[مَسْأَلَة الِاسْتِنْجَاءُ لِمَا خَرَجَ مِنْ السَّبِيلَيْنِ]
(٢٠٥) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: وَالِاسْتِنْجَاءُ لِمَا خَرَجَ مِنْ السَّبِيلَيْنِ هَذَا فِيهِ إضْمَارٌ، وَتَقْدِيرُهُ: وَالِاسْتِنْجَاءُ وَاجِبٌ، فَحَذَفَ خَبَرَ الْمُبْتَدَإِ اخْتِصَارًا، وَأَرَادَ مَا خَرَجَ غَيْرَ الرِّيحِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ بَيَّنَ حُكْمَهَا، وَسَوَاءٌ كَانَ الْخَارِجُ مُعْتَادًا، كَالْبَوْلِ وَالْغَائِطِ، أَوْ نَادِرًا، كَالْحَصَى وَالدُّودِ وَالشَّعْرِ، رَطْبًا أَوْ يَابِسًا. وَلَوْ احْتَقَنَ فَرَجَعَتْ أَجْزَاءٌ خَرَجَتْ مِنْ الْفَرْجِ، أَوْ وَطِئَ رَجُلٌ امْرَأَتَهُ دُونَ الْفَرْجِ فَدَبَّ مَاؤُهُ إلَى فَرْجِهَا ثُمَّ خَرَجَ مِنْهُ، فَعَلَيْهِمَا الِاسْتِنْجَاءُ عَلَى ظَاهِرِ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ، وَقَدْ صَرَّحَ بِهِ الْقَاضِي وَغَيْرُهُ.
وَلَوْ أَدْخَلَ الْمِيلَ فِي ذَكَرِهِ، ثُمَّ أَخْرَجَهُ، لَزِمَهُ الِاسْتِنْجَاءُ؛ لِأَنَّهُ خَارِجٌ مِنْ السَّبِيلِ، فَأَشْبَهَ الْغَائِطَ الْمُسْتَحْجِرَ، وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجِبَ مِنْ نَاشِفٍ لَا يُنَجِّسُ الْمَحَلَّ، لِلْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرْنَا فِي الرِّيحِ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَهَكَذَا الْحُكْمُ فِي الطَّاهِرِ، وَهُوَ الْمَنِيُّ إذَا حَكَمْنَا بِطَهَارَتِهِ.
وَالْقَوْلُ بِوُجُوبِ الِاسْتِنْجَاءِ فِي الْجُمْلَةِ قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَحُكِيَ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ فِيمَنْ صَلَّى بِقَوْمٍ وَلَمْ يَسْتَنْجِ: لَا أَعْلَمُ بِهِ بَأْسًا. وَهَذَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ فِيمَنْ لَمْ يَلْزَمْهُ الِاسْتِنْجَاءُ، كَمَنْ لَزِمَهُ الْوُضُوءُ لِنَوْمٍ أَوْ خُرُوجِ رِيحٍ، أَوْ مَنْ تَرَكَ الِاسْتِنْجَاءَ نَاسِيًا، فَيَكُونُ مُوَافِقًا لِقَوْلِ الْجَمَاعَةِ. وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ لَمْ يَرَ وُجُوبَ الِاسْتِنْجَاءِ. وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:«مَنْ اسْتَجْمَرَ فَلْيُوتِرْ، مَنْ فَعَلَ فَقَدْ أَحْسَنَ، وَمَنْ لَا فَلَا حَرَجَ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد؛
وَلِأَنَّهَا نَجَاسَةٌ يُكْتَفَى فِيهَا بِالْمَسْحِ، فَلَمْ تَجِبْ إزَالَتُهَا كَيَسِيرِ الدَّمِ. وَلَنَا قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا ذَهَبَ أَحَدُكُمْ إلَى الْغَائِطِ فَلْيَذْهَبْ مَعَهُ بِثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ، فَإِنَّهَا تُجْزِئُ عَنْهُ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَقَالَ: «لَا يَسْتَنْجِي أَحَدُكُمْ بِدُونِ ثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ: «لَقَدْ نَهَانَا أَنْ نَسْتَنْجِيَ بِدُونِ ثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ.» فَأَمَرَ، وَالْأَمْرُ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ. وَقَالَ: فَإِنَّهَا تُجْزِئُ عَنْهُ. وَالْإِجْزَاءُ إنَّمَا يُسْتَعْمَلُ فِي الْوَاجِبِ، وَنَهَى عَنْ الِاقْتِصَارِ عَلَى أَقَلِّ مِنْ ثَلَاثَةٍ، وَالنَّهْيُ يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ، وَإِذَا حَرُمَ تَرْكُ بَعْضِ النَّجَاسَةِ فَتَرْكُ جَمِيعِهَا أَوْلَى.
وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: ثَبَتَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا يَكْفِي أَحَدَكُمْ دُونَ ثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ.» وَأَمَرَ بِالْعَدَدِ فِي أَخْبَارٍ كَثِيرَةٍ، وَقَوْلُهُ: (لَا حَرَجَ) يَعْنِي فِي تَرْكِ الْوِتْرِ، لَا فِي تَرْكِ الِاسْتِجْمَارِ؛ لِأَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ فِي الْخَبَرِ الْوِتْرُ، فَيَعُودُ نَفْيُ الْحَرَجِ إلَيْهِ، وَأَمَّا الِاجْتِزَاءُ بِالْمَسْحِ فِيهِ فَلِمَشَقَّةِ الْغَسْلِ، لِكَثْرَةِ تَكَرُّرِهِ فِي مَحَلِّ الِاسْتِنْجَاءِ.
المغني ،ج:1،ص:111ـ112.