إهمال العالم الآداب مع طلبته في حلقته

إهمال العالم الآداب مع طلبته في حلقته

اللفظ / العبارة' إهمال العالم الآداب مع طلبته في حلقته
متعلق اللفظ مسائل فقهية
الحكم الشرعي لا يجوز
القسم المناهي العملية
المحتوى

[الأول]

أن يقصد بتعليمهم وتهذيبهم وجه الله تعالى ونشر العلم وإحياء الشرع ودوام ظهور الحق وخمول الباطل ودوام خير الأمة بكثرة علمائها واغتنام ثوابهم وتحصيل ثواب من ينتهي إليه علمه من بعضهم وبركة دعائهم له وترحمهم عليه ودخوله في سلسلة العلم بين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبينهم وعداده في جملة مبلغي وحي الله تعالى وأحكامه؛ فإن تعليم العلم من أهم أمور الدين وأعلى درجات المؤمنين.

قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن الله تعالى وملائكته وأهل السماوات والأرض حتى النملة في جحرها يصلون على معلم الناس الخير، لعمرك ما هذا إلا منصب جسيم وإن نيله لفوز عظيم نعوذ بالله من قواطعه ومكدراته وموجبات حرمانه وفواته.

[الثاني]

أن لا يمتنع من تعليم الطالب لعدم خلوص نيته، فإن حسن النية مرجو له ببركة العلم، قال بعض السلف: طلبنا العلم لغير الله، فأبى أن يكون إلا لله، قيل: معناه فكان عاقبته أن صار لله، ولأن إخلاص النية لو شرط في تعليم المبتدئين فيه مع عسره على كثير منهم لأدى ذلك إلى تفويت العلم كثيرًا من الناس لكن الشيخ يحرض المبتدى على حسن النية بتدريج قولاً وفعلاً ويعلمه بعد أنسه به أنه ببركة حسن النية ينال الرتبة العلية من العلم والعمل وفيض اللطائف وأنواع الحكم وتنوير القلب وانشراح الصدر وتوفيق العزم وإصابة الحق وحسن الحال والتسديد في المقال وعلو الدرجات يوم القيامة.

[الثالث]

أن يرغبه في العلم وطلبه في أكثر الأوقات بذكر ما أعد الله تعالى للعلماء من منازل الكرامات وأنهم ورثة الأنبياء وعلى منابر من نور يغبطهم الأنبياء والشهداء أو نحو ذلك مما ورد في فضل العلم والعلماء من الآيات والآثار والأخبار والأشعار.

ويرغبه مع ذلك بتدريج على ما يعين على تحصيله من الاقتصار على الميسور وقدر الكفاية من الدنيا والقناعة بذلك عن شغل القلب بالتعلق بها وغلبة الفكر وتفريق الهم بسببها فإن انصراف القلب عن تعلق الأطماع بالدنيا والإكثار منها والتأسف على فائتها أجمع لقلبه وأروح لبدنه وأشرف لنفسه وأعلى لمكانته وأقل لحساده وأجدر لحفظ العلم وازدياده، ولذلك قل من نال من العلم نصيبًا وافرًا إلا من كان في مبادئ تحصيله على ما ذكرت من الفقر والقناعة والإعراض عن طلب الدنيا وعرضها الفاني، وسيأتي في هذا النوع أكثر من هذا في أدب المتعلم إن شاء الله تعالى.

[الرابع]

أن يحب لطالبه ما يحب لنفسه كما جاء في الحديث، ويكره له ما يكره لنفسه، قال ابن عباس: أكرم الناس عَلَيَّ جليسي الذي يتخطى رقاب الناس إليّ لو استطعت أن لا يقع الذباب عليه لفعلت, وفي رواية: إن الذباب ليقع عليه فيؤذيني.

وينبغي أن يعتني بمصالح الطالب ويعامله بما يعامل به أعز أولاده من الحنو والشفقة عليه والإحسان إليه، والصبر على جَفَاءٍ ربما وقع منه نقص لا يكاد يخلو الإنسان عنه وسوء أدب في بعض الأحيان، ويبسط عذره بحسب الإمكان ويوقفه مع ذلك على ما صدر منه بنصح وتلطف لا بتعنيف وتعسف قاصدًا بذلك حسن تربيته وتحسين خلقه وإصلاح شأنه، فإن عرف ذلك لذكائه بالإشارة فلا حاجة إلى صريح العبارة، وإن لم يفهم ذلك إلا بصريحها أتى بها، وراعى التدريج في التلطف ويؤدبه بالآداب السنية ويحرضه على الأخلاق المرضية ويوصيه بالأمور العرفية على الأوضاع الشرعية.

[الخامس]

أن يسمح له بسهولة الإلقاء في تعليمه وحسن التلطف في تفهيمه لاسيما إذا كان أهلاً لذلك لحسن أدبه وجودة طلبه ويحرضه على طلب الفوائد وحفظ النوادر الفرائد ولا يدخر عنه من أنواع العلوم ما يسأله عنه وهو أهل له لأن ذلك ربما يوحش الصدر وينفر القلب ويورث الوحشة.

وكذلك لا يلقي إليه ما لم يتأهل له لأن ذلك يبدد ذهنه ويفرق فهمه فإن سأله الطالب شيئًا من ذلك لم يجبه، ويعرفه أن ذلك يضره ولا ينفعه، وأن منعه إياه منه لشفقة عليه ولطف به لا بخلاً عليه، ثم يرغبه عند ذلك في الاجتهاد والتحصيل ليتأهل لذلك وغيره، وقد روي في تفسير الرباني أنه الذي يربي الناس بصغار العلم قبل كباره.

[السادس]

أن يحرص على تعليمه وتفهيمه ببذل جهده وتقريب المعنى له من غير إكثار لا يحتمله ذهنه أو بسط لا يضبطه حفظه ويوضح لمتوقف الذهن العبارة ويحتسب إعادة الشرح له وتكراره.

ويبدأ بتصوير المسائل ثم يوضحها بالأمثلة وذكر الدلائل، ويقتصر على تصوير المسألة وتمثيلها لمن لم يتأهل لفهم مأخذها ودليلها، ويذكر الأدلة والمأخذ لمحتملها، ويبين له معاني أسرار حكمها وعللها وما يتعلق بتلك المسألة من فرع وأصل ومن وهم فيها في حكم أو تخريج أو نقل بعبارة حسنة الأداء بعيدة عن تنقيص أحد من العلماء، ويقصد ببيان ذلك الوهم طريق النصيحة وتعريف النقول الصحيحة، ويذكر ما يشابه تلك المسألة ويناسبها وما يفارقها ويقاربها ويبين مأخذ الحكمين والفرق بين المسألتين.

ولا يمتنع من ذكر لفظة يستحي من ذكرها عادة إذا احتيج إليها ولم يتم التوضيح إلا بذكرها، فإن كانت الكناية تفيد معناها وتحصل منتهاها تحصيلاً بينًا لم يصرح بذكرها بل يكتفي بالكناية عنها، وكذلك إذا كان في المجلس من لا يليق ذكرها بحضوره لحيائه أو لجفائه فيكنى عن تلك اللفظة بغيرها، ولهذه المعاني واختلاف الحال والله تعالى أعلم. ورد في حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - التصريح تارة والكناية أخرى.

[السابع]

إذا فرغ الشيخ من شرح درس فلا بأس بطرح مسائل تتعلق به على الطلبة يمتحن بها فهمهم وضبطهم لما شرح لهم، فمن ظهر استحكام فهمه له بتكرار الإصابة في جوابه شكره، ومن لم يفهمه تلطف في إعادته له، والمعنى بطرح المسائل أن الطالب ربما استحيا من قوله لم أفهم إما لرفع كل الإعادة على الشيخ أو لضيق الوقت أو حياء من الحاضرين أو كيلا تتأخر قراءتهم بسببه.

ولذلك قيل: لا ينبغي للشيخ أن يقول للطالب هل فهمت إلا إذا أمن من قوله نعم قبل أن يفهم، فإن لم يأمن من كذبه لحياء أو غيره فلا يسأله عن فهمه لأنه ربما وقع في الكذب بقوله نعم لما قدمناه من الأسباب، بل يطرح عليه مسائل كما ذكرناه، فإن سأله الشيخ عن فهمه فقال نعم فلا يطرح عليه المسائل بعد ذلك إلا أن يستدعي الطالب ذلك لاحتمال خجله بظهور خلاف ما أجاب به.

وينبغي للشيخ أن يأمر الطلبة بالمرافقة في الدروس كما سيأتي إن شاء الله تعالى، وبإعادة الشرح بعد فراغه فيما بينهم ليثبت في أذهانهم ويرسخ في أفهامهم ولأنه يحثهم على استعمال الفكر ومؤاخذة النفس بطلب التحقيق.

[الثامن]

أن يطالب الطلبة في بعض الأوقات بإعادة المحفوظات ويمتحن ضبطهم لما قدم لهم من القواعد المهمة والمسائل الغريبة ويختبرهم بمسائل تبنى على أصل قرره أو دليل ذكره.

فمن رآه مصيبًا في الجواب ولم يخف عليه شدة الإعجاب شكره وأثنى عليه بين أصحابه ليبعثه وإياهم على الاجتهاد في طلب الازدياد، ومن رآه مقصرًا ولم يخف نفوره عنفه على قصوره وحرضه على علو الهمة ونيل المنزلة في طلب العلم لاسيما إن كان ممن يزيده التعنيف نشاطًا والشكر انبساطًا ويعيد ما يقتضي الحال إعادته ليفهمه الطالب فهمًا راسخًا.

[التاسع]

إذا سلك الطالب في التحصيل فوق ما يقتضيه حاله أو تحمله طاقته وخاف الشيخ ضجره أوصاه بالرفق بنفسه وذَكَّرَهُ بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - أن المنبت لا أرضًا قطع ولا ظهرًا أبقى، ونحو ذلك مما يحمله على الأناة والاقتصاد في الاجتهاد، وكذلك إذا ظهر له منه نوع سآمة أو ضجر ومبادى ذلك أمره بالراحة، وتخفيف الاشتغال، ولا يشير على الطالب بتعليم ما لا يحتمله فهمه أو سنه ولا بكتاب يقصر ذهنه عن فهمه.

فإن استشار الشَّيْخَ مَنْ لا يعرف حاله في الفهم والحفظ في قراءة فن أو كتاب لم يشر عليه بشيء حتى يجرب ذهنه ويعلم حاله، فإن لم يحتمل الحال التأخير أشار عليه بكتاب سهل من الفن المطلوب، فإن رأى ذهنه قابلاً وفهمه جيدًا نقله إلى كتاب يليق بذهنه وإلا تركه، وذلك لأن نقل الطالب إلى ما يدل نقله إليه على جودة ذهنه يزيد انبساطه، وإلى ما يدل على قصوره يقلل نشاطه.

ولا يمكن الطالب من الاشتغال في فنين أو أكثر إذا لم يضبطها بل يقدم الأهم فالأهم كما سنذكر إن شاء الله تعالى.

وإذا علم أو غلب على ظنه أنه لا يفلح في فن أشار عليه بتركه والانتقال إلى غيره مما يرجى فيه فلاحه.

[العاشر]

أن يذكر للطلبة قواعد الفن التي لا تنخرم إما مطلقًا كتقديم المباشرة على السبب في الضمان، أو غالبًا كاليمين على المدعى عليه إذا لم تكن بينة إلا في القسامة، والمسائل المستثناة من القواعد كقوله العمل بالجديد من كل قولين قديم وجديد إلا في أربع عشرة مسألة، ويذكرها وكل يمين على نفي فعل للغير فهي على نفي العلم إلا من ادعى عليه أن عبده جني فيحلف على البت على الأصح، وكل عبادة يخرج منها بفعل منها فيها ومبطلها إلا الحج والعمرة، وكل وضوء يجب فيه الترتيب إلا وضوءًا تحمله غسل الجنابة وأشباه ذلك.

ويبين مأخذ ذلك كله وكذلك كل أصل وما يبنى عليه من كل فن يحتاج إليه من علمي التفسير والحديث وأبواب أصول الدين والفقه والنحو والتصريف واللغة ونحو ذلك إما بقراءة كتاب في الفن أو بتدريج على الطول.

وهذا كله إذا كان الشيخ عارفًا بتلك الفنون وإلا فلا يتعرض لها بل يقتصر على ما يتقنه منها، ومن ذلك نوادر ما يقع من المسائل الغريبة والفتاوى العجيبة والمعاني (القحتة) ونوادر الفروق والمعاياة.

ومن ذلك ما لا يسع الفاضل جهله كأسماء المشهورين من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من أئمة المسلمين وكبار الزهاد والصالحين كالخلفاء الأربعة وبقية العشرة المبشرة، والنقباء الاثنى عشر والبدريين والمكثرين، والعبادلة، والفقهاء السبعة، والأئمة الأربعة فيضبط أسماءهم وكناهم وأعمارهم ووفياتهم وما يستفاد من محاسن آدابهم ونوادر أحوالهم فيحصل له مع الطول فوائد كثيرة النفع ونفائس عزيزة الجمع.

وليحذر كل الحذر من مناقشة بعضهم لكثرة تحصيله أو زيادة فضائله لأن ثواب فضائلهم عائد إليهم، وحسن ترتيبهم محسوب عليه. وله من جهتهم في الدنيا الدعاء والثناء والذكر الجميل، وفي الآخرة الثواب الجزيل.

[الحادي عشر]

أن لا يظهر للطلبة تفضيل بعضهم على بعض عنده في مودة أو اعتناء مع تساويهم في الصفات من سن أو فضيلة أو تحصيل أو ديانة فإن ذلك ربما يوحش منه الصدر وينفر القلب، فإن كان بعضهم أكثر تحصيلاً وأشد اجتهدًا أو أبلغ اجتهادًا أو أحسن أدبًا فأظهر إكرامه وتفضيله وبين أن زيادة إكرامه لتلك الأسباب فلا بأس بذلك؛ لأنه ينشط ويبعث على الاتصاف بتلك الصفات.

وكذلك لا يقدم أحدًا في نوبة غيره أو يؤخره عن نوبته إلا إذا رأى في ذلك مصلحة تزيد على مصلحة مراعاة النوبة، فإن سمح بعضهم لغيره في نوبته فلا بأس، وسنذكر ذلك مفصلاً إن شاء الله تعالى.

وينبغي أن يتودد لحاضرهم ويذكر غائبهم بخير وحسن ثناء وينبغي أن يستعلم أسماءهم وأنسابهم ومواطنهم وأحوالهم ويكثر الدعاء لهم بالصلاح.

[الثاني عشر]

أن يراقب أحوال الطلبة في آدابهم وهديهم وأخلاقهم باطنًا وظاهرًا، فمن صدر منه من ذلك ما لا يليق من ارتكاب محرم أو مكروه أو ما يؤدي إلى فساد حال أو ترك اشتغال أو إساءة أدب في حق الشيخ أو غيره أو كثرة كلام بغير توجيه ولا فائدة أو حرص على كثرة الكلام أو معاشرة من لا تليق عشرته أو غير ذلك مما سيأتي ذكره إن شاء الله تعالى في آداب المتعلم، عَرَّضَ الشيخ بالنهي عن ذلك بحضور مَنْ صدر منه غير مُعَرِّضٍ به ولا معين له، فإن لم ينته نهاه عن ذلك سرًا، ويكتفي بالإشارة مع من يكتفي بها، فإن لم ينته نهاه عن ذلك جهرًا ويغلظ القول عليه إن اقتضاه الحال لينزجر هو وغيره ويتأدب به كل سامع، فإن لم ينته فلا بأس حينئذ بطرده والإعراض عنه إلى أن يرجع، ولاسيما إذا خاف على بعض رفقائه وأصحابه من الطلبة موافقته.

وكذلك يتعاهد ما يعامل به بعضهم بعضًا من إفشاء السلام وحسن التخاطب في الكلام والتحابب والتعاون على البر والتقوى وعلى ما هم بصدده، وبالجملة فكما يعلمهم مصالح دينهم لمعاملة الله تعالى يعلمهم مصالح دنياهم لمعاملة الناس لتكمل لهم فضيلة الحالتين.

[الثالث عشر]

أن يسعى في مصالح الطلبة وجمع قلوبهم ومساعدتهم بما تيسر عليه من جاه ومال عند قدرته على ذلك وسلامة دينه وعدم ضرورته فإن الله تعالى في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه، ومن كان في حاجة أخيه كان الله تعالى في حاجته، ومن يسر على معسر يسر الله عليه حسابه يوم القيامة ولاسيما إذا كان ذلك إعانة على طلب العلم الذي هو من أفضل القربات.

وإذا غاب بعض الطلبة أو ملازمي الحلقة زائدًا عن العادة سأل عنه وعن أحواله وعن من يتعلق به، فإن لم يخبر عنه بشيء أرسل إليه أو قصد منزله بنفسه وهو أفضل.

فإن كان مريضًا عاده وإن كان في غم خفض عليه، وإن كان مسافرًا تفقد أهله ومن يتعلق به وسأل عنهم وتعرض لحوائجهم ووصلهم بما أمكن، وإن كان فيما يحتاج إليه فيه أعانه، وإن لم يكن شيء من ذلك تودد عليه ودعا له.

واعلم أن الطالب الصالح أعود على العالم بخير الدنيا والآخرة من أعز الناس عليه وأقرب أهله إليه.

ولذلك كان علماء السلف الناصحون لله ودينه يلقون شبك الاجتهاد لصيد طالب ينتفع الناس به في حياتهم ومن بعدهم، ولو لم يكن للعالم إلا طالب واحد ينتفع الناس بعلمه وعمله وهديه وإرشاده لكفاه ذلك الطالب عند الله تعالى، فإنه لا يتصل شيء من علمه إلى أحد فينتفع به إلا كان له نصيب من الأجر كما جاء في الحديث الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا مات العبد انقطع عمله إلا من ثلاثة؛ صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له.

وأنا أقول: إذا نظرت وجدت معاني الثلاثة موجودة في معلم العلم؛ أما الصدقة فاقراؤه إياه العلم وإفادته إياه، ألا ترى إلى قوله - صلى الله عليه وسلم - في المصلي وحده: من يتصدق على هذا، أي بالصلاة معه لتحصل له فضيلة الجماعة، ومعلم العلم يحصل للطالب فضيلة العلم التي هي أفضل من صلاة في جماعة وينال بها شرف الدنيا والآخرة، وأما العلم المنتفع به فظاهر لأنه كان سببًا لإيصال ذلك العلم إلى كل من انتفع به.

وأما الدعاء الصالح له فالمعتاد المستقرأ على السنة أهل العلم والحديث قاطبة من الدعاء لمشايخهم وأئمتهم وبعض أهل العلم يدعون لكل من يذكر عنه شيء من العلم وربما يقرأ بعضهم الحديث بسنده فيدعو لجميع رجال السند فسبحان من اختص من شاء من عباده بما شاء من جزيل عطائه.

[الرابع عشر]

أن يتواضع مع الطالب وكل مسترشد سائل إذا قام بما يجب عليه من حقوق الله تعالى وحقوقه، ويخفض له جناحه ويلين له جانبه، قال الله تعالى لنبيه: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الشعراء: ٢١٥]، وصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الله تعالى أوحى إليَّ أن تواضعوا وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله، وهذا لمطلق الناس فكيف بمن له حق الصحبة وحرمة التردد وصدق التودد وشرف الطلب، وفي الحديث: لينوا لمن تعلمون ولمن تتعلمون منه، وعن الفضيل: من تواضع لله ورثه الله الحكمة.

وينبغي أن يخاطب كلاً منهم لاسيما الفاضل المتميز بكنية ونحوها من أحب الأسماء إليه وما فيه تعظيم له وتوقير، فعن عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكني أصحابه إكرامًا لهم. وكذلك ينبغي أن يترحب بالطلبة إذا لقيهم وعند إقبالهم عليه ويكرمهم إذا جلسوا إليه ويؤنسهم بسؤاله عن أحوالهم وأحوال من يتعلق بهم بعد رد سلامهم، وليعاملهم بطلاقة الوجه وظهور البشر وحسن المودة وإعلام المحبة وإضمار الشفقة؛ لأن ذلك أشرح لصدره وأطلق لوجهه وأبسط لسؤاله، ويزيد في ذلك لمن يرجى فلاحه ويظهر صلاحه، وبالجملة فهم وصية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه أبو سعيد الخدري رضي الله عنه، عنه - صلى الله عليه وسلم - قال: إن الناس لكم تبع وإن رجالاً يأتونكم من أقطار الأرض يتفقهون على الدين فإذا أتوكم فاستوصوا بهم خيرًا.

وكان البويطي يدني القُرَّاء ويقربهم إذا طلبوا العلم ويعرفهم فضل الشافعي رضي الله عنه وفضل كتبه ويقول: كان الشافعي يأمر بذلك ويقول: اصبر للغرباء وغيرهم من التلاميذ.

وقيل: كان أبو حنيفة أكرم الناس مجالسة وأشدهم إكرامًا لأصحابه.

تذكرة السامع والمتكلم ،ص:46إلى 67.



Loading...