يوصف به مما هو فيه، وحاصله: أن اللقب إن كان مما يعجب الملقب ولا اطراء فيه، مما يدخل في نهي الشرع، فهو جائز، أو مستحب، وإن كان مما لا يعجبه فهو حرام أو مكروه، إلا أن يعين طريقا إلى التعريف به، حيث يشتهر به، ولا يتميز عن غيره إلا بذكره، ومن ثم أكثر الرواة من ذكر الأعمش، والأعرج، ونحوهما، وعارم، وغندر، وغيرهم، والأصل فيه قوله ﷺ لما سلم من ركعتين في صلاة الظهر: «أكما يقول ذو اليدين»(١).
[ثانيا: ذكر النصوص الواردة في النهي عن اللمز، والتنابز بالألقاب]
لقد صان الشرع أعراض المسلمين من النيل منها بغير وجه حق، فحرم اللمز والتنابز بالألقاب، لما يورثه ذلك من التباغض والعداوة، وذلك في جملة من النصوص منها:
١ - النهي عن اللمز والتنابز بالألقاب في ﴿ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب﴾، والنهي يقتضي التحريم.
٢ - التحذير منه والتنفير ب «بئس» الدالة على الذم.
٣ - وصفه بالفسوق في قوله: ﴿بئس الاسم الفسوق﴾، والفسوق هو الخروج عن طاعة الله إلى معصيته.
٤ - ما تشعر به دلالة الآية من قبحه بعد الإيمان، ومنافاته له.
٥ - التحذير والتهديد والوعيد لمن لم يتب منه، بقوله: ﴿ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون﴾.
٦ - وصف فعلته بأنهم هم الظالمون، أي: الذين وضعوا أنفسهم في غير موضعها، وذلك بتعريضها لعقوبة الله وسخطه.
الثاني: قوله تعالى: ﴿ويل لكل همزة لمزة﴾ [الهمزة: ١].
الثالث: ما رواه البخاري، ومسلم عن أبي بكرة، وفيه:«إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم، كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا، في يومكم هذا»(١).
فاللمز والتنابز بالألقاب داخل في النهي عن التعرض للأعراض.
الرابع: ما رواه البخاري، ومسلم عن أبي ذر، وفيه: أنه ساب رجلا فعيره بأمه، وفي رواية:«وكانت أمه أعجمية، فنلت منها»(٢)، وفي رواية:«قلت: يا ابن السوداء»(٣). فقال له النبي ﷺ: «يا أبا ذر، أعيرته بأمه؟ إنك امرؤ فيك
(١) سبق تخريج الحديث في ص ٤٢. (٢) رواها البخاري في كتاب الأدب، باب ما ينهى عن السباب واللعن. انظر: الفتح (١٠/ ٤٨٠)، ح (٦٠٥٠)، ومسلم، وسيأتي تخريجه منه قريبا. (٣) أخرجه ابن عساكر في تاريخ دمشق (١٠/ ٤٦٤)، وأشار إليها الحافظ في الفتح (١/ ١٠٦).
(١) انظر: الفتح (١٠/ ٤٨٣).
جاهلية» (١).
ووجه الشاهد: أن أبا ذر لما لمز الرجل بأمه عد النبي ﷺ ذلك من الجاهلية، والجاهلية تطلق مقابل الإسلام، وإضافة الشيء إليها ذم له، قال شيخ الإسلام:« .. وهذا يقتضي أن كل ما كان من أمر الجاهلية وفعلهم فهو مذموم في دين الإسلام» ثم قال: « … ومعلوم أن إضافتها إلى الجاهلية خرج مخرج الذم»(٢).
(١) رواه البخاري في صحيحه، كتاب الإيمان، باب المعاصي من أمر الجاهلية، انظر: الفتح (١/ ١٠٦)، ح (٣٠)، ومسلم في صحيحه (٣/ ١٢٨٢)، ح (١٦٦١)، كتاب الإيمان، باب إطعام المملوك مما يأكل وإلباسه مما يلبس. (٢) اقتضاء الصراط المستقيم (١/ ٢٠٥).