[فَصْلٌ حَمْلُ مَا جَاءَ عَنْ الْإِخْوَانِ عَلَى أَحْسَنِ الْمَحَامِلِ]
قَالَ إِسْحَاقُ بْنُ إبْرَاهِيمَ: إنَّهُ سَأَلَ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنْ الْحَدِيثِ الَّذِي جَاءَ «إذَا بَلَغَكَ شَيْءٌ عَنْ أَخِيكَ فَاحْمِلْهُ عَلَى أَحْسَنِهِ حَتَّى لَا تَجِدَ لَهُ مَحْمَلًا» مَا يَعْنِي بِهِ؟ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: يَقُولُ تَعْذُرُهُ، تَقُولُ: لَعَلَّهُ كَذَا، لَعَلَّهُ كَذَا.
وَقَالَ الْمَرُّوذِيُّ: قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: إنَّ أَبَا مُوسَى هَارُونَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ قَدْ جَاءَ إلَى رَجُلٍ شَتَمَهُ لَعَلَّهُ يَعْتَذِرُ إلَيْهِ، فَلَمْ يَخْرُجْ إلَيْهِ وَشَقَّ الْبَابَ فِي وَجْهِهِ؛ فَعَجِبَ وَقَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ، أَمَا إنَّهُ قَدْ بَغَى عَلَيْهِ سَيُنْصَرُ عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: رَجُلٌ نَقَلَ قَدَمَهُ وَيَجِيءُ إلَيْهِ يَعْتَذِرُ لَا يَخْرُجُ.
وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ ثنا وَكِيعٌ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ ابْن مِينَاءَ عَنْ جُوذَانَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ اعْتَذَرَ إلَى أَخِيهِ بِمَعْذِرَةٍ لَمْ يَقْبَلْهَا كَانَ عَلَيْهِ مِثْلُ خَطِيئَةِ صَاحِبِ مَكْسٍ» .
وَرَوَاهُ أَيْضًا عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إسْمَاعِيلَ بْنِ سَمُرَةَ عَنْ وَكِيعٍ، وَقَالَ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنُ مِينَاءَ، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي الْمَرَاسِيلِ عَنْ سُهَيْلِ بْنِ صَالِحٍ عَنْ وَكِيعٍ.
وَقَالَ عَنْ ابْنِ جُوذَانَ: وَهُوَ مُخْتَلَفٌ فِي صُحْبَتِهِ، وَإِسْنَادُهُ جَيِّدٌ، وَلَمْ أَرَ فِي الْعَبَّاسِ ضَعْفًا. وَمُرَادُ هَذَا الْخَبَرِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ مَا لَمْ يُعْلَمْ كَذِبُهُ. وَلِهَذَا ذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ أَنَّهُ رَوَى عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ اعْتَذَرَ إلَيْهِ أَخُوهُ الْمُسْلِمُ فَلْيَقْبَلْ عُذْرَهُ مَا لَمْ يَعْلَمْ كَذِبَهُ.» وَقَالَ عُمَرُ: لَا تَلُمْ أَخَاكَ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْعُذْرُ فِي مِثْلِهِ.
وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ: لَوْ أَنَّ رَجُلًا شَتَمَنِي فِي أُذُنِي هَذِهِ وَاعْتَذَرَ إلَيَّ فِي أُذُنِي الْأُخْرَى لَقَبِلْتُ عُذْرَهُ. وَمِنْ النَّظْمِ فِي مَعْنَاهُ:
قِيلَ لِي قَدْ أَسَاءَ إلَيْكَ فُلَانُ ... وَقُعُودُ الْفَتَى عَلَى الضَّيْمِ عَارُ
قُلْتُ قَدْ جَاءَنَا فَأَحْدَثَ عُذْرَا ... دِيَةُ الذَّنْبِ عِنْدَنَا الِاعْتِذَارُ
وَقَالَ الْأَحْنَفُ: إنْ اعْتَذَرَ إلَيْكَ مُعْتَذِرٌ تَلَقَّهُ بِالْبِشْرِ
وَقَالَ الشَّاعِرُ:
يَلُومُنِي النَّاسُ فِيمَا لَوْ أُخَبِّرُهُمْ ... بِالْعُذْرِ مِنِّي فِيهِ لَمْ يَلُومُونِي
وَقَالَ آخَرُ:
اقْبَلْ مَعَاذِيرَ مَنْ يَأْتِيكَ مُعْتَذِرَا ... إنْ بَرَّ عِنْدَكَ فِيمَا قَالَ أَوْ فَجَرَا
فَقَدْ أَطَاعَكَ مَنْ يُرْضِيكَ ظَاهِرُهُ ... وَقَدْ أَجَلَّكَ مَنْ يَعْصِيكَ مُسْتَتِرَا
وَكَانَ يُقَالُ: مَنْ وُفِّقَ لِحُسْنِ الِاعْتِذَارِ خَرَجَ مِنْ الذَّنْبِ. وَكَانَ يُقَالُ: اعْتِذَارُ مَنْ يَمْنَعُ خَيْرٌ مِنْ وَعْدٍ مَمْطُولٍ.
وَلِلشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -:
يَا لَهْفَ نَفْسِي عَلَى مَالٍ أُفَرِّقُهُ ... عَلَى الْمُقِلِّينَ مِنْ أَهْلِ الْمُرُوآت
إنَّ اعْتِذَارِي إلَى مَنْ جَاءَ يَسْأَلُنِي ... مَا لَيْسَ عِنْدِي مِنْ إحْدَى الْمُصِيبَاتِ
هِيَ الْمَقَادِيرُ فَلُمْنِي أَوْ فَذَرْ ... إنْ كُنْتُ أَخْطَأْتُ فَمَا أَخْطَأَ الْقَدَرْ
وَإِذَا عُيِّرُوا قَالُوا مَقَادِيرُ قُدِّرَتْ ... وَمَا الْعَارُ إلَّا مَا تَجُرُّ الْمَقَادِيرُ
وَقَالَ الْأَحْنَفُ: إيَّاكَ وَمَا تَعْتَذِرُ مِنْهُ فَإِنَّهُ قَلَّمَا اعْتَذَرَ أَحَدٌ فَيَسْلَمُ مِنْ الْكَذِبِ. وَقَالَ أَيْضًا: أَسْرَعُ النَّاسِ فِي الْفِتْنَةِ أَقَلُّهُمْ حَيَاءً مِنْ الْفِرَارِ.
قَالَ الشَّاعِرُ:
الْعَبْدُ يُذْنِبُ وَالْمَوْلَى يُقَوِّمُهُ ... وَالْعَبْدُ يَجْهَلُ وَالْمَوْلَى يُعَلِّمُهُ
إنِّي نَدِمْتُ عَلَى مَا كَانَ مِنْ زَلَلِي ... وَزَلَّةُ الْمَرْءِ يَمْحُوهَا تَنَدُّمُهُ
وَقَدْ قِيلَ:
عَجِبْتُ لِمَنْ يَبْكِي عَلَى فَقْدِ غَيْرِهِ ... زَمَانًا وَلَا يَبْكِي عَلَى فَقْدِهِ دَمَا
وَأَعْجَبُ مِنْ ذَا أَنْ يَرَى عَيْبَ غَيْرِهِ ... عَظِيمًا وَفِي عَيْنَيْهِ عَنْ عَيْبِهِ عَمَى
وَقِيلَ أَيْضًا:
عَجِبْتُ مِنْ الدُّنْيَا سَلَامَةَ ظَالِمِ ... وَعِزَّةَ ذِي بُخْلٍ وَذُلَّ كَرِيمِ
وَأَعْجَبُ مِنْ هَذَا كَرِيمٌ أَصَابَهُ ... قَضَاءٌ فَأَضْحَى تَحْتَ حُكْمِ لَئِيمِ
وَذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ أَنَّ مِنْ كَلَامِ أَبِي الدَّرْدَاءِ: مُعَاتَبَةُ الْأَخِ أَهْوَنُ مِنْ فَقْدِهِ، وَمَنْ لَكَ بِأَخِيكَ كُلِّهِ، فَأَعْطِ أَخَاكَ وَهَبْ لَهُ، وَلَا تُطِعْ فِيهِ كَاشِحًا فَتَكُونَ مِثْلَهُ.
وَقَالَ مُوسَى بْنُ جَعْفَرٍ: مَنْ لَكَ بِأَخِيكَ كُلِّهِ؟ لَا تَسْتَقْصِ عَلَيْهِ فَتَبْقَى بِلَا أَخٍ، وَقَالَ عَمْرٌو: - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَعْقَلُ النَّاسِ أَعْذَرُهُمْ لَهُمْ. قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: قَالَ أَعْرَابِيٌّ: عَاتِبْ مَنْ تَرْجُو رُجُوعَهُ.
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: الْعِتَابُ الْوَفَاءُ، وَسِلَاحُ الْأَكْفَاءِ، وَحَاصِلُ الْجَفَاءِ، وَقَالَ (الْعَتَّابِيُّ) : ظَاهِرُ الْعِتَابِ خَيْرٌ مِنْ مَكْنُونِ الْحِقْدِ، وَصِرْفَةُ النَّاصِحِ خَيْرٌ مِنْ تَحِيَّةِ الشَّانِي، وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: مَنْ كَثُرَ حِقْدُهُ قَلَّ عِتَابُهُ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ دَاوُد: مَنْ لَمْ يُعَاتِبْ عَلَى الزَّلَّةِ، فَلَيْسَ بِحَافِظٍ لِلْخُلَّةِ وَقَالَ أَسْمَاءُ بْنُ خَارِجَةَ: الْإِكْثَارُ مِنْ الْعِتَابِ دَاعِيَةٌ إلَى الْمَلَالِ، وَسَبَقَ قَرِيبًا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ " الْكَيِّسُ الْعَاقِلُ، هُوَ الْفَطِنُ الْمُتَغَافِلُ " وَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ:
أُعَاتِبُ مَنْ يَحْلُو بِقَلْبِي عِتَابُهُ ... وَأَتْرُكُ مَنْ لَا أَشْتَهِي أَنْ أُعَاتِبَهْ
وَلَيْسَ عِتَابُ الْمَرْءِ لِلْمَرْءِ نَافِعًا ... إذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمَرْءِ لُبٌّ يُعَاتِبُهْ
وَقَالَ نَصْرُ بْنُ أَحْمَدَ:
إنْ كَانَ لَفْظِي كَرِيهًا فَاصْبِرَا فَعَلَى ... كُرْهِ الْعِلَاجِ يُصِحُّ اللَّهُ أَبْدَانَا
لَوْلَا الْعَوَارِضُ مَا طَابَ الشَّبَابُ كَذَا ... لَوْلَا قِصَارَتُنَا لِلثَّوْبِ مَا لَانَا
إنِّي أُعَاتِبُ إخْوَانِي وَهُمْ ثِقَتِي ... طَوْرًا وَقَدْ يُصْقَلُ السَّيْفُ أَحْيَانَا
هِيَ الذُّنُوبُ إذَا مَا كُشِفَتْ دَرَسَتْ ... مِنْ الْقُلُوبِ وَإِلَّا صِرْنَ أَضْغَانَا
وَقَالَ آخَرُ: خُذْ مِنْ صَدِيقِكِ مَا صَفَا ... لَكَ لَا تَكُنْ جَمَّ الْمَعَائِبْ
إنَّ الْكَثِيرَ عِتَابُهُ ... الْإِخْوَانَ لَيْسَ لَهُمْ بِصَاحِبْ
إنَّ الظَّنِينَ مِنْ الْإِخْوَانِ يُبْرِمُهُ ... طُولُ الْعِتَابِ وَتُغْنِيهِ الْمَعَاذِيرُ
وَذُو الصَّفَاءِ إذَا مَسَّتْهُ مَعْذِرَةٌ ... كَانَتْ لَهُ عِظَةٌ فِيهَا وَتَذْكِيرُ
وَلَسْتُ مُعَاتِبًا خِلًّا لِأَنِّي ... رَأَيْتُ الْعَتْبَ يُغْرِي بِالْعُقُولِ
وَلَوْ أَنِّي أُوَقِّفُ لِي صَدِيقَا ... عَلَى ذَنْبٍ بَقِيتُ بِلَا صَدِيقِ
إنِّي لَيَهْجُرُنِي الصَّدِيقُ تَجَنُّبَا ... فَأُرِيهِ أَنَّ لِهَجْرِهِ أَسْبَابَا
وَأَخَافُ إنْ عَاتَبْتُهُ أَغْرَيْتُهُ ... فَأَرَى لَهُ تَرْكَ الْعِتَابِ عِتَابَا
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو مَرْفُوعًا «ارْحَمُوا تُرْحَمُوا، اغْفِرُوا يُغْفَرْ لَكُمْ وَيْلٌ لِأَقْمَاعِ الْقَوْلِ، وَيْلٌ لِلْمُصِرِّينَ الَّذِينَ يُصِرُّونَ عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ. أَقْمَاعُ الْقَوْلِ: هُمْ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ الْقَوْلَ وَلَا يَعُونَهُ وَلَا يَفْهَمُونَهُ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ حَدِيثِ جَرِيرٍ: «مَنْ لَا يَرْحَمُ النَّاسَ لَا يَرْحَمُهُ اللَّهُ» وَهُوَ لِأَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ.
وَرَوَى أَحْمَدُ حَدَّثَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ إبْرَاهِيمَ أَنْبَأَنَا زِيَادُ بْنُ مِخْرَاقٍ ثنا مُعَاوِيَةُ بْنُ قُرَّةَ عَنْ أَبِيهِ «أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنِّي لَأَذْبَحُ الشَّاةَ وَأَنَا أَرْحَمُهَا أَوْ قَالَ: إنِّي أَرْحَمُ الشَّاةَ أَنْ أَذْبَحَهَا قَالَ: وَالشَّاةُ إنْ رَحِمْتَهَا رَحِمَكَ اللَّهُ» إسْنَادٌ جَيِّدٌ.
وَلِأَحْمَدَ وَأَبِي دَاوُد وَالتِّرْمِذِيِّ وَحَسَّنَهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ «لَا تُنْزَعُ الرَّحْمَةُ إلَّا مِنْ شَقِيٍّ» .
وَلِلتِّرْمِذِيِّ وَحَسَّنَهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ وَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ «لَا حَلِيمَ إلَّا ذُو عَثْرَةٍ، وَلَا حَكِيمَ إلَّا ذُو تَجْرِبَةٍ» وَلَهُ وَقَالَ: حَسَنٌ غَرِيبٌ عَنْ حُذَيْفَةَ وَابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا.
الآداب الشرعية ،ج:1،ص:300إلى305.