قال الطبري:«﴿ولا تجسسوا﴾ ولا يتبع بعضكم عورة بعض، ولا يبحث عن سرائره، يبتغي بذلك الظهور على عيوبه، ولكن اقتنعوا بما ظهر لكم من أمره، وبه فأحمدوا أو ذموا، لا على ما تعلمونه من سرائره»(٢).
وقال السعدي:«﴿ولا تجسسوا﴾ أي: لا تفتشوا عن عورات المسلمين، ولا تبغوها، ودعوا المسلم على حاله، واستعملوا التغافل عن زلاته التي إذا فتشت ظهر منها ما لا ينبغي»(٣).
[المطلب الثاني: التجسس لغة، وفي كلام المفسرين]
[أولا: التجسس في لغة العرب]
التجسس لغة: مأخوذ من الجس، والجس: يطلق على الجس باليد، ويطلق ويراد به جس الأخبار، وهو المراد هنا، يقال: جس الخبر، وتجسسه: بحث عنه وفحص، ومنه التجسس، والجاسوس: وهو الذي يتجسس الأخبار ثم يأتي بها.
والتجسس، والتحسس بمعنى واحد، وهو التبحث، قاله أبو عبيد (٤)، ونحوه الأخفش.
(١) لم أتعرض للنهي عن الظن هنا، لأن ذلك جاء بصيغة الأمر: ﴿اجتنبوا كثيرا من الظن﴾ ومحله بحثنا الآخر "المأمورات في سورة الحجرات"، يسر الله إتمامه. (٢) جامع البيان (٢٦/ ١٣٥). (٣) تيسير الكريم الرحمن (٥/ ٧٣). (٤) انظر: مجاز القرآن له (٢/ ٢٢٠).
وقيل: التجسس (بالجيم): طلب الخبر لغيره، والتحسس (بالحاء) طلبه لنفسه. وقيل: بالجيم: البحث عن العورات، وبالحاء الاستماع. وقيل: بالجيم البحث، ومنه رجل جاسوس، إذا كان يبحث عن الأخبار، وبالحاء: هو ما أدركه الإنسان ببعض حواسه. وقيل: التجسس غالبا يطلق في الشر، والتحسس يكون في الخير، كما قال تعالى: ﴿يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ﴾ [يوسف: ٧٨](١).
[ثانيا: التجسس في أقوال المفسرين]
وردت عن أئمة السلف عدة أقوال في المراد بالتجسس في الآية، وهي كما يلي:
١ - قال ابن عباس: نهى الله المؤمن أن يتتبع عورة المؤمن.
٢ - وقال مجاهد: خذوا ما ظهر لكم، ودعوا ما ستر الله.
٣ - وقال قتادة في قوله: ﴿ولا تجسسوا﴾ هل تدرون ما التحسس، أو التجسس؟ هو أن تتبع، أو تبتغي عيب أخيك، لتطلع على سره.
٤ - وقال سفيان: هو البحث.
٥ - وقال ابن زيد: قوله: ﴿ولا تجسسوا﴾ قال: حتى انظر في ذلك، وأسأل عنه حتى أعرف حق هو أم باطل؟ قال: فسماه الله تجسسا، قال: يتجسس كما يتجسس الكلاب (٢).
قلت: والآية شاملة لجميع ما ذكر، كما أشار إليه ابن الجوزي، فقال: ( ..
(١) انظر: تهذيب اللغة (١٠/ ٤٤٨)، مادة "جسس"، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي (١٦/ ٣٣٣)، ولسان العرب (٦/ ٣٨)، مادة: "جسس"، وتفسير القرآن العظيم لابن كثير (٧/ ٣٧٩). (٢) انظر: جامع البيان للطبري (٢٦/ ١٣٥)، والدر المنثور (٧/ ٥٦٧).
قال المفسرون: التجسس: البحث عن عيوب المسلمين، وعوراتهم) (١).
[المطلب الثالث: حكم التجسس، وما ورد من النهي عنه]
[أولا: حكم التجسس]
التجسس حرام بتحريم الله ورسوله، كما سيأتي، وكبيرة من كبائر الذنوب، كما نص عليه أهل العلم (٢)، وهو خصلة ذميمة، يجب على المسلم شدة الحذر منها، والبعد عن الوقوع فيها.
ويستثنى من ذلك ما كان لمصلحة راجحة، كما ذكره الماوردي (٣).
ونقله عنه النووي (٤)، وابن حجر.
قال ابن حجر في الفتح:(ويستثنى من النهي عن التجسس ما لو تعين طريقا إلى إنقاذ نفس من الهلاك مثلا، كأن يخبر ثقة بأن فلانا خلا بشخص ليقتله ظلماً، أو بأمرأة ليزني بها، فيشرع في هذه الصورة التجسس، والبحث عن ذلك حذرا من فوات استدراكه، نقله النووي عن الأحكام السلطانية للماوردي، واستجاده، وأن كلامه: ليس للمحتسب أن يبحث عما لم يظهر من المحرمات، ولو غلب على الظن استسرار أهلها بها إلا هذه الصورة)(٥).
(١) انظر: زاد المسير (٧/ ٤٧١). (٢) وممن نص عليه الذهبي في كتاب الكبائر ص ٢٥٩، ذكره تحت الكبيرة التاسعة والستين. (٣) انظره في: الأحكام السلطانية ص (٢٥٢). والماوردي: هو أبو الحسن، علي بن محمد بن حبيب الماوردي، عالما قاضيا، مؤلفا، له كتاب: النكت والعيون في تفسير القرآن، والحاوي في الفقه، مات سنة ٤٥٠ هـ. انظر: الأعلام (٤/ ٣٢٧). (٤) انظر: شرح النووي على صحيح مسلم (٢/ ٢٦). (٥) انظر: الفتح (١٠/ ٤٩٧).
لقد جاء في النهي عن التجسس وتحريمه جملة من النصوص، منها:
٢ - ما رواه البخاري، ومسلم عن أبي هريرة، ﵁، قال: قال رسول الله ﷺ: «إياكم والظن، فإن أكذب الحديث الظن، ولا تجسسوا ولا تحسسوا، ولا تنافسوا، ولا تحاسدوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانا»(١).
٣ - ما رواه أبو داود عن معاوية، ﵁، قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «إنك إن اتبعت عورات الناس أفسدتهم، أو كدت أن تفسدهم». قال أبو الدرداء: كلمة سمعها معاوية من رسول الله ﷺ نفعه الله بها (٢).
٤ - ما رواه أحمد، وأبو داما ورد من النهي عن التجسس]
لقد جاء في النهي عن التجسس وتحريمه جملة من النصوص، منها:
٢ - ما رواه البخاري، ومسلم عن أبي هريرة، ﵁، قال: قال رسول الله ﷺ: «إياكم والظن، فإن أكذب الحديث الظن، ولا تجسسوا ولا تحسسوا، ولا تنافسوا، ولا تحاسدوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانا»(١).
٣ - ما رواه أبو داود عن معاوية، ﵁، قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «إنك إن اتبعت عورات الناس أفسدتهم، أو كدت أن تفسدهم». قال أبو الدرداء: كلمة سمعها معاوية من رسول الله ﷺ نفعه الله بها (٢).
٤ - ما رواه أحمد، وأبو داود عن أبي برزة الأسلمي، ﵁، قال: قال رسول الله ﷺ: «يا معشر من آمن بلسانه، ولم يدخل الإيمان قلبه، لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من يتبع عوراتهم يتبع الله عورته، ومن يتبع الله عورته يفضحه في بيته»(٣).
(١) رواه البخاري في صحيحه، كتاب الأدب، باب ﴿يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن﴾. انظر: الفتح (١٠/ ٤٩٩)، ح (٦٠٦٦)، ومسلم في صحيحه (٤/ ١٩٨٥)، ح (٢٥٦٣، ٢٥٦٤)، كتاب البر والصلة والأدب، باب تحريم الظن والتجسس. (٢) رواه أبو داود في سننه (٤/ ٢٧٢)، ح (٤٨٨٨)، كتاب الأدب، باب في النهي عن التجسس، وقد صحح إسناده النووي في رياض الصالحين ص (٤٤٦)، ح (١٥٧٢)، والألباني في صحيح سنن أبي داود (٣/ ٩٢٤)، ح (٤٠٨٨). (٣) رواه أحمد (٣٣/ ٢٠)، ح (١٩٧٧٦)، وأبو داود في سننه (٤/ ٢٧٠)، ح (٤٨٨٠)، كتاب الأدب، باب في الغيبة، وأبو يعلى في مسنده (٦/ ٤٦٠)، ح (٧٣٨٦)، والحديث قال عنه الألباني: حديث صحيح، كما في صحيح الترغيب (٢/ ٥٨٩)، ح (٢٣٤٠)، وله شاهد صحيح من حديث ابن عمر عند الترمذي، ح (٢٠٣٣)، وشاهد من حديث البراء عند أبي يعلى، برقم: (١٦٧١)، وسنده حسن، كما قال المنذري في الترغيب. انظر: صحيح الترغيب (٢/ ٥٨٨، ٥٨٩).
ود عن أبي برزة الأسلمي، ﵁، قال: قال رسول الله ﷺ: «يا معشر من آمن بلسانه، ولم يدخل الإيمان قلبه، لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من يتبع عوراتهم يتبع الله عورته، ومن يتبع الله عورته يفضحه في بيته»(٣).
ما رواه البخاري، ومسلم من حديث علي بن أبي طالب، وفيه: أن حاطب بن أبي بلتعة كتب كتابا لأناس من المشركين في مكة، يخبرهم ببعض أمر النبي … وذكر قصة طويلة، وفيها قول عمر بن الخطاب: يا رسول الله، دعني أضرب عنق هذا المنافق. فقال النبي ﷺ:
«إنه قد شهد بدرا، وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم … »(١).
ووجه الشاهد كما قال الذهبي في الكبائر: أن عمر أراد قتل حاطب بما فعل -وهو التجسس على رسول الله، ونقل خبر غزو مكة- فمنعه رسول الله ﷺ من قتله، لكونه شهد بدرا (٢).
٦ - ما رواه أبو داود، عن زيد بن وهب، قال:«أتي ابن مسعود، فقيل: هذا فلان تقطر لحيته خمرا، فقال عبد الله: إنا قد نهينا عن التجسس، ولكن إن يظهر لنا شيء نأخذ به»(٣).
(١) رواه البخاري في صحيحه، في مواضع، منها: ما أخرجه في كتاب التفسير، باب سورة الممتحنة، انظر: الفتح (٨/ ٥٠٢)، ح (٤٨٩٠)، مسلم في صحيحه (٤/ ١٩٤١)، ح (٢٤٩٤)، كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل أهل بدر. (٢) انظر: الكبائر للذهبي ص (٢٥٩). (٣) رواه أبو داود في سننه (٤/ ٢٧٣)، ح (٤٨٩٠)، كتاب الأدب، باب في النهي عن التجسس، والأثر صححه النووي في رياض الصالحين ص (٤٤٦)، ح (١٥٧٣)، والألباني في صحيح سنن أبي داود (٣/ ٩٢٥)، ح (٤٠٩٠).