[فَصْلٌ فِي التَّخَوُّلِ بِالْمَوْعِظَةِ خَشْيَةَ الْمَلَلِ]
ِ) فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ كَانَ يُذَكِّرُ كُلَّ خَمِيسٍ فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ إنَّا نُحِبُّ حَدِيثَكَ وَنَشْتَهِيهِ وَلَوَدِدْنَا أَنَّكَ حَدَّثَتْنَا كُلَّ يَوْمٍ، فَقَالَ مَا يَمْنَعُنِي أَنْ أُحَدِّثَكُمْ إلَّا كَرَاهِيَةٌ أَنْ أُمِلَّكُمْ «إنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَتَخَوَّلُنَا بِالْمَوْعِظَةِ مَخَافَةَ السَّآمَةِ عَلَيْنَا» . وَذَكَرَ الْبَيْهَقِيّ وَغَيْرُهُ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ حَدِّثْ النَّاسَ مَا أَقْبَلَتْ عَلَيْكَ قُلُوبُهُمْ إذَا حَدَّقُوكَ بِأَبْصَارِهِمْ وَإِذَا انْصَرَفَتْ عَنْكَ قُلُوبُهُمْ فَلَا تُحَدِّثْهُمْ، وَذَلِكَ إذَا اتَّكَأَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَقَالَ عِكْرِمَةُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ حَدِّثْ النَّاسَ كُلَّ جُمُعَةٍ مَرَّةً فَإِنْ أَكْثَرْتَ فَمَرَّتَيْنِ، فَإِنْ أَكْثَرْتَ فَثَلَاثًا وَلَا تُمِلَّ النَّاسَ مِنْ هَذَا الْقُرْآنِ وَلْتَأْتِ الْقَوْمَ وَهُمْ فِي حَدِيثٍ فَتَقْطَعَ عَلَيْهِمْ حَدِيثَهُمْ وَقَالَ: أَنْصِتْ فَإِذَا أَمَرُوكَ فَحَدِّثْهُمْ وَهُمْ يَشْتَهُونَهُ، وَإِيَّاكَ وَالسَّجْعَ فِي الدُّعَاءِ فَإِنِّي عَهِدْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابَهُ لَا يَفْعَلُونَهُ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَعَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ عَلَى الْمِنْبَرِ: أَيُّهَا النَّاسُ لَا تُبَغِّضُوا اللَّهَ إلَى عِبَادِهِ، فَقِيلَ كَيْفَ ذَاكَ أَصْلَحَكَ اللَّهُ قَالَ يَجْلِسُ أَحَدُكُمْ قَاصًّا فَيُطَوِّلُ عَلَى النَّاسِ حَتَّى يُبَغِّضَ إلَيْهِمْ مَا هُمْ فِيهِ، وَيَقُومُ أَحَدُكُمْ إمَامًا فَيُطَوِّلُ عَلَى النَّاسِ حَتَّى يُبَغِّضَ إلَيْهِمْ مَا هُمْ فِيهِ. وَقَالَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - لِعُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ إيَّاكَ وَإِمْلَالَ النَّاسِ وَتَقْنِيطَهُمْ وَكَانَ الزُّهْرِيُّ إذَا سُئِلَ عَنْ الْحَدِيثِ يَقُولُ أَحْمِضُوا أَخْلِطُوا الْحَدِيثَ بِغَيْرِهِ حَتَّى تَنْفَتِحَ النَّفْسُ وَقَالَ الزُّهْرِيُّ نَقْلُ الصَّخْرِ أَيْسَرُ مِنْ تَكْرِيرِ الْحَدِيثِ.
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ كَانَ يُقَالُ سِتَّةٌ إذَا أُهِينُوا فَلَا يَلُومُوا أَنْفُسَهُمْ: الذَّاهِبُ إلَى مَائِدَةٍ لَمْ يُدْعَ إلَيْهَا وَطَالِبُ الْفَضْلِ مِنْ اللِّئَامِ. وَالدَّاخِلُ بَيْنَ اثْنَيْنِ فِي حَدِيثِهِمَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يُدْخِلَاهُ فِيهِ، وَالْمُسْتَخِفُّ بِالسُّلْطَانِ، وَالْجَالِسُ مَجْلِسًا لَيْسَ لَهُ بِأَهْلٍ، وَالْمُقْبِلُ بِحَدِيثِهِ عَلَى مَنْ لَا يُسْمَعُ مِنْهُ وَلَا يُصْغِي إلَيْهِ.
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي بَهْجَةِ الْمَجَالِسِ: كَانَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَقُولُ: إنَّ هَذِهِ الْقُلُوبَ تَمَلُّ كَمَا تَمَلُّ الْأَبْدَانُ: فَابْتَغَوْا لَهَا طَرَائِفَ الْحِكْمَةِ.
وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَرِيحُوا الْقُلُوبَ فَإِنَّ الْقَلْبَ إذَا كَرِهَ عَمِيَ وَقَالَ أَيْضًا: إنَّ لِلْقُلُوبِ شَهْوَةً وَإِقْبَالًا، وَفَتْرَةً وَإِدْبَارًا. فَخُذُوهَا عِنْدَ شَهْوَتِهَا وَإِقْبَالِهَا، وَذَرُوهَا عِنْدَ فَتْرَتِهَا وَإِدْبَارِهَا. وَفِي صُحُفِ إبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَعَلَى الْعَاقِلِ أَنْ يَكُونَ لَهُ ثَلَاثُ سَاعَاتٍ سَاعَةٌ يُنَاجِي فِيهَا رَبَّهُ. وَسَاعَةٌ يُحَاسِبُ فِيهَا نَفْسَهُ، وَسَاعَةٌ يُخَلِّي فِيهَا بَيْنَ نَفْسِهِ وَبَيْنَ لَذَّاتِهَا فِيمَا يَحِلُّ وَيَجْمُلُ، فَإِنَّ هَذِهِ السَّاعَةَ عَوْنٌ لَهُ عَلَى سَائِرِ السَّاعَاتِ وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ تَحَدَّثُوا بِكِتَابِ اللَّهِ وَتَجَالَسُوا، وَإِذَا مَلَلْتُمْ فَحَدِيثٌ مِنْ أَحَادِيثِ الرِّجَالِ حَسَنٌ جَمِيلٌ وَقَالَ أَيْضًا لِابْنِهِ عَبْدِ الْمَلِكِ يَا بُنَيَّ إنَّ نَفْسِي مَطِيَّتِي وَإِنْ حَمَلْتُ عَلَيْهَا فَوْقَ الْجَهْدِ قَطَعْتُهَا.
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: حَادِثُوا هَذِهِ الْقُلُوبَ بِالذِّكْرِ فَإِنَّهَا تَصْدَأُ كَمَا يَصْدَأُ الْحَدِيدُ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ هَذِهِ الْقُلُوبَ تَصْدَأُ كَمَا يَصْدَأُ الْحَدِيدُ قَالُوا فَمَا جِلَاؤُهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: تِلَاوَةُ الْقُرْآنِ» وَكَانَ يُقَالُ: التَّفَكُّرُ نُورٌ وَالْغَفْلَةُ ظُلْمَةٌ.
وَفِي الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي جُحَيْفَةَ قَوْلُ سَلْمَانَ لِأَبِي الدَّرْدَاءِ: إنَّ لِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِنَفْسِك عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، فَأَعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ. وَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " صَدَقَ سَلْمَانُ " وَرَوَى الْحَاكِمُ فِي تَارِيخِهِ بِإِسْنَادِهِ عَنْ سُنَيْدٍ قَالَ: لَا تَنْسَى شَيْئًا فَتَقُولُ: {سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [البقرة: ٣٢] . إلَّا ذُكِّرْتَهُ وَكَانَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ إذَا جَلَسَ مَجْلِسَهُ لَا يَنْطِقُ بِشَيْءٍ حَتَّى يَقُولَهَا.
كتاب الآداب الشرعية ،ج:2،ص:99ـ100.