[فَصَلِّ حُكْمُ اللَّعْنِ، وَلَعْنِ الْمُعَيَّنِ]
حُكْمُ اللَّعْنِ، وَلَعْنِ الْمُعَيَّنِ) وَيَجُوزُ لَعْنُ الْكُفَّارِ عَامًّا، وَهَلْ يَجُوزُ لَعْنُ كَافِرٍ مُعَيَّنٍ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: وَلَعْنُ تَارِكِ الصَّلَاةِ عَلَى وَجْهِ الْعُمُومِ جَائِزٌ، وَأَمَّا لَعْنُهُ الْمُعَيَّنَ، فَالْأَوْلَى تَرْكُهَا؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَتُوبَ.
وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: قِيلَ: لِأَحْمَدَ ابْنِ حَنْبَلٍ أَيُؤْخَذُ الْحَدِيثُ عَنْ يَزِيدَ فَقَالَ: لَا وَلَا كَرَامَةَ أَوَ لَيْسَ هُوَ فَعَلَ بِأَهْلِ الْمَدِينَةِ مَا فَعَلَ؟ وَقِيلَ لَهُ: إنَّ أَقْوَامًا يَقُولُونَ: إنَّا نُحِبُّ يَزِيدَ فَقَالَ: وَهَلْ يُحِبُّ يَزِيدَ مَنْ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ؟ فَقِيلَ لَهُ: أَوَ لَا تَلْعَنُهُ؟ فَقَالَ: مَتَى رَأَيْتَ أَبَاك يَلْعَنُ أَحَدًا.
وَقَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ أَيْضًا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ فِي لَعْنِ الْمُعَيَّنِ مِنْ الْكُفَّارِ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ وَغَيْرِهِمْ، وَمِنْ الْفُسَّاقِ بِالِاعْتِقَادِ، أَوْ بِالْعَمَلِ: لِأَصْحَابِنَا فِيهَا أَقْوَالٌ (أَحَدُهَا:) أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بِحَالٍ، وَهُوَ قَوْلَيْ أَبِي بَكْرٍ وَعَبْدِ الْعَزِيزِ (وَالثَّانِي) يَجُوزُ فِي الْكَافِرِ دُون الْفَاسِقِ (وَالثَّالِثُ) يَجُوزُ مُطْلَقًا قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: فِي لَعْنَةِ يَزِيدَ أَجَازَهَا الْعُلَمَاءُ الْوَرِعُونَ مِنْهُمْ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَأَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَيْهِ الشَّيْخُ عَبْدُ الْمُغِيثِ الْحَرْبِيِّ، وَأَكْثَرُ أَصْحَابِنَا، لَكِنْ مِنْهُمْ مَنْ بَنَى الْأَمْرَ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ فِسْقُهُ، وَكَلَامُ عَبْدِ الْمُغِيثِ يَقْتَضِي ذَلِكَ، وَفِيهِ نَوْعُ انْتِصَارٍ ضَعِيفٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ بَنَى الْأَمْرَ عَلَى أَنْ لَا يُلْعَنَ الْفَاسِقَ الْمُعَيَّنَ، وَشَنَّعَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ اسْتِجَازَةَ ذَمِّ الْمَذْمُومِ، وَلَعْنَ الْمَلْعُونِ كَيَزِيدَ.
قَالَ: وَقَدْ ذَكَرَ أَحْمَدُ فِي حَقِّ يَزِيدَ مَا يَزِيدُ عَلَى اللَّعْنَةِ، وَذَكَرَ رِوَايَةَ مُهَنَّا سَأَلْتُ أَحْمَدَ عَنْ يَزِيدَ، فَقَالَ: هُوَ الَّذِي فَعَلَ بِأَهْلِ الْمَدِينَةِ مَا فَعَلَ. قُلْتُ: فَيُذْكَرُ عَنْهُ الْحَدِيثُ؟ قَالَ: لَا يُذْكَرُ عَنْهُ الْحَدِيثُ لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَكْتُبَ عَنْهُ حَدِيثًا. قُلْتُ:
وَمَنْ كَانَ مَعَهُ حِينَ فَعَلَ؟ فَقَالَ: أَهْلُ الشَّامِ، قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: هَذَا أَكْثَرُ مَا يَدُلّ عَلَى الْفِسْقِ لَا عَلَى لَعْنَةِ الْمُعَيَّنِ.
وَذَكَرَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: مَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي فِي الْمُعْتَمَدِ مِنْ رِوَايَةِ صَالِحٍ وَمَا لِي لَا أَلْعَنُ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي كِتَابِهِ. إِن صَحَّتْ الرِّوَايَةُ قَالَ: وَقَدْ صَنَّفَ الْقَاضِي أَبُو الْحُسَيْنِ كِتَابًا فِي بَيَانِ مَنْ يَسْتَحِقُّ اللَّعْنَ، وَذَكَرَ فِيهِمْ يَزِيدَ قَالَ: وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ لَعْنُ مَنْ فَعَلَ مَا لَا يُقَارِبُ مِعْشَارَ عُشْرِ مَا فَعَلَ يَزِيدُ، وَذَكَرَ الْفِعْلَ الْعَامَّ كَلَعْنِ الْوَامِصَةِ وَأَمْثَالِهِ، وَذَكَرَ رِوَايَةَ أَبِي طَالِبٍ سَأَلْتُ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ عَمَّنْ قَالَ: لَعَنَ اللَّهُ يَزِيدَ بْنَ مُعَاوِيَةَ. فَقَالَ: لَا تَكَلَّمْ فِي هَذَا، الْإِمْسَاكُ أَحَبُّ إلَيَّ.
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: هَذِهِ الرِّوَايَةُ تَدُلُّ عَلَى اشْتِغَالِ الْإِنْسَانِ بِنَفْسِهِ عَنْ لَعْنِ غَيْرِهِ. وَالْأَوْلَى عَلَى جَوَازِ اللَّعْنَةِ كَمَا قُلْنَا فِي تَقْدِيمِ التَّسْبِيحِ عَلَى لَعْنَةِ إبْلِيسَ، وَسَلَّمَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ أَنَّ تَرْكَ اللَّعْنِ أَوْلَى، وَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ اُدْعُ اللَّهَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ قَالَ: «إنِّي لَمْ أُبْعَثُ لَعَّانًا، وَإِنَّمَا بُعِثْتُ رَحْمَةً» قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَقَدْ لَعَنَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ مَنْ يَسْتَحِقُّ اللَّعْنَ. فَقَالَ فِي رِوَايَةِ مُسَدَّدٍ: قَالَتْ الْوَاقِفِيَّةُ الْمَلْعُونَةُ، وَالْمُعْتَزِلَةُ الْمَلْعُونَةُ.
وَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ الْحَنْبَلِيِّ: سَمِعْتُ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ يَقُولُ عَلَى الْجَهْمِيَّةِ: لَعْنَةُ اللَّهِ، وَكَانَ الْحَسَنُ يَلْعَنُ الْحَجَّاجَ، وَأَحْمَدُ يَقُولُ: الْحَجَّاجُ رَجُلُ سُوءٍ.
قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: لَيْسَ فِي هَذَا عَنْ أَحْمَدَ لَعْنَةُ مُعَيَّنٍ، لَكِنَّ قَوْلَ الْحَسَنِ نَعَمْ.
وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ قَالَ الْفُقَهَاءُ: لَا تَجُوزُ وِلَايَةُ الْمَفْضُولِ عَلَى الْفَاضِلِ إلَّا أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ مَانِعٌ إمَّا خَوْفُ فِتْنَةٍ، أَوْ يَكُونَ الْفَاضِلُ غَيْرَ عَالَمٍ بِالسِّيَاسَةِ لِحَدِيثِ عُمَرَ فِي السَّقِيفَةِ، وَحَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ فِي تَوْلِيَةِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَأَجَابَ مَنْ قَالَ: كَانَ خَارِجِيًّا بِأَنَّ الْخَارِجِيَّ مَنْ خَرَجَ عَلَى مُسْتَحِقٍّ، وَإِنَّمَا خَرَجَ الْحُسَيْنُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لِدَفْعِ الْبَاطِلِ وَإِقَامَةِ الْحَقِّ.
وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: نَقَلْتُ مِنْ خَطِّ ابْنِ عَقِيلٍ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: كَانَ الْحُسَيْنُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - خَارِجِيًّا، فَبَلَغَ ذَلِكَ مِنْ قَلْبِي، فَقُلْتُ: لَوْ عَاشَ إبْرَاهِيمُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - صَلُحَ أَنْ يَكُونَ نَبِيًّا، فَهَبْ أَنَّ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ نَزَلَا عَنْ رُتْبَةِ إبْرَاهِيمَ مَعَ كَوْنِهِ سَمَّاهُمَا ابْنَيْهِ، أَوَ لَا يُصِيبُ وَلَدُ وَلَدِهِ أَنْ يَكُونَ إمَامًا بَعْدَهُ؟ فَأَمَّا تَسْمِيَتُهُ خَارِجِيًّا وَإِخْرَاجُهُ عَنْ الْإِمَامَةِ لِأَجْلِ صَوْلَةِ بَنِي أُمَيَّةَ هَذَا مَا لَا يَقْتَضِيه عَقْلٌ وَلَا دِينٌ، قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: وَمَتَى حَدَّثَتْكَ نَفْسُكَ وَفَاءَ النَّاسِ فَلَا تُصَدِّقْ، هَذَا ابْنُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَكْثَرُ النَّاسِ حُقُوقًا عَلَى الْخَلْقِ إلَى أَنْ قَالَ: {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى: ٢٣] .
فَقَتَلُوا أَصْحَابَهُ وَأَهْلَكُوا أَوْلَادَهُ، وَقَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: فَقَدْ جَوَّزَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ الْخُرُوجَ عَلَى غَيْرِ الْعَادِلِ، وَفَسَّرَ ابْنُ عَقِيلٍ الْآيَةَ بِالتَّفْسِيرِ الْمَرْجُوحِ.
وَفِي الْبُخَارِيِّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إنَّ أَوَّلَ جَيْشٍ يَغْزُو الْقُسْطَنْطِينِيَّة مَغْفُورٌ لَهُمْ» وَأَوَّلُ جَيْشٍ غَزَاهَا كَانَ أَمِيرُهُمْ يَزِيدُ فِي خِلَافَةِ أَبِيهِ مُعَاوِيَةَ، وَكَانَ فِي الْجَيْشِ أَبُو أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ، قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: وَالْجَيْشُ عَدَدٌ مُعَيَّنٌ لَا مُطْلَقٌ، وَشُمُولُ الْمَغْفِرَةِ لِآحَادِ هَذَا الْجَيْشِ أَقْوَى مِنْ شُمُولِ اللَّعْنَةِ لِكُلِّ وَاحِدٍ وَاحِدٍ مِنْ الظَّالِمِينَ، فَإِنَّ هَذَا حَصْرٌ، وَالْجَيْشُ مُعَيَّنُونَ وَيُقَالُ: إنَّ يَزِيدَ إنَّمَا غَزَا الْقُسْطَنْطِينِيَّة لِأَجْلِ هَذَا الْحَدِيثِ.
وَقَالَ الْقَاضِي فِي الْمُعْتَمَدِ: مَنْ حَكَمْنَا بِكُفْرِهِمْ مِنْ الْمُتَأَوِّلِينَ وَغَيْرِهِمْ، فَجَائِزٌ لَعْنَتُهُمْ نَصَّ عَلَيْهِ، وَذَكَرَ أَنَّهُ قَالَ فِي اللَّفْظِيَّةِ عَلَى مَنْ جَاءَ بِهَذَا: لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ، غَضَبُ اللَّهِ، وَذَكَرَ أَنَّهُ قَالَ عَنْ قَوْمٍ مُعَيَّنِينَ: هَتَكَ اللَّهُ الْخَبِيثَ، وَعَنْ قَوْمٍ: أَخْزَاهُ اللَّهُ.
وَقَالَ فِي آخَرَ: مَلَأَ اللَّهُ قَبْرَهُ نَارًا. قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: لَمْ أَرَهُ نَقَلَ لَعْنَةً مُعَيَّنَةً إلَّا لَعْنَةَ نَوْعٍ، أَوْ دُعَاءٍ عَلَى مُعَيَّنٍ بِالْعَذَابِ، أَوْ سَبًّا لَهُ لَكِنْ قَالَ الْقَاضِي: لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الْمُطْلَقِ، وَالْمُعَيَّنِ، وَكَذَلِكَ جَدُّنَا أَبُو الْبَرَكَاتِ. قَالَ الْقَاضِي: فَأَمَّا فُسَّاقُ أَهْلِ الْمِلَّةِ بِالْأَفْعَالِ كَالزِّنَا، وَالسَّرِقَةِ، وَشُرْبِ الْخَمْرِ، وَقَتْلِ النَّفْسِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَهَلْ يَجُوزُ لَعْنُهُمْ أَمْ لَا؟ فَقَدْ تَوَقَّفَ أَحْمَدُ عَنْ ذَلِكَ فِي رِوَايَةِ صَالِحٍ قُلْت لِأَبِي: الرَّجُلُ يُذْكَرُ عِنْدَهُ الْحَجَّاجُ أَوْ غَيْرُهُ يَلْعَنُهُ؟ فَقَالَ: لَا يُعْجِبُنِي لَوْ عَمَّ فَقَالَ: أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ.
الآداب الشرعية ،ج:1،ص:269إلى 272.