[فصل: في طريقة ابن سينا وذويه من الملاحدة في التأويل]
وأتى ابن سينا بعد ذا بطريقة ... أخرى ولم يأنف من الكفران
قال المراد حقائق الألفاظ تخييـ ... ـلا وتقريبا إلى الأذهان
عجزت عن الإدراك للمعقول ... إلا في مثال الحس كالصبيان
كي يبرز المعقول في صور من الـ ... ـمحسوس مقبولا لدى الأذهان
فتسلط التأويل أبطال لهذا ... القصد وهو جناية من جان
قد قاله مع نفيه ... لحقائق الألفاظ في الأذهان
وطريقة التأويل أيضا قد غدت ... مشتقة من هذه الخلجان
وكلاهما اتفقا على أن الحقيقـ ... ـة منتف مضمونها ببيان
لكن قد اختلفا فعند فريقكم ... ما إن أريدت قط بالتبيان
لكن عندهم أريد ثبوتا ... في الذهن إذ عدمت من الإحسان
إذ ذاك مصلحة المخاطب عندهم ... وطريقة البرهان أمر ثان
فكلاهما ارتكبا أشد جناية ... جنيت على القرآن والإيمان
جعلوا النصوص لأجلها غرضا لهم ... قد خرقوه بأسهم الهذيان
وتسلط الأوغاد والأوقاح ... والأرذال بالتحريف والبهتان
كل إذا قابلته بالنص قا ... بله بتأويل بلا برهان
ويقول تأويلي كتأويل الـ ... ـذين تأولوا فوقية الرحمن
بل دونه فظهورها في الوحي بالنصـ ... ـين مثل الشمس في التبيان
أيسوغ تأويل العلو لكم ولا ... تتأولوا الباقي بلا فرقان
وكذاك تأويل الصفات مع أنها ... ملء الحديث وملء ذا القرآن
والله تأويل العلو أشد من ... تأويلنا لقيامة الأبدان
وأشد من تأويلنا لحياته ... ولعلمه بمشيئة الأكوان
وأشد من تأويلنا لحدوث هـ ... ـذا العالم المحسوس بالإمكان
وأشد من تأويلنا بعض الشرا ... ئع عند ذي الإنصاف والميزان
وأشد من تأويلنا لكلامه ... بالفيض من فعال ذي الأكوان
وأشد من تأويل أهل الرفض أخبار ... الفضائل حازها الشيخان
وأشد من تأويل كل مؤول ... نصا بأن مراده الوحيان
إذ صرح الوحيان مع كتب الإله ... جميعها بالفوق للرحمن
فلأي شيء نحن كفار بهذا ... التأويل بل أنتم على الإيمان
إنا تأولنا وأنتم قد تأو ... لتم فهاتوا أوضح الفرقان
ألكم على تأويلكم أجران ... حيث لنا على تأويلنا وزران
هذي مقالتهم لكم في كتبهم ... منها نقلناها بلا عدوان،ص:118.
ردوا عليهم إن قدرتم أو ... فنحوا على طريق عساكر الإيمان
لا تحطمنكم جنودهم كحطم ... السيل ما لاقى من الديدان
وكذا نطالبكم بأمر رابع ... والله ليس لكم بذا إمكان
وهو الجواب عن المعارض ... إذ به الدعوى تتم سليمة الأركان
لكن ذا عين المحال ولو يسا ... عدكم عليه رب كل لسان
فأدلة الإثبات حقا لا يقو ... م لها الجبال وسائر الأكوان
تنزيل رب العالمين ووحيه ... مع فطرة الرحمن والبرهان
أنى يعارضها كناسة هذه ... الأذهان بالشبهات والهذيان
وجعاجع وفراقع ما تحتها ... إلا السراب لوارد ظمآن
فلتهنكم هذي العلوم اللاء قد ... ذخرت لكم عن تابع الإحسان.
بل عن مشايخهم جميعا ثم ... وفقتم لها من بعد طول زمان
والله ما ذخرت لكم لفضيلة ... لكم عليهم يا أولي النقصان
لكن عقول القوم كانت فوق ذا ... قدرا وشأنهم فأعظم شان
وهم أجل وعلمهم أعلى وأشرف ... أن يشاب بزخرف الهذيان
فلذاك صانهم الإله عن الذي ... فيه وقعتم صون ذي إحسان
سميتم التحريف تأويلا كذا ... التعطيل تنزيها هما لقبان
وأضفتم أمرا إلى ذا ثالثا ... شر وأقبح منه ذا بهتان
فجعلتم الإثبات تجسيما ... وتشبيها وذا من أصبح العدوان
فقلبتم تلك الحقائق مثل ما ... قلبت قلوبكم عن الإيمان
وجعلتم الممدوح مذموما كذا ... بالعكس حتى استكمل اللبسان
وأردتم أن تحمدوا بالاتبا ... ع نعم لكن لمن يا فرقة البهتان
وبغيتم أن تنسبوا للابتدا ... ع عساكر الآثار والقرآن
وجعلتم الوحيين غير مفيدة ... للعلم والتحقيق والبرهان
لكن عقول الناكبين عن الهدى ... لهما تفيد ومنطق اليونان
وجعلتم الإيمان كفرا والهدى ... عين الضلال وذا من الطغيان
ثم استحقيتم عقولا ما أرا ... د الله أن تزكوا على القرآن
حتى استجابوا مهطعين لدعوة ... التعطيل قد هربوا من الإيمان
يا ويحهم لو يشعرون بمن دعا ... ولما دعا قعدوا قعود جبان
كتاب نونية ابن القيم ،ص:120.