وكاتّكال بعضهم على قوله ﷺ حاكيًا عن ربه:"أنا عند حسن ظن عبدي بي، فليظنّ بي ما شاء"(٤) يعني: ما كان في ظنه، فإنّي فاعله به (٥).
ولا ريب أنّ حسن الظن إنّما يكون مع "الإحسان" فإنّ المحسن حسن الظن بربه أنّه يجازيه (٦) على إحسانه، ولا يخلف وعده، ويقبل توبته. وأما المسيء المصرّ على الكبائر والظلم والمخالفات، فإنّ وحشة المعاصي والظلم والإجرام تمنعه(١)من حسن الظن بربه. وهذا موجود في الشاهد، فإنّ العبد الآبق المسيء(٢)الخارج عن طاعة سيده لا يحسن الظن به(٣).
ولا يجامع وحشةَ الإساءة إحسانُ الظنّ (٤) أبدًا، فإنّ المسيء مستوحش بقدر إساءته. وأحسنُ الناس ظنًّا بربّه أطوعُهم له، كما قال الحسن البصري: إنّ المؤمن أحسن الظنَّ بربّه، فأحسن العمل. وإنّ الفاجر أساء الظنَّ بربّه، فأساء العمل (٥).
وكيف يكون محسنَ الظن (٦) بربه من هو شارد عنه، حالّ مرتحل في مساخطه وما يغضبه (٧)، متعرض (٨) للعنته، قد هان حقّه وأمره عليه فأضاعه، وهان نهيه عليه فارتكبه، وأصرَّ عليه!
وكيف يحسن الظن به (٩) من بارزه بالمحاربة، وعادى أولياءه، ووالى أعداءه، وجحد صفات كماله، وأساء الظن بما وصف به نفسه
ووصفَتْه به رُسُله (١)، وظن بجهله أن ظاهر ذلك ضلال وكفر؟.
وكيف يحسن الظنّ به من يظن (٢) أنه لا يتكلّم، ولا يأمر، ولا ينهى، ولا يرضى، ولا يغضب؟
وقد قال تعالى في حق من شكّ في تعلّق سمعه ببعض الجزئيات، وهو السرّ من القول: ﴿وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (٢٣)﴾ [فصلت: ٢٣]، فهؤلاء لما ظنّوا أن الله سبحانه لا يعلم كثيرًا مما يعملون، كان هذا إساءةً لظنهم برئهم، فأرداهم ذلك الظن.
وهذا شأن كل من جحد صفات كماله ونعوت جلاله ووَصَفه بما لا يليق به. فإذا ظنّ هذا أنه يُدخِلُه الجنةَ كان هذا غرورًا وخداعًا من نفسه، وتسويلًا من الشيطان، لا إحسانَ ظن بربّه (٣).
فتأمَّلْ هذا الموضع، وتأمَّلْ شدة الحاجة إليه! وكيف يجتمع في قلب العبد تيقُّنُه بأنّه ملاقٍ الله، وأنّ الله (٤) يسمع كلامه، ويرى مكانه، ويعلم سرّه وعلانيته، ولا يخفى عليه خافية من أمره، وأنه (٥) موقوف بين يديه ومسؤول عن كل ما عمل، وهو مقيم على مساخطه، مضيّع لأوامره، معطّل لحقوقه. وهو مع هذا محسنٌ الظنَّ (٦)
(١) ف: "وصفه به رسوله". (٢) ف: "به الظن من ظنّ". (٣) س: "إحسان الظن بربه تعالى". وفي ز: "إحسان ظنه بربه". وفي خا: "إحسان ظنّ به". والمثبت من ف، ل. وكذا في خب. (٤) س: "وأنه". (٥) ز: "فإنه"، خطأ. (٦) كذا ضبط بفتح النون في ف. وفي ز: "يحسن الظن" وكذا في خب.
به؟ وهل هذا إلا من خدع النفوس وغرور الأماني؟
وقد قال أبو أمامة بن سهل (١) بن حُنَيف: دخلتُ أنا وعروة بن الزبير على عائشة ﵂ فقالت: لو (٢) رأيتما رسول الله ﷺ في مرض له، وكانت عندي ستة دنانير- أو سبعة- فأمرني رسول الله ﷺ أن أفرّقها. قالت: فشغلني وجع النبي ﷺ، حتى عافاه الله. ثم سألني عنها فقال:"ما فعلتِ؟ أكنتِ فرّقتِ الستّةَ الدنانير (٣)؟ " فقلت: لا، والله لقد كان شغلني (٤) وجعُك. قالت: فدعا بها، فوضعها في كفه، فقال:"ما ظنُّ نبيِّ اللهِ لو لقي الله، وهذه عنده؟ "(٥) وفي لفظ: "ما ظنُّ محمَّد بربّه لو لقي الله، وهذه عنده؟ ".
فيالله! ما ظنُّ أصحابِ الكبائر والظَّلَمةِ بالله إذا لقُوه، ومظالم العباد
(١) وقع في س: "أبو أمامة سهل"، فأسقط كلمة الابن قبل "سهل". وكذا في ط. وهو غلط، فإن أبا أمامة كنية اشتهر بها أسعد بن سهل بن حنيف. وقد ولد قبل وفاة النبي ﷺ بعامين، وحنّكه النبي ﷺ وسمّاه باسم جده لأمه: أبي أمامة أسعد بن زرارة. انظر الإصابة (١/ ١٨١).