أخرج النسائي عن ابن عباس، ﵄، قال: قدم وفد بني أسد على رسول الله ﷺ، وتكلموا: فقالوا: قاتلتك مضر، ولسنا بأقلهم عددا، ولا آكلّهم شوكة (١)، فقال لأبي بكر وعمر:«تكلموا هكذا»، قالوا: لا. قال:«إن فقه هؤلاء قليل، وإن الشيطان لينطق على ألسنتهم». قال عطاء في حديثه: فأنزل الله ﷿: ﴿يمنون عليك أن أسلموا﴾ (٢).
وروى الطبراني، وابن المنذر، وابن مردويه بسند حسن (٣) عن عبد الله بن أبي أوفى: أن أناسا من العرب قالوا: يا رسول الله، أسلمنا ولم نقاتلك، كما قاتلك بنو فلان، فأنزل الله: ﴿يمنون عليك أن أسلموا﴾ الآية (٤).
(١) يعني: لسنا بأضعفهم بأسا وحدة في السلاح. انظر: لسان العرب (١٠/ ٤٥٤)، مادة: شوك. (٢) أخرجه النسائي في سننه (١٠/ ٢٦٩)، ح (١١٤٥٥)، وزاد السيوطي في الدر المنثور (٧/ ٥٨٥) غزوه للبزار، وابن مردويه، وهو أثر صحيح، لشواهده، والتي منها أثر ابن أبي أوفى المذكور بعده، وهو حسن الإسناد، كما قال السيوطي، وأثر سعيد بن جبير، وقتادة، مرسلان، وهما عند الطبري في تفسيره (٢٦/ ١٤٥)، وأثر الحسن البصري عند ابن أبي حاتم في تفسيره (١٠/ ٣٣٠٦). (٣) قاله السيوطي في الدر المنثور (٧/ ٥٨٥). (٤) أخرجه الطبراني في الأوسط (٨/ ٧٨)، ح (٨٠١٦)، وزاد السيوطي في الدر المنثور (٧/ ٥٨٥)، نسبته لابن المنذر، وابن مردويه.
التفسير الإجمالي للآية]
يخبر الله في قوله: ﴿يمنون عليك أن أسلموا﴾ عن بني أسد، ومن معهم -والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب- أنهم يمنون على رسوله ﷺ بإيمانهم، حيث قالوا: آمنا بك من غير قتال، ولم نقاتلك، كما قاتلك غيرنا، ويمنون بأنهم تابعوا الرسول، وناصروه.
فأمر الله نبيه أن يقول لهم: ﴿قل لا تمنوا علي إسلامكم﴾ لا تمنوا علي ذلك، ولا تعدوه منة علي، فإن نفع ذلك إنما يعود عليكم، ولله المنة عليكم فيه، فإن الإسلام هو المنة التي لا يطلب موليها ثوابا لمن أنعم بها عليه، ولهذا قال: ﴿بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان﴾ أي: أرشدكم إليه، وأراكم طريقه، سواء وصلتم إلى المطلوب أو لم تصلوا، ﴿إن كنتم صادقين﴾ في دعواكم الإيمان» (١).
كما قال النبي ﷺ للأنصار يوم حنين:«يا معشر الأنصار، ألم أجدكم ضلالا فهداكم الله بي، وكنتم متفرقين فألفكم الله بي، وعالة فأغناكم الله بي»، كلما قال شيئا، قالوا: الله ورسوله أمن» (٢).
[المطلب الثالث: المراد بالمن لغة، وفي أقوال المفسرين]
[أولا: المن لغة]
المن لغة يأتي بمعنى القطع، ومنه قوله: ﴿لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ﴾ [فصلت:
(١) تم تلخيصه من جامع البيان (٢٦/ ١٤٥)، وتفسير القرآن العظيم (٧/ ٣٩٠)، وفتح القدير (٥/ ٦٩). (٢) رواه البخاري في صحيحه، كتاب المغازي، باب غزوة الطائف انظر: الفتح (٧/ ٦٤٤)، ح (٤٣٣٠)، ومسلم في صحيحه (٢/ ٧٣٨)، ح (١٠٦١)، كتاب الزكاة، باب إعطاء المؤلفة قلوبهم على الإسلام، وتصبر من قوي إيمانه.
يقال منه: يمنُّه منًّا قطعه، والمنين الحبل الضعيف، وحبل منين، أي مقطوع.
ويأتي المن بمعنى الإنعام، كما في قوله تعالى: ﴿لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ﴾ [آل عمران: ١٦٤]. يقال: قد من الله على فلان، إذا أنعم، أو لفلان علي مِنَّة.
ويأتي بمعنى: النقص من الحق والبخس، ومنه قوله تعالى: ﴿وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ﴾ [القلم: ٣]. ومنه المنة المذمومة، لأنه ينقص النعمة، ويكدرها (١).
[ثانيا: المن في أقوال المفسرين]
المن: هو ذكر النعمة على معنى التعديد لها، والتفريع لها، مثل أن يقول: قد أحسنت إليك، ونعشتك، وشبهه.
وقيل: هو التحدث بما أعطى، حتى يبلغ ذلك المعطى فيؤذيه (٢).
وقيل: هو ذكر المنة للمنعم عليه على سبيل الفخر عليه بذلك، والاعتداد عليه بإحسانه (٣).
وقيل: هو ذكر النعمة والإحسان، ليراعيه المحسن إليه (٤).
وهذه الأقوال في معنى المن مطلقا، وأما في الآية:
فقال قتادة: ﴿لا تمنوا﴾ أنا أسلمنا بغير قتال، لم نقاتلك، كما قاتلك بنو فلان، وبنو فلان (٥).
(١) انظر: مفاتيح الغيب للرازي (٧/ ٤٩)، والمفهم في شرح مسلم (١/ ٣٠٤)، ولسان العرب (١٣/ ٤١٥)، وما بعدها، مادة "منن"، والبحر المحيط (٢/ ٦٥٠). (٢) انظر: القولين في الجامع لأحكام القرآن (٣/ ٣٠٨). (٣) انظر: تفسير البحر المحيط (٢/ ٦٥٠). (٤) انظر: التحرير والتنوير (٢٦/ ٢٦٩). (٥) انظر: جامع البيان (٢٦/ ١٤٥).
وقال الحسن قوله: ﴿يمنون عليك أن أسلموا﴾ هؤلاء مؤمنون، وليسوا بمنافقين، ولكنهم كانوا يقولون لرسول الله: أسلمنا قبل أن يسلم بنو فلان، وقاتلنا معك قبل أن يقاتل بنو فلان، فأنزل الله: ﴿بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان﴾ (١).
قلت: لا خلاف بين القولين، فهي في قوم منُّوا على النبي ﷺ إيمانهم به، فبين الله أن المنة له، ولا منة لهم، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وعليه فلا يجوز لأحد أن يمن بإيمانه، بل المن لله أن هداه لدينه، واتباع رسوله ﷺ.
[المطلب الرابع: حكم المن، والنصوص الواردة في النهي عنه]
[أولا: حكم المن]
المن محرم، وهو من كبائر الذنوب، نص عليه القرطبي (٢)، والفخر الرازي (٣)، وغيرهما.
٤ - ما رواه أحمد، ومسلم، وأبو داود، والترمذي، عن أبي ذر ﵁، عن النبي ﷺ قال:«ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم»، قال: فقرأها رسول الله ﷺ ثلاث مرات، قال أبو ذر: خابوا وخسروا، من هم يا رسول الله؟ قال:«المسبل، والمنان، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب»(١).
وفي رواية له:«المسبل إزاره»(٢).
وفي رواية لأبي داود:«المنان الذي لا يعطي شيئا إلا منه»(٣).
٥ - روى الطبراني، وابن أبي عاصم، عن أبي أمامة، قال: قال رسول الله ﷺ: «ثلاثة لا يقبل الله لهم صرفا ولا عدلا: عاق، ومنان، ومكذب بالقدر»(٤).
- ما رواه أحمد، والطحاوي، وابن حبان، عن مطرف بن الشخير، قال: بلغني عن أبي ذر حديثا … وساق حديثا طويلا، ثم قال: قلت: من الثلاثة الذين
(١) رواه أحمد في مسنده (٢٣/ ٢٤٥)، ح (٢١٣١٨)، ومسلم في صحيحه (١/ ١٠٢)، ح (١٠٦)، كتاب الإيمان، باب بيان غلظ تحريم إسبال الإزار، والمن بالعطية، وأبو داود في سننه (٤/ ٥٦)، ح (٤٠٨٤)، كتاب اللباس، باب ما جاء في إسبال الإزار، والترمذي في سننه (٣/ ٥٠٧)، ح (١٢١١)، كتاب البيوع، باب ما جاء فيمن حلف على سلعته كاذبا. (٢) انظر: صحيح مسلم، نفس الجزء، والصفحة السابقتين. (٣) وسنده صحيح، كما في صحيح سنن أبي داود (٢/ ٧٧٠)، ح (٣٤٤٥). (٤) رواه الطبراني في الكبير (٨/ ١٤٠)، ح (٧٥٤٧)، وابن أبي عاصم في السنة (١/ ٢٣١)، ح (٣٣٢)، والحديث حسنه المنذري، كما في صحيح الترغيب (٢/ ٦٦٣)، ح (٢٥١٣)، والألباني في الصحيحة، ح (١٧٨٥).
يبغضهم الله، قال:«الفخور المختال، وأنتم تجدون في كتاب الله ﷿: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ﴾ [لقمان: ١٨]، والبخيل المنان، والتاجر أو البياع الحلاف» الحديث (١).
(١) رواه أحمد في مسنده (٣٥/ ٤٢١)، ح (٢١٥٣٠)، والطبراني في الكبير (٢/ ١٥٦)، ح (١٦٣٧)، والطحاوي في تحفة الأخيار شرح مشكل الآثار (٧/ ٢٦٢، ٢٦٣)، ح (٥٢١٩، ٥٢٢٠)، والحاكم في مستدركه (٢/ ٨٨)، وصححه على شرط مسلم، ووافقه الذهبي، وصححه أيضا الألباني في صحيح الجامع (١/ ٥٨٩)، ح (٣٠٧٤).