يكره عند الجمهور للمصلّي تأخير الأذكار المشروعة في الانتقال من ركن إلى ركن إلى غير محلّها، بأن يكبّر للركوع بعد إتمامه، ويقول: سمع الله لمن حمده بعد اعتداله، لأن السنّة ـ عندهم ـ تعمير الركن بذكره، بأن يبتدئ بالذّكر ثم يشرع بالركوع أو السجود ، وقالت المالكية:إن ذلك خلاف المندوب.
قلت: واحرص ـ أخي المصلي ـ على تكبيرات الانتقال، وإياك أن تتهاون فيها، أو أن تضعها في غير موضعها.
قالت الحنابلة: إنه مبطل للصلاة إن تعمده، ويجب عليه سجود السهو إن فعله ساهياً، لأن تعمير الأركان بالذّكر واجب عندهم (١) ٢) .
والراجح: ما ذهب إليه الحنابلة، إذ عدُّ هذه التكبيرات من السنن، ينافي أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - المسيء صلاته بها، كما جاء في روايةٍ لأبي داود وغيره من حديث رفاعة بن رافع (٢) ، فهي إذن واجبة، ومؤيّد بعموم قوله - صلى الله عليه وسلم - ((صلوا كما رأيتموني أصلي)) .
وقد قرر الإمام الشوكاني في ((نيل الأوطار)) (٣) ثم في ((السيل الجرار)) (٤)
أن الأصل في جميع الأمور الواردة في حديث المسيء صلاته الوجوب، وفد نصّ الشوكاني نفسه في ((النيل)) أن هذه التكبيرات مما جاء فيه في بعض الروايات، ثم نسي ذلك في ((السيل)) فذكرها (١/ ٢٢٧ ـ ٢٢٨) في جملة السنن!!
فسبحان ربّي لا يضلّ ولا ينسى، وقد ذهب إلى الوجوب الإِمام أحمد، كما
(١) الدين الخالص: (٣/٢١٢) وانظر: ((المحلى)) : (٤/١٥١) و ((فتح الباري)) : (٢/٢٧٣) . (٢) انظر: ((سنن أبي داود)) : (١/٢٢٧) . (٣) انظر: (٢/٢٢٢ – ٢٢٤) . (٤) انظر: (١/ ٢١٠ – ٢١٣) . وقد قرر ابن دقيق العيد نحو المذكور عن الشوكاني، فقال: ((لكن يحتاج أولاً إلى جمع طرق هذا الحديث وإحصاء الأمور المذكورة فيه، والأخذ بالزّائد فالزائد، ثم إن عارض الوجوب أو عدمه، دليل أقوى منه عمل به، وإن جاءت صيغة الأمر في حديث آخر بشيء لم يذكر في هذا الحديث قُدّمت)) وقال قبل ذلك: ((فكل موضع اختلف الفقهاء في وجوبه وكان مذكوراً في هذا الحديث فلنا أن نتمسك به في وجوبه)) . وقد امتثل الحافظ ابن حجر لما أشار إليه ابن دقيق العيد. فجمع طرق حديث المسيء صلاته من رواية أبي هريرة ورفاعة، وتعقّب النووي في بعض كلامه. انظر: ((فتح الباري)) : (٢/٢٧٩ -٢٨٠) وقارن بـ ((الصلاة وحكم تاركها)) : (ص ١٣٩) .حكاه النووي
في ((المجموع)) (١) عنه، واحتجّ له بالعموم السابق، وخفي عليه حديث المسيء، فإنه قال محتجّاً عليه لمذهبه:((ودليلنا على أحمد: حديث المسيء صلاته، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يأمره بتكبيرات الانتقال، وأمره بتكبيرة الإحرام)) !! فلم يتنبه لرواية أبي داود وغيره (٢) .
وقد جاءت هذه التكبيرات في أحاديث كثيرة، منها:
عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قام إلى الصّلاة يكبّر حين يقوم، ثم يكبر حين يركع، ثم يقول: سمع الله لمن حمده، حين يرفع صُلبَه من الرّكعة، ثم يقول وهو قائم: ربَّنا لك الحمد – وقال بعض الرواة: ولك الحمد – ثم يكبّر حين يهوي، ثم يكبّر حين يرفع رأسه، ثم يكبر حين يسجد، ثم يكبّر حين يرفع رأسه، ثم يفعل ذلك في الصّلاة كلّها حتى يقضِيَها، ويكبّر حين يقوم من الثِّنتَين بعد الجلوس (٣) .
والحكمة في شرعية تكرار التكبير: تنبيه المصلّي على أن الله سبحانه أكبر من كل كبير، وأعظم من كل عظيم، فلا ينبغي التشاغل عن طاعته بشيء من الأشياء، بل ينبغي الإقبال عليها بالقلب والقالب، والخشوع فيها تعظيماً له سبحانه، وطلباً لرضاه (٤) .
[٢/٢٠] ومن أخطاء المصلّين في تركهم تعمير الأركان، ما قاله النووي بعد ذكره أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا قال سمع الله لمن حمده، قال: اللهم ربنا ولك الحمد، وحديث ((صلّوا كما رأيتموني أُصلي)) قال: ((فيقتضي هذا مع ما قبله: أن كلّ مصلّ يجمع بينهما، ولأنه ذكر يستحب للإمام فيستحب لغيره، كالتسبيح في الرّكوع وغيره، ولأن الصّلاة مبنيّةٌ على أن لا يفتر عن الذّكر في شيء منها، فإن لم يَقُلْ بالذّكرَيْن في الرفع والاعتدال، بقي أحد الحالين خالياً عن الذّكر.
وأما الجواب عن قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((وإذا قال سمع الله لمن حمده فقولوا ربنا لك الحمد)) فقال أصحابنا: فمعناه: قولوا ربنا لك الحمد مع ما قد علمتموه من قول: ((سمع الله لمن حمده)) وإنما خصّ هذا بالذّكر، لأنهم كانوا يسمعون جهر النبي - صلى الله عليه وسلم - بسمع الله لمن حمده، فإن السنة فيه الجهر، ولا يسمعون قوله:((ربنا لك الحمد)) ، لأنه يأتي به سراً، وكانوا يعلمون قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((صلوا كما رأيتموني أصلي)) مع قاعدة التأسي به - صلى الله عليه وسلم - مطلقاً، وكانوا
يوافقون في ((سمع الله لمن حمده)) فلم يحتج إلى الأمر به، ولا يعرفون ((ربنا لك الحمد)) فأمروا به، والله أعلم)) (١) انتهى.
قلت: من الواضح أن في حديث أبي هريرة السابق (( ... ثم يقول: سمع الله لمن حمده، حين يرفع صلبه من الركعة، ثم يقول وهو قائم: ربنا ولك الحمد)) ذكرين اثنين:
أحدهما: قوله: ((سمع الله لمن حمده)) في اعتداله من الركوع.
والآخر: قوله: ((ربنا ولك الحمد)) إذا استوى قائماً.
فإذا لم يقل المقتدي ذكر الاعتدال، فسيقول مكانه ذكر الاستواء، وهذا أمر مشاهد من جماهير المصلّين، فإنهم ما يكادون يسمعون منه ((سمع الله لمن حمده)) إلا سبقوه بقولهم: ((ربنا ولك الحمد)) وفي هذا مخالفة صريحة للحديث، فإن حاول أحدهم تجنّبها وقع في مخالفة أخرى، وهي إخلاء الاعتدال من الذّكر المشروع فته بغير حجّة (٢) .
(١) المجموع: (٣/٤٢٠) . (٢) تمام المنّة: (ص ١٩٠-١٩١) .
(١) انظر: (٣/ ٣٩٧) وحكاه عنه ابن حجر في ((الفتح)) : (٢/ ٢٧٠) . (٢) تمام المنة (ص١٨٦- ١٨٧) . (٣) أخرجه البخاري في ((الصحيح)) : (٢/٢٧٢) رقم (٧٨٩) . (٤) من تعليق الشيخ ابن باز على ((فتح الباري)) : (٢/ ٢٧٠) .