بَابُ نَهْيِ الْحَاكِمِ عَنْ الرِّشْوَةِ وَاِتِّخَاذِ حَاجِبٍ لِبَابِهِ فِي مَجْلِسِ حُكْمِهِ
٣٨٩٦ - (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الرَّاشِي وَالْمُرْتَشِي فِي الْحُكْمِ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ) .
٣٨٩٧ - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الرَّاشِي وَالْمُرْتَشِي» رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلَّا النَّسَائِيّ وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ) .
٣٨٩٨ - (وَعَنْ ثَوْبَانَ قَالَ: «لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الرَّاشِيَ وَالْمُرْتَشِيَ وَالرَّائِشَ، يَعْنِي الَّذِي يَمْشِي بَيْنَهُمَا» رَوَاهُ أَحْمَدُ) .
٣٨٩٩ - (وَعَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «مَا مِنْ إمَامٍ أَوْ وَالٍ يَغْلِقُ بَابَهُ دُونَ ذَوِي الْحَاجَةِ وَالْخَلَّةِ وَالْمَسْكَنَةِ إلَّا أَغْلَقَ اللَّهُ أَبْوَابَ السَّمَاءِ دُونَ خَلَّتِهِ وَحَاجَتِهِ وَمَسْكَنَتِهِ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ) .
[بَابُ نَهْيِ الْحَاكِمِ عَنْ الرِّشْوَةِ وَاِتِّخَاذِ حَاجِبٍ لِبَابِهِ فِي مَجْلِسِ حُكْمِهِ]
حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ أَخْرَجَهُ أَيْضًا ابْنُ حِبَّانَ وَصَحَّحَهُ وَحَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ. وَقَدْ عَزَاهُ الْحَافِظُ فِي (بُلُوغِ الْمَرَامِ) إلَى أَحْمَدَ وَالْأَرْبَعَةِ وَهُوَ وَهْمٌ، فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد غَيْرُ حَدِيثِ ابْنِ عَمْرٍو الْمَذْكُورِ، وَوَهِمَ أَيْضًا بَعْضُ الشُّرَّاحِ فَقَالَ: إنَّ أَبَا دَاوُد زَادَ فِي رِوَايَتِهِ لِحَدِيثِ ابْنِ عَمْرٍو لَفْظَ " فِي الْحُكْمِ " وَلَيْسَتْ تِلْكَ الزِّيَادَةُ عِنْدَ أَبِي دَاوُد بَلْ لَفْظُهُ «لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الرَّاشِيَ وَالْمُرْتَشِيَ» قَالَ ابْنُ رَسْلَانَ فِي شَرْحِ السُّنَنِ: وَزَادَ التِّرْمِذِيُّ وَالطَّبَرَانِيُّ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ " فِي الْحُكْمِ " وَحَدِيثُ ابْنِ عَمْرٍو أَخْرَجَهُ أَيْضًا ابْنُ حِبَّانَ وَالطَّبَرَانِيُّ وَالدَّارَقُطْنِيّ قَالَ التِّرْمِذِيُّ: وَقَوَّاهُ الدَّارِمِيُّ. وَإِسْنَادُهُ لَا مَطْعَنَ فِيهِ، فَإِنَّ أَبَا دَاوُد قَالَ.: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، يَعْنِي الْيَرْبُوعِيَّ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، يَعْنِي الْقُرَشِيَّ الْعَامِرِيَّ خَالَ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ ذَكَرَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي الثِّقَاتِ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، يَعْنِي ابْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ.
وَحَدِيثُ ثَوْبَانَ أَخْرَجَهُ أَيْضًا الْحَاكِمُ وَفِي إسْنَادِهِ لَيْثُ بْنُ أَبِي سُلَيْمٍ قَالَ الْبَزَّارُ: إنَّهُ تَفَرَّدَ بِهِ. وَقَالَ فِي مَجْمَعِ الزَّوَائِدِ: إنَّهُ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَالْبَزَّارُ وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ، وَفِي إسْنَادِهِ أَبُو الْخَطَّابِ وَهُوَ مَجْهُولٌ اهـ.
وَفِي الْبَابِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ عِنْدَ الْحَاكِمِ وَعَنْ عَائِشَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ أَشَارَ إلَيْهِمَا التِّرْمِذِيُّ. قَالَ فِي التَّلْخِيصِ: يُنْظَرُ مَنْ خَرَّجَهُمَا.
وَحَدِيثُ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ أَخْرَجَهُ أَيْضًا الْحَاكِمُ وَالْبَزَّارُ وَفِي الْبَابِ عَنْ أَبِي مَرْيَمَ الْأَزْدِيِّ مَرْفُوعًا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ بِلَفْظِ «مَنْ تَوَلَّى شَيْئًا مِنْ أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ فَاحْتَجَبَ عَنْ حَاجَتِهِمْ وَفَقِيرِهِمْ احْتَجَبَ اللَّهُ دُونَ حَاجَتِهِ» قَالَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ: إنَّ سَنَدَهُ جَيِّدٌ. وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ فِي الْكَبِيرِ بِلَفْظِ «أَيُّمَا أَمِيرٍ احْتَجَبَ عَنْ النَّاسِ فَأَهَمَّهُمْ احْتَجَبَ اللَّهُ عَنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: هُوَ حَدِيثٌ مُنْكَرٌ قَوْلُهُ: (عَلَى الرَّاشِي) هُوَ دَافِعُ الرِّشْوَةِ، وَالْمُرْتَشِي: الْقَابِضُ لَهَا، وَالرَّائِشُ: هُوَ مَا ذَكَرَهُ فِي الرِّوَايَةِ الَّتِي فِي الْبَابِ قَالَ ابْنُ رَسْلَانَ: وَيَدْخُلُ فِي إطْلَاقِ الرِّشْوَةِ لِلْحَاكِمِ وَالْعَامِلِ عَلَى أَخْذِ الصَّدَقَاتِ وَهِيَ حَرَامٌ بِالْإِجْمَاعِ اهـ.
قَالَ الْإِمَامُ الْمَهْدِيُّ فِي الْبَحْرِ فِي كِتَابِ الْإِجَارَاتِ مِنْهُ: مَسْأَلَةُ: وَتَحْرُمُ رِشْوَةُ الْحَاكِمِ إجْمَاعًا لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لَعَنَ اللَّهُ الرَّاشِيَ وَالْمُرْتَشِيَ " قَالَ الْإِمَامُ يَحْيَى: وَيَفْسُقُ لِلْوَعِيدِ. وَالرَّاشِي إنْ طَلَبَ بَاطِلًا عَمَّهُ الْخَبَرُ. قَالَ الْمَنْصُورُ بِاَللَّهِ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَبَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ: وَإِنْ طَلَبَ بِذَلِكَ حَقًّا مُجْمَعًا عَلَيْهِ جَازَ. قِيلَ: وَظَاهِرُ الْمَذْهَبِ الْمَنْعُ لِعُمُومِ الْخَبَرِ وَإِنْ كَانَ مُخْتَلَفًا فِيهِ كَالْبَاطِلِ إذْ لَا تَأْثِيرَ لِحُكْمِهِ اهـ. قُلْت: وَالتَّخْصِيصُ لِطَالِبِ الْحَقِّ بِجَوَازِ تَسْلِيمِ الرِّشْوَةِ مِنْهُ لِلْحَاكِمِ لَا أَدْرِي بِأَيِّ مُخَصَّصٍ، فَالْحَقُّ التَّحْرِيمُ مُطْلَقًا أَخْذًا بِعُمُومِ الْحَدِيثِ، وَمَنْ زَعَمَ الْجَوَازَ فِي صُورَةٍ مِنْ الصُّوَرِ فَإِنْ جَاءَ بِدَلِيلٍ مَقْبُولٍ وَإِلَّا كَانَ تَخْصِيصُهُ رَدًّا عَلَيْهِ، فَإِنَّ الْأَصْلَ فِي مَالِ الْمُسْلِمِ التَّحْرِيمُ: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة: ١٨٨] لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا بِطِيبَةٍ مِنْ نَفْسِهِ " وَقَدْ انْضَمَّ إلَى هَذَا الْأَصْلِ كَوْنُ الدَّافِعِ إنَّمَا دَفَعَهُ لِأَحَدِ أَمْرَيْنِ: إمَّا لِيَنَالَ بِهِ حُكْمَ اللَّهِ إنْ كَانَ مُحِقًّا وَذَلِكَ لَا يَحِلُّ لِأَنَّ الْمَدْفُوعَ فِي مُقَابَلَةِ أَمْرٍ وَاجِبٍ أَوْجَبَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى الْحَاكِمِ الصَّدْعَ بِهِ، فَكَيْفَ لَا يَفْعَلُ حَتَّى يَأْخُذَ عَلَيْهِ شَيْئًا مِنْ الْحُطَامِ وَإِنْ كَانَ الدَّفْعُ لِلْمَالِ مِنْ صَاحِبِهِ لِيَنَالَ بِهِ خِلَافَ مَا شَرَعَهُ اللَّهُ إنْ كَانَ مُبْطِلًا فَذَلِكَ أَقْبَحُ لِأَنَّهُ مَدْفُوعٌ فِي مُقَابَلَةِ أَمْرٍ مَحْظُورٍ فَهُوَ أَشَدُّ تَحْرِيمًا مِنْ الْمَالِ الْمَدْفُوعِ لِلْبَغْيِ فِي مُقَابَلَةِ الزِّنَا بِهَا؛ لِأَنَّ الرِّشْوَةَ يُتَوَصَّلُ بِهَا إلَى أَكْلِ مَالِ الْغَيْرِ الْمُوجِبِ لِإِحْرَاجِ صَدْرِهِ وَالْإِضْرَارِ بِهِ بِخِلَافِ الْمَدْفُوعِ إلَى الْبَغْيِ، فَالتَّوَسُّلُ بِهِ إلَى شَيْءٍ مُحَرَّمٍ وَهُوَ الزِّنَا لَكِنَّهُ مُسْتَلَذٌّ لِلْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ بِهِ، وَهُوَ أَيْضًا ذَنْبٌ بَيْنَ الْعَبْدِ وَرَبِّهِ، وَهُوَ أَسْمَحُ الْغُرَمَاءِ لَيْسَ بَيْنَ الْعَاصِي وَبَيْنَ الْمَغْفِرَةِ إلَّا التَّوْبَةُ، مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ الْأَمْرَيْنِ بَوْنٌ بَعِيدٌ
وَمِنْ الْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى تَحْرِيمِ الرِّشْوَةِ مَا حَكَاهُ ابْنُ رَسْلَانَ فِي شَرْحِ السُّنَنِ عَنْ الْحَسَنِ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّهُمَا فَسَّرَا قَوْله تَعَالَى: {أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} [المائدة: ٤٢] بِالرِّشْوَةِ. وَحُكِيَ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ لَمَّا سُئِلَ عَنْ السُّحْتِ: أَهُوَ الرِّشْوَةُ؟ فَقَالَ: لَا {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: ٤٤] وَالظَّالِمُونَ، وَالْفَاسِقُونَ وَلَكِنَّ السُّحْتَ
أَنْ يَسْتَعِينَك الرَّجُلُ عَلَى مَظْلِمَتِهِ فَيُهْدِي لَك فَإِنْ أَهْدَى لَك فَلَا تَقْبَلُ
وَقَالَ أَبُو وَائِلٍ شَقِيقُ بْنُ سَلَمَةَ أَحَدُ أَئِمَّةِ التَّابِعِينَ: الْقَاضِي إذَا أَخَذَ الْهَدِيَّةَ فَقَدْ أَكَلَ السُّحْتَ، وَإِذَا أَخَذَ الرِّشْوَةَ بَلَغَتْ بِهِ الْكُفْرَ. رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ اهـ. مَا حَكَاهُ ابْنُ رَسْلَانَ. وَيَدُلُّ عَلَى الْمَنْعِ مِنْ قَبُولِ الْهَدِيَّةِ مَنْ اسْتَعَانَ بِهَا عَلَى دَفْعِ مَظْلِمَتِهِ مَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد عَنْ أَبِي أُمَامَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ شَفَعَ لِأَخِيهِ شَفَاعَةً فَأَهْدَى لَهُ هَدِيَّةً عَلَيْهَا فَقَبِلَهَا فَقَدْ أَتَى بَابًا عَظِيمًا مِنْ أَبْوَابِ الرِّبَا» وَفِي إسْنَادِهِ الْقَاسِمُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْأُمَوِيُّ مَوْلَاهُمْ الشَّامِيُّ وَفِيهِ مَقَالٌ. وَيَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ قَبُولِ مُطْلَقِ الْهَدِيَّةِ عَلَى الْحَاكِمِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْأُمَرَاءِ حَدِيثُ «هَدَايَا الْأُمَرَاءِ غُلُولٌ» أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ وَابْنُ عَدِيٍّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي حُمَيْدٍ قَالَ الْحَافِظُ: وَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ وَلَعَلَّ وَجْهَ الضَّعْفِ أَنَّهُ مِنْ رِوَايَةِ إسْمَاعِيلَ بْنِ عَيَّاشٍ عَنْ أَهْلِ الْحِجَازِ. وَأَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ الْحَافِظُ: وَإِسْنَادُهُ أَشَدُّ ضَعْفًا. وَأَخْرَجَهُ سُنَيْدُ بْنُ دَاوُد فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ عُبَيْدَةَ بْنِ سُلَيْمَانَ عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ الْحَسَنِ عَنْ جَابِرٍ وَإِسْمَاعِيلُ ضَعِيفٌ وَأَخْرَجَهُ الْخَطِيبُ فِي تَلْخِيصِ الْمُتَشَابِهِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ بِلَفْظِ «هَدَايَا الْعُمَّالِ سُحْتٌ» وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ فِي بَابِ الْعَامِلِينَ عَلَيْهَا حَدِيثُ بُرَيْدَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِلَفْظِ «مَنْ اسْتَعْمَلْنَاهُ عَلَى عَمَلٍ فَرَزَقْنَاهُ رِزْقًا فَمَا أَخَذَهُ بَعْدَ ذَلِكَ فَهُوَ غُلُولٌ» أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد، وَقَدْ بَوَّبَ الْبُخَارِيُّ فِي أَبْوَابِ الْقَضَاءِ: بَابَ هَدَايَا الْعُمَّالِ، وَذَكَرَ حَدِيثَ ابْنِ اللُّتْبِيَّةِ الْمَشْهُورَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْهَدَايَا الَّتِي تُهْدَى لِلْقُضَاةِ وَنَحْوِهِمْ هِيَ نَوْعٌ مِنْ الرِّشْوَةِ؛ لِأَنَّ الْمُهْدِيَ إذَا لَمْ يَكُنْ مُعْتَادًا لِلْإِهْدَاءِ إلَى الْقَاضِي قَبْلَ وِلَايَتِهِ لَا يُهْدِي إلَيْهِ إلَّا لِغَرَضٍ، وَهُوَ إمَّا التَّقَوِّي بِهِ عَلَى بَاطِلِهِ، أَوْ التَّوَصُّلُ لِهَدِيَّتِهِ لَهُ إلَى حَقِّهِ، وَالْكُلُّ حَرَامٌ كَمَا تَقَدَّمَ
وَأَقَلُّ الْأَحْوَالِ أَنْ يَكُونَ طَالِبًا لِقُرْبِهِ مِنْ الْحَاكِمِ وَتَعْظِيمِهِ وَنُفُوذِ كَلَامِهِ، وَلَا غَرَضَ لَهُ بِذَلِكَ إلَّا الِاسْتِطَالَةَ عَلَى خُصُومِهِ أَوْ الْأَمْنَ مِنْ مُطَالَبَتِهِمْ لَهُ فَيَحْتَشِمُهُ مَنْ لَهُ حَقٌّ عَلَيْهِ وَيَخَافُهُ مَنْ لَا يَخَافُهُ قَبْلَ ذَلِكَ، وَهَذِهِ الْأَغْرَاضُ كُلُّهَا تَئُولُ إلَى مَا آلَتْ إلَيْهِ الرِّشْوَةُ. فَلْيَحْذَرْ الْحَاكِمُ الْمُتَحَفِّظُ لِدِينِهِ الْمُسْتَعِدُّ لِلْوُقُوفِ بَيْنَ يَدَيْ رَبِّهِ مِنْ قَبُولِ هَدَايَا مَنْ أَهْدَى إلَيْهِ بَعْدَ تَوَلِّيهِ لِلْقَضَاءِ، فَإِنَّ لِلْإِحْسَانِ تَأْثِيرًا فِي طَبْعِ الْإِنْسَانِ، وَالْقُلُوبُ مَجْبُولَةٌ عَلَى حُبِّ مَنْ أَحْسَنَ إلَيْهَا، فَرُبَّمَا مَالَتْ نَفْسُهُ إلَى الْمُهْدِي إلَيْهِ مَيْلًا يُؤَثِّرُ الْمَيْلُ عَنْ الْحَقِّ عِنْدَ عُرُوضِ الْمُخَاصَمَةِ بَيْنَ الْمُهْدِي وَبَيْنَ غَيْرِهِ وَالْقَاضِي لَا يَشْعُرُ بِذَلِكَ وَيَظُنُّ أَنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ عَنْ الصَّوَابِ بِسَبَبِ مَا قَدْ زَرَعَهُ الْإِحْسَانُ فِي قَلْبِهِ، وَالرِّشْوَةُ لَا تَفْعَلُ زِيَادَةً عَلَى هَذَا، وَمِنْ هَذِهِ الْحَيْثِيَّةِ امْتَنَعْت عَنْ قَبُولِ الْهَدَايَا بَعْدَ دُخُولِي فِي الْقَضَاءِ مِمَّنْ كَانَ يُهْدِي إلَيَّ قَبْلَ الدُّخُولِ فِيهِ بَلْ مِنْ الْأَقَارِبِ فَضْلًا عَنْ سَائِرِ النَّاسِ، فَكَانَ فِي ذَلِكَ مِنْ الْمَنَافِعِ مَا لَا يَتَّسِعُ الْمُقَامُ لِبَسْطِهِ، أَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَهُ خَالِصًا لِوَجْهِهِ
وَقَدْ ذَكَرَ الْمَغْرِبِيُّ فِي شَرْحِ (بُلُوغِ الْمَرَامِ) فِي شَرْحِ حَدِيثِ الرِّشْوَةِ كَلَامًا فِي غَايَةِ السُّقُوطِ فَقَالَ مَا مَعْنَاهُ: إنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُرْشِيَ مَنْ كَانَ يَتَوَصَّلُ بِالرِّشْوَةِ إلَى نَيْلِ حَقٍّ أَوْ دَفْعِ بَاطِلٍ، وَكَذَلِكَ قَالَ: يَجُوزُ لِلْمُرْتَشِي أَنْ يَرْتَشِيَ إذَا كَانَ ذَلِكَ فِي حَقٍّ لَا يَلْزَمُهُ فِعْلُهُ، وَهَذَا أَعَمُّ مِمَّا قَالَهُ الْمَنْصُورُ بِاَللَّهِ وَمَنْ مَعَهُ كَمَا تَقَدَّمَتْ الْحِكَايَةُ لِذَلِكَ عَنْهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ خَصُّوا الْجَوَازَ بِالرَّاشِي وَهَذَا عَمَّمَهُ فِي الرَّاشِي وَالْمُرْتَشِي، وَهُوَ تَخْصِيصٌ بِدُونِ مُخَصِّصٍ وَمُعَارَضَةٌ لِعُمُومِ الْحَدِيثِ بِمَحْضِ الرَّأْيِ الَّذِي لَيْسَ عَلَيْهِ أَثَارَةٌ مِنْ عِلْمٍ، وَلَا يَغْتَرُّ بِمِثْلِ هَذَا إلَّا مَنْ لَا يَعْرِفُ كَيْفِيَّةَ الِاسْتِدْلَالِ، وَالْقَائِلُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - كَانَ قَاضِيًا قَوْلُهُ: (وَالْخَلَّةُ) فِي النِّهَايَةِ: الْخَلَّةُ بِالْفَتْحِ: الْحَاجَةُ وَالْفَقْرُ فَيَكُونُ الْعَطْفُ عَلَى مَا قَبْلَهُ مِنْ عَطْفِ الْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ
وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَحِلُّ احْتِجَابُ أُولِي الْأَمْرِ عَنْ أَهْلِ الْحَاجَاتِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ وَجَمَاعَةٌ: إنَّهُ يَنْبَغِي لِلْحَاكِمِ أَنْ لَا يَتَّخِذَ حَاجِبًا، قَالَ فِي الْفَتْحِ: وَذَهَبَ آخَرُونَ إلَى جَوَازِهِ، وَحَمْلِ الْأَوَّلِ عَلَى زَمَنِ سُكُونِ النَّاسِ وَاجْتِمَاعِهِمْ عَلَى الْخَيْرِ وَطَوَاعِيَّتِهِمْ لِلْحَاكِمِ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ يُسْتَحَبُّ الِاحْتِجَابُ حِينَئِذٍ لِتَرْتِيبِ الْخُصُومِ وَمَنْعِ الْمُسْتَطِيلِ وَدَفْعِ الشَّرِّ. وَنَقَلَ ابْنُ التِّينِ عَنْ الدَّاوُدِيِّ قَالَ: الَّذِي أَحْدَثَهُ الْقُضَاةُ مِنْ شِدَّةِ الِاحْتِجَابِ وَإِدْخَالِ بَطَائِقَ مِنْ الْخُصُومِ لَمْ يَكُنْ مِنْ فِعْلِ السَّلَفِ اهـ
قُلْت: صَدَقَ لَمْ يَكُنْ مِنْ فِعْلِ السَّلَفِ، وَلَكِنْ مَنْ لَنَا بِمِثْلِ رِجَالِ السَّلَفِ فِي أَخِرِ الزَّمَانِ، فَإِنَّ النَّاسَ اشْتَغَلُوا بِالْخُصُومَةِ لِبَعْضِهِمْ بَعْضًا، فَلَوْ لَمْ يَحْتَجِبْ الْحَاكِمُ لَدَخَلَ عَلَيْهِ الْخُصُومُ وَقْتَ طَعَامِهِ وَشَرَابِهِ وَخُلُوِّهِ بِأَهْلِهِ وَصَلَاتِهِ الْوَاجِبَةِ وَجَمِيعِ أَوْقَاتِ لَيْلِهِ وَنَهَارِهِ، وَهَذَا مِمَّا لَمْ يَتَعَبَّدْ اللَّهُ بِهِ أَحَدًا مِنْ خَلْقِهِ وَلَا جَعَلَهُ فِي وُسْعِ عَبْدٍ مِنْ عِبَادِهِ. وَقَدْ كَانَ الْمُصْطَفَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَحْتَجِبُ فِي بَعْضِ أَوْقَاتِهِ وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى أَنَّهُ كَانَ بَوَّابًا لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا جَلَسَ عَلَى قُفِّ الْبِئْرِ فِي الْقِصَّةِ الْمَشْهُورَةِ، وَإِذَا جَعَلَ لِنَفْسِهِ بَوَّابًا فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ وَهُوَ مُنْفَرِدٌ عَنْ أَهْلِهِ خَارِجٌ عَنْ بَيْتِهِ، فَبِالْأَوْلَى اتِّخَاذُهُ فِي مِثْلِ الْبَيْتِ وَبَيْنَ الْأَهْلِ
وَقَدْ ثَبَتَ أَيْضًا فِي الصَّحِيحِ فِي قِصَّةِ حَلِفِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ لَا يَدْخُلَ عَلَى نِسَائِهِ شَهْرًا أَنَّ عُمَرَ اسْتَأْذَنَ لَهُ الْأَسْوَدَ لَمَّا قَالَ لَهُ: يَا رَبَاحُ اسْتَأْذِنْ لِي، فَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَتَّخِذُ لِنَفْسِهِ بَوَّابًا، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَاسْتَأْذَنَ عُمَرُ لِنَفْسِهِ وَلَمْ يَحْتَجْ إلَى قَوْلِهِ: اسْتَأْذِنْ لِي. وَقَدْ وَرَدَ مَا يُخَالِفُ هَذَا فِي الظَّاهِرِ، وَهُوَ مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ فِي قِصَّةِ الْمَرْأَةِ الَّتِي وَجَدَهَا تَبْكِي عِنْدَ قَبْرٍ فَجَاءَتْ إلَى بَابِهِ فَلَمْ تَجِدْ عَلَيْهِ بَوَّابًا. وَالْجَمْعُ مُمْكِنٌ. أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ النِّسَاءَ لَا يُحْجَبْنَ عَنْ الدُّخُولِ فِي الْغَالِبِ لِأَنَّ الْأَمْرَ الْأَهَمَّ مِنْ اتِّخَاذِ الْحَاجِبِ هُوَ مَنْعُ دُخُولِ مَنْ يَخْشَى الْإِنْسَانُ مِنْ اطِّلَاعِهِ عَلَى مَا لَا يَحِلُّ الِاطِّلَاعُ عَلَيْهِ
وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ النَّفْيَ لِلْحَاجِبِ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ لَا يَسْتَلْزِمُ النَّفْيَ مُطْلَقًا، وَغَايَةُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَاجِبٌ رَاتِبٌ. قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا لَمْ يَكُنْ فِي شُغْلٍ مِنْ أَهْلِهِ وَلَا انْفِرَادٍ بِشَيْءٍ مِنْ أَمْرِهِ رَفَعَ حِجَابَهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّاسِ وَيَبْرُزُ لِطَالِبِ الْحَاجَةِ وَبِمِثْلِهِ قَالَ الْكَرْمَانِيُّ.
نيل الأوطار،ج:8،ص:307إلى311.