ونختم (٥) الجواب بفصل يتعلّق بعشق الصور، وما فيه من المفاسد العاجلة والآجلة، وإن كانت أضعاف ما يذكره ذاكر، فإنّه يفسد القلب بالذات. وإذا فسد فسدت الإرادات والأقوال والأعمال، وفسد نفس التوحيد (٦) كما تقدّم، وكما سنقرّره أيضًا إن شاء الله.
والله سبحانه إنّما حكى هذا المرض عن طائفتين من الناس، وهما اللوطية والنساء. فأخبر عن عشق امرأة العزيز ليوسف وما راودَتْه وكادَتْه به، وأخبر عن الحال التي صار إليها يوسف بصبره وعفّته وتقواه، مع أنّ الذي ابتلي به أمرٌ لا يصبر عليه إلا من صبّره الله عليه. فإنّ موافقة الفعل بحسب قوة الداعي وزوال المانع، وكان الداعي ها هنا في غاية القوة، وذلك من وجوه(١):
أحدها: ما ركّبه الله سبحانه في طبع الرجل من ميله إلى المرأة كما يميل العطشان إلى الماء (٢) والجائع إلى الطعام، حتى إنّ كثيرًا من الناس يصبر عن الطعام والشراب ولا يصبر عن النساء. وهذا لا يُذَمّ إذا صادف حِلًّا بل يحمد، كما في كتاب الزهد للإمام أحمد (٣) من حديث يوسف بن عطية الصفَّار، عن ثابت(١)عن أنس، عن النبي ﷺ:"حُبب إليّ من دنياكم النساء والطيب، أصبر عن الطعام والشراب ولا أصبر عنهن".
الثاني: أن يوسف ﵇ كان شابًّا، وشهوة الشباب وحدّته أقوى.
الثالث: أنه كان عَزَبًا ليس له زوجة ولا سُرِّيّة تكسر شدّة الشهوة (٢).
الرابع: أنه كان في بلاد غُربةٍ يتأتّى للغريب فيها من قضاء الوطر ما لا يتأتّى له في وطنه بين أهله ومعارفه.
الخامس: أنّ المرأة كانت ذات منصب وجمال بحيث إنّ كل واحد من هذين الأمرين يدعو إلى مواقعتها (٣).
السادس: أنها غير ممتنعة ولا آبية، فإنّ (٤) كثيرًا من الناس يزيل رغبتَه في المرأة إباؤها وامتناعها، يجد في نفسه من ذلّ الخضوع والسؤال لها. وكثير من الناس يزيده الإباء والامتناع إرادة وحبًّا، كما قال الشاعر:
وزادني كلَفًا في الحبّ أنْ مَنَعتْ … أحبُّ شيءٍ إلى الإنسان ما مُنِعا (٥)
فطباع الناس مختلفة في ذلك، فمنهم من يتضاعف حبّه عند بذل المرأة ورغبتها، ويضمحلّ عند إبائها وامتناعها.
وأخبرني بعض القضاة أنّ إرادته وشهوته تضمحلّ (١) عند امتناع امرأته أو سُرّيته (٢) وإبائها بحيث لا يعاودها. ومنهم من يتضاعف حبّه وإرادته بالمنع، وتشتدّ شهوته (٣) كلّما مُنِع، ويحصل له من اللذّة بالظفر نظيرُ ما يحصل (٤) من لذة بالظفر بالصيد (٥) بعد امتناعه ونفاره، واللذة بإدراك المسألة بعد استعصائها (٦) وشدّة الحرص على إدراكها.
السابع: أنّها طلبت وأرادت وراودت (٧) وبذلت الجهد، فكفتْه مؤنة الطلب وذلَّ الرغبة إليها، بل كانت هي الراغبة الذليلة، وهو العزيز المرغوب إليه.
الثامن: أنّه في دارها وتحت سلطانها وقهرها بحيث (٨) يخشى إن لم يطاوعها من أذاها له؛ فاجتمع داعي الرغبة والرهبة.
التاسع: أنّه لا يخشى أن تنُمّ عليه هي ولا أحد من جهتها، فإنّها هي (٩) الطالبة والراغبة، وقد غلَّقت الأبواب، وغيَّبت الرقباء.
العاشر: أنّه كان في الظاهر مملوكًا لها في الدار بحيث يدخل ويخرج ويحضر معها ولا ينكَر عليه، فكان (١) الإنس سابقًا على الطلب، وهو من أقوى الدواعي؛ كما قيل لامرأة شريفة من أشراف العرب (٢): ما حملكِ على الزنى؟ قالت:"قُربُ الوِساد، وطول السواد"(٣). تعني قرب وساد الرجل من وسادي (٤)، وطول السِّواد بيننا.
الحادي عشر: أنّها استعانت عليه بأئمة المكر والاحتيال، فأرته إيّاهنّ، وشكت حالها إليهنّ، لتستعين بهنّ عليه؛ فاستعان هو بالله عليهن، فقال: ﴿وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ (٣٣)﴾ [يوسف: ٣٣].
الثاني عشر: أنها تواعدته (٥) بالسجن والصَّغار. وهذا نوع إكراه، إذ هو (٦) تهديد ممن يغلب (٧) على الظنّ وقوعُ ما هدَّد به، فيجتمع (٨) داعي الشهوة وداعي السلامة من ضيق السجن والصغار.