ففي ((الصحيح)) عن أنس قال: قنت رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - شهراً يدعو على حيّ من أحياء العرب، ثم تركه (١) .
الثاني: أن أنساً أخبر أنهم لم يكونوا يقنتون، وأن بدء القنوت هو قنوتُ النبي - صلى الله عليه وسلم - يدعو على رِعل وذَكوان.
ففي ((الصحيحين)) من حديث عبد العزيز بن صهيب عن أنس قال:
بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سبعين رجلاً لحاجة، يقال لهم القُرَّاء، فعرض لهم حيَّانِ من بني سليم ورِعل وذَكوان عند بئر يقال له: بئر معونة، فقال القوم: والله ما إيّاكم أردنا، وإنما نحن مجتازون في حاجة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقتلوهم، فدعا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - شهراً في صلاة الغداة، فذلك بدءُ القنوت، وما كنا نقنتُ (٢) .
فهذا يدلّ على أنه لم يكن من هديه - صلى الله عليه وسلم - القنوت دائماً، وقول أنس: فذلك بدء القنوت، مع قوله: قنت شهراً ثم تركه، دليل على أنه أراد بما أثبته من القنوت قنوتَ النوازل، وهو الذي وقّته بشهر، وهذا كما قنت في صلاة العتمة شهراً، كما في حديث أبي هريرة: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قنت في صلاة العتمة شهراً يقول في قنوته: اللهم أَنْجِ الوليد بن الوليد، اللهم أَنْجِ سلمة بن هشام، اللهم أَنْجِ عيّاش بن أبي ربيعة، اللهم أَنْجِ المستضعفين من المؤمنين، اللهم اشدد وطْأَتَكَ
على مُضَرَ، اللهم اجعلها عليهم سنين كَسِني يوسف.
قال أبو هريرة: وأصبح ذات يوم فلم يدعُ لهم، فذكرتُ ذلك له، فقال:
(١) أخرجه مسلم في ((الصحيح)) : (١/ ٤٦٩) رقم (٣٠٤) وأحمد في ((المسند)) : (٣/ ١٩١) والطيالسي في ((المسند)) رقم (١٩٨٩) وأبو داود في ((السنن)) رقم (١٤٤٥) والنسائي في ((المجتبى)) : (٢/ ٢٠٣) والطحاوي في ((شرح معاني الآثار)) : (١/٢٤٥) . (٢) أخرجه البخاري في ((الصحيح)) : (٢/ ٤٨٩) رقم (١٠٠٢) ومسلم في ((الصحيح)) : (١/ ٤٦٨) رقم (٢٩٧) .
أو ما تراهم قد قَدِموا (١) .
فقنوته في الفجر كان هكذا، لأجل أمر عارض ونازلة، ولذلك وقتّه أنس بشهر.
وقد ثبت عن أبي هريرة أنه قنت لهم أيضاً في الفجر شهراً (٢) .
والحاصل في المسألة: أنه لما صار القنوتُ في لسان الفقهاء، وأكثر الناس، هو هذا الدّعاء المعروف:: اللهم اهدني فيمن هديت ... إلى آخره، وسمعوا أنه لم يزل يقنُت في الفجر حتى فارق الدنيا، وكذلك الخلفاء الراشدون وغيرهم من الصّحابة، حملوا القنوت في لفظ الصحابة على القنوت في اصطلاحهم، ونشأ مَنْ لا يعرف غير ذلك، فلم يشك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، كانوا مداومين عليه كلّ غداة، وهذا هو الذي نازعهم فيه جمهورُ العلماء، وقالوا: لم يكن هذا من فعله الراتب، بل ولا يثبت عنه أنه فعله (٣) .
والعجب ترك الأحاديث الصحيحةِ الصريحة بقنوت النّوازل، والعمل بالحديث الذي لم يثبت في القنوت الراتب (٤)
(١) أخرجه البخاري في ((الصحيح)) : (٢/ ٣٩٠) رقم (٨٠٤) ومسلم في ((الصحيح)) : (١/ ٤٦٧) رقم (٢٩٤) . (٢) أخرجه أحمد في ((المسند)) : (٢/٢٥٥) والنسائي في ((المجتبى)) : (٢/ ٢٠١) وابن ماجه في ((السنن)) : (١/٣٩٤) رقم (١٢٤٤) والطحاوي في ((شرح معاني الآثار)) : (١/٢٤١) والبيهقي في ((السنن الكبرى)) : (٢/ ١٩٧) . (٣) ما مضى من ((زاد المعاد)) : (١/ ٢٧٥، ٢٧٦، ٢٧٧، ٢٧٨، ٢٧٩، ٢٨٠، ٢٨٢، ٢٨٣) بتصرّف. (٤) جاء في ترجمة ((أبي الحسن الكرجي الشافعي)) المتوفى سنة (٥٣٢ هـ) أنه كان لا يقنت في الفجر، ويقول: ((لم يصح في ذلك حديث)) وهذا مما يدل على علمه وإنصافه رحمه الله، وأنه مما عافاهم الله عزَّ وجلَّ ـ من آفة التعصّب المذهبي. =
= وجاء في ترجمة ((عبد الله محمد بن الفضل بن نظيف الفرّاء)) في ((السير)) : (١٧/ ٤٧٧) أنه كان يصلّي بالناس في مسجد عبد الله سبعين سنة، وكان شافعياً يقنُتُ، فأمّ بعده رجلٌ مالكي، وجاء الناس على عادتهم، فلم يقنُت، فتركوه وانصرفوا، وقالوا لا يُحسنُ يصلّي!!
[٦/٢٠](( (وقد ترك الناس القنوت في النوازل التي تنزل بالمسلمين، وما أكثرها في هذه العصور، في شؤون دينهم ودنياهم، حتى صاروا من تفرّقهم، وإعراضهم عن التعاون، حتى بالدّعاء في الصّلوات، صاروا كالغرباء في بلادهم، وصارت الكلمة فيها لغيرهم.
والقنوت في النوازل بالدعاء للمسلمين، والدعاء على أعدائهم ثابت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الصلوات كلها، بعد قوله: ((سمع الله لمن حمده)) في الركعة الآخرة)) (١) كما قدمنا في حديث أنس وأبي هريرة رضي الله عنهما.
قال الأثرم: سمعت أبا عبد الله يقول لما سئل عن القنوت في الفجر، فقال: إذا نزل بالمسلمين أمر، قنت الإِمام وأمَّن مَنْ خلفه، ثم قال: مثل ما نزل بالناس من هذا الكافر، يعني بابك (٢) .
وقال إسحاق الحربي: سمعتُ أبا ثور يقول لأبي عبد الله أحمد بن حنبل: ما تقول في القنوت في الفجر؟ فقال أبو عبد الله: إنما يكون القنوت في النّوازل. فقال له أبو ثور: وأي نوازل أكثر من هذه النّوازل التي نحن فيها؟ قال: فإذا كان كذلك، فالقنوت (٣) .
وقال عبد الله ابن الإِمام أحمد: قلت لأبي: يقنت في الغداة على ما قنت النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: دعا على المشركين، واستنصر للمسلمين؟
(١) ما بين الهلالين من تعليق الشيخ أحمد شاكر على ((جامع الترمذي)) : (٢/ ٢٥٢) . (٢) الصلاة وحكم تاركها: (ص ٢١٦) وبابك هو بابك الخرمي، وإليه تنسب البابكية، إحدى الفرق المرتدة عن الإسلام. (٣) الصلاة وحكم تاركها: (ص ٢١٦) .قال ابن الهمام:يجب أن يكون بقاء القنوت في النّوازل مجتهداً فيه، لأنه لم ينقل عنه من قوله - صلى الله عليه وسلم - إلا قنوت في نازلة بعد هذه، بل مجرد العدم بعدها، فيتجه الاجتهاد أن ذلك إنما هو لعدم وقوع نازلة بعده يستدعي القنوت، فتكون شرعيته مستمرة، وهو محمل قنوت مَنْ قنت بعد وفاته - صلى الله عليه وسلم -(٢).
فقد ثبت أن أبا بكر قنت عند محاربة مسيلمة. وكذلك قنت عمر وعليّ ومعاوية للنوازل.
وقال النووي:((واعلم أن المنقول عن عمر – رضي الله عنه -: ((عذّب كفرة أهل الكتاب)) ، لأن قتالهم ذلك الزمان مع كفرة أهل الكتاب، وأما اليوم فالاختيار أن يقول:((عذّب الكفرة)) فإنه أعمّ))