[فَصْلٌ فِي سُنَّةِ الِاسْتِئْذَانِ فِي الدُّخُولِ عَلَى النَّاسِ]
يُسَنُّ أَنْ يُسْتَأْذَنَ فِي الدُّخُولِ عَلَى غَيْرِهِ ثَلَاثًا فَقَطْ قَدَّمَهُ فِي الرِّعَايَةِ وَيَجُوزُ ثَلَاثًا وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ جَمَاعَةٍ وَقِيلَ يَجِبُ ذَلِكَ وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ أَبِي مُوسَى وَالسَّامِرِيُّ وَابْنُ تَمِيمٍ وَلَا وَجْهَ لِحِكَايَةِ الْخِلَافِ فَيَجِبُ فِي الْجُمْلَةِ عَلَى غَيْرِ زَوْجَةٍ وَأَمَةٍ ثُمَّ قَالَ الْأَصْحَابُ عَلَى الْقَرِيبِ وَالْبَعِيدِ. وَقَدْ رَوَى سَعِيدٌ حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ عَاصِمٍ الْأَحْوَلِ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ قَالَ إذَا دَخَلَ أَحَدُكُمْ عَلَى وَالِدَتِهِ فَلْيَسْتَأْذِنْ، ثُمَّ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ نَحْوُ ذَلِكَ.
وَرُوِيَ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ «أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَسْتَأْذِنُ عَلَى أُمِّي قَالَ نَعَمْ فَأَمَرَ أَنْ يَسْتَأْذِنَ عَلَيْهَا» ، مُرْسَلٌ جَيِّدٌ وَهُوَ فِي الْمُوَطَّأِ.
وَصَحَّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ لَمْ يُؤْمَرْ بِهَا أَكْثَرُ النَّاسِ (آيَةُ الْإِذْنِ) وَإِنِّي لَآمُرُ جَارِيَتِي هَذِهِ تَسْتَأْذِنُ عَلَيَّ وَصَحَّ عَنْهُ أَيْضًا وَقِيلَ كَيْفَ تَرَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الَّتِي أُمِرْنَا فِيهَا بِمَا أُمِرْنَا وَلَا يَعْمَلُ بِهَا أَحَدٌ؟ : {لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النور: ٥٨] إلَى: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [النور: ٥٨] . قَالَ إنَّ اللَّهَ حَكِيمٌ رَءُوفٌ بِالْمُؤْمِنِينَ يُحِبُّ التَّسَتُّرَ وَكَانَ النَّاسُ لَيْسَ لِبُيُوتِهِمْ سُتُورٌ وَلَا حِجَالٌ فَرُبَّمَا دَخَلَ الْخَادِمُ أَوْ الْوَلَدُ أَوْ يَتِيمَةُ الرَّجُلِ أَوْ الرَّجُلُ عَلَى أَهْلِهِ فَأَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِالِاسْتِئْذَانِ فِي تِلْكَ الْعَوْرَاتِ فَجَاءَهُمْ اللَّهُ بِالسُّتُورِ وَالْخَيْرِ فَلَمْ أَرَ أَحَدًا يَعْمَلُ بِذَلِكَ بَعْدُ.
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مُحْكَمَةٌ وَأَنَّهُ أَصَحُّ مِنْ قَوْلِ مَنْ قَالَ هِيَ مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا} [النور: ٥٩] .
لِأَنَّ الْبَالِغَ يَسْتَأْذِنُ فِي كُلِّ وَقْتٍ، وَالطِّفْلَ وَالْمَمْلُوكَ يَسْتَأْذِنُ فِي الْعَوْرَاتِ الثَّلَاثِ وَذَكَرَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ أَيْضًا أَنَّ الْبُيُوتَ الْخَالِيَةَ هَلْ دَخَلَتْ فِي آيَةِ الْأَمْرِ بِالِاسْتِئْذَانِ ثُمَّ نُسِخَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ} [النور: ٢٩] .
أَمْ لَمْ تَدْخُلْ لِأَنَّ الْإِذْنَ لَا يُتَصَوَّرُ مِنْ غَيْرِ آذِنٍ، فَإِذَا بَطَلَ الِاسْتِئْذَانُ لَمْ تَكُنْ الْبُيُوتُ الْخَالِيَةُ دَاخِلَةً فِي الْأُولَى عَلَى قَوْلَيْنِ وَأَنَّ الثَّانِيَ أَصَحُّ.
وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ أَيْضًا لَا يَجُوزُ أَنْ تَدْخُلَ بَيْتَ غَيْرِك إلَّا بِالِاسْتِئْذَانِ لِهَذِهِ الْآيَةِ يَعْنِي: {لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} [النور: ٢٧] .
(وَمَعْنَى تَسْتَأْنِسُوا) تَسْتَأْذِنُوا وَفِي الْآيَةِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ.
الآداب الشرعية ،ج:1،ص:393ـ394.