[فَصْلٌ فِي الْإِنْكَارِ بِدَاعِي الرِّيبَةِ وَظَنِّ الْمُنْكَرِ وَالتَّجَسُّسِ لِذَلِكَ]
فِي الْإِنْكَارِ بِدَاعِي الرِّيبَةِ وَظَنِّ الْمُنْكَرِ وَالتَّجَسُّسِ لِذَلِكَ)
نَصَّ أَحْمَدُ فِيمَنْ رَأْيَ إنَاءً يَرَى أَنَّ فِيهِ مُسْكِرًا أَنَّهُ يَدَعُهُ يَعْنِي لَا يُفَتِّشُهُ، تَرْجَمَ عَلَيْهِ الْخَلَّالُ (مَا يُكْرَهُ أَنْ يُفَتَّشَ إذَا اسْتَرَابَ بِهِ) وَقَطَعَ الْقَاضِي فِي الْمُعْتَمَدِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إنْكَارُ الْمُنْكَرِ إذَا ظُنَّ وُقُوعُهُ، وَحُكِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ يَجِبُ، وَاخْتَارَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَغَيْرُهُ مِنْ الْأَئِمَّةِ أَنَّ الْمَيِّتَ إذَا نِيحَ عَلَيْهِ يُعَذَّبُ إذَا لَمْ يُوصِ بِتَرْكِهِ، وَكَانَ مِنْ عَادَةِ أَهْلِهِ النَّوْحُ، وَهَذَا مَعْنَى اخْتِيَارِ الشَّيْخِ فَخْرِ الدِّينِ فِي التَّلْخِيصِ قَالَ الشَّيْخُ مَجْدُ الدِّينِ فِي شَرْحِ الْهِدَايَةِ: وَهُوَ أَصَحُّ الْأَقْوَالِ؛ لِأَنَّهُ مَتَى غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ فِعْلُهُمْ لَهُ وَلَمْ يُوصِ بِتَرْكِهِ مَعَ الْقُدْرَةِ فَقَدْ رَضِيَ بِهِ فَصَارَ كَتَارِكِ النَّهْيِ عَلَى الْمُنْكَرِ مَعَ الْقُدْرَةِ فَقَدْ جَعَلَ ظَنَّ وُقُوعِ الْمُنْكَرِ بِمَنْزِلَةِ الْمُنْكَرِ الْمَوْجُودِ فِي وُجُوبِ الْإِنْكَارِ، وَالْمَشْهُورُ عِنْدَنَا فِي هَذَا الْحَالِ أَنَّهُ لَا يُعَذَّبُ.
وَذَكَرَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى فِي الْأَحْكَامِ السُّلْطَانِيَّةِ: إنْ غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ اسْتِسْرَارُ قَوْمٍ بِالْمَعْصِيَةِ لِأَمَارَةٍ دَلَّتْ، وَآثَارِ ظَهَرَتْ، فَإِنْ كَانَ فِي انْتِهَاكِ حُرْمَةٍ يَفُوتُ اسْتِدْرَاكُهَا، مِثْلُ أَنْ يُخْبِرَهُ مَنْ يَثِقُ بِصِدْقِهِ أَنَّ رَجُلًا خَلَا بِرَجُلٍ لِيَقْتُلَهُ أَوْ بِامْرَأَةٍ لِيَزْنِيَ بِهَا جَازَ أَنْ يَتَجَسَّسَ، وَيُقْدِمُ عَلَى الْبَحْثِ وَالْكَشْفِ هَذَا فِي الْمُحْتَسِبِ وَهَكَذَا لَوْ عَرَفَ ذَلِكَ قَوْمٌ مِنْ الْمُتَطَوِّعَةِ جَازَ لَهُمْ الْإِقْدَامُ عَلَى الْكَشْفِ، وَالْإِنْكَارِ كَاَلَّذِي كَانَ مِنْ شَأْنِ الْمُغِيرَةَ بْنِ شُعْبَةَ وَشُهُودِهِ، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمْ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - هُجُومَهُمْ، وَإِنْ حَدَّهُمْ لِلْقَذْفِ عِنْدَ قُصُورِ الشَّهَادَةِ.
وَإِنْ كَانَ دُونَ ذَلِكَ فِي الرِّيبَةِ لَمْ يَجُزْ التَّجَسُّسُ عَلَيْهِ، وَلَا كَشْفُ الْأَسْتَارِ عَنْهُ، وَكَذَا ذَكَرَ الْمَاوَرْدِيُّ فِي الْأَحْكَامِ السُّلْطَانِيَّةِ، وَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ فِي مَوْضِعٍ جَوَازُهُ كَمَا سَيَأْتِي فِي تَسْوِيَتِهِ بَيْنَ الْحَالَيْنِ وَعَمَلًا بِالظَّنِّ، وَهُوَ رَأْيُ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ، وَيُتَوَجَّهُ أَنْ يُقَالَ: نَصُّ أَحْمَدَ فِي هَذَا الْفَصْلِ فِي ظَنِّ وُقُوعِ مُنْكَرٍ مَسْتُورٍ، وَنَصُّهُ فِي الْفَصْلِ بَعْدَهُ فِي ظَنِّ وُقُوعِ مُنْكَرٍ ظَاهِرٍ، فَيُنْكِرُ الظَّاهِرَ لَا الْمَسْتُورَ.
وَقَوْلُ الْقَاضِي فِي انْتِهَاكِ حُرْمَةٍ يَفُوت اسْتِدْرَاكُهَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُنْكَرَ الْمَسْتُورَ إذَا زَالَ لَا تَجُوزُ الْمُجَاوَزَةُ بِدُخُولِ الدَّارِ وَالْمَكَانِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ، وَهُوَ زَوَالُ الْمُنْكَرِ، وَقَدْ قَالَ الْمَرُّوذِيُّ: قَرَأْتُ عَلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الرَّبِيعِ الصُّوفِيِّ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى سُفْيَانَ بِالْبَصْرَةِ فَقُلْتُ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ إنِّي أَكُونُ مَعَ هَؤُلَاءِ الْمُحْتَسِبَةِ، فَنَدْخُلُ عَلَى هَؤُلَاءِ، وَنَتَسَلَّقُ عَلَى الْحِيطَانِ، فَقَالَ: أَلَيْسَ لَهُمْ أَبْوَابٌ؟ قُلْتُ: بَلَى وَلَكِنْ نَدْخُلُ عَلَيْهِمْ لِئَلَّا يَفِرُّوا، فَأَنْكَرَهُ إنْكَارًا شَدِيدًا وَعَابَ فِعْلَنَا، فَقَالَ رَجُلٌ: مَنْ أَدْخَلَ ذَا؟ قُلْتُ: إنَّمَا دَخَلْتُ إلَى الطَّبِيبِ لِأُخْبِرَهُ بِدَائِي، فَانْتَفَضَ سُفْيَانُ. وَقَالَ: إنَّمَا أَهْلَكَنَا أَنَّا نَحْنُ سُقْمَى، وَنُسَمَّى أَطِبَّاءً، ثُمَّ قَالَ: لَا يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَلَا يَنْهَى عَنْ الْمُنْكَرِ إلَّا مَنْ كُنَّ فِيهِ خِصَالُ ثَلَاثُ: رَفِيقٌ بِمَا يَأْمُرُ، رَفِيقٌ بِمَا يَنْهَى عَدْلٌ بِمَا يَأْمُرُ، عَدْلٌ بِمَا يَنْهَى، عَالِمٌ بِمَا يَأْمُرُ، عَالِمٌ بِمَا يَنْهَى. فَإِقْرَارُ أَحْمَدَ هَذَا وَلَمْ يُخَالِفْهُ دَلَّ عَلَى الْقَوْلِ بِهِ، فَأَمَّا إنْ لَمْ يَزُلْ الْمُنْكَرُ إلَّا بِذَلِكَ فَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي إنْكَارِ الْمُنْكَرِ الْمَسْتُورِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الآداب الشرعية ،ج:1،ص:282إلى 285.