إن المتتبع لأحوال الأمة ولا سيما في المائة الأخيرة يقف على بعد كثير من الناس عن مشكاة النبوة، ووقوع أنواع من الظلم على المرأة، ولعل «الزواج العرفي» أحد أنواع ظلم المرأة الاجتماعي، وإليك بيانه وأحكامه.
• والزواج العرفي اصطلاح حديث يطلق على عقد الزواج غير الموثق بوثيقة رسمية سواء كان مكتوبًا أو غير مكتوب (١).
والسبب في تسميته بهذا الاسم، أن هذا العقد اكتسب مسماه من كونه عرفًا اعتاد عليه أفراد المجتمع المسلم منذ عهد الرسول صلوات الله عليه وسلامه وما بعد ذلك.
يقول د. محمد عزمي: «فلم يكن المسلمون في يوم من الأيام يهتمون بتوثيق الزواج، ولم يكن ذلك يعني إليهم أي حرج، بل أطمأنت نفوسهم إليه، فصار عُرفًا عُرف بالشرع، وأقرهم عليه، ولم يرده في أي وقت من الأوقات (٢).
• وقبل الشروع في بيان أنواعه لا بد أن يعلم أن الشريعة الإسلامية لم تشترط أن يجري عقد الزواج على يد قاض أو مأذون، ويستطيع العاقدان إجراء العقد بنفسيهما من غير احتياج إلى وسيط يقوم بإجرائه، ويكفي في انعقاده النطق بالإيجاب والقبول مشافهة بحضور شاهدين، ولم يكن يطالب المسلمون بتسجيل عقد الزواج، كل ما طلبته الشريعة الإشهاد عليه، واستحبت إعلانه وإشهاره. يقول
(١) مجلة البحوث الفقهية المعاصرة العدد (٣٦٩) ص: ١٤٩. (٢) العقد العرفي (١١).ص:808.
شيخ الإسلام ابن تيمية:«ولا يفتقر تزويج الولي إلى حاكم باتفاق العلماء»(١).
وابتدأت كتابة العقود عندما بدأ المسلمون يؤخرون المهر أو شيئًا منه، وأصبحت هذه الوثائق التي يدون فيها مؤخر الصداق وثيقة لإثبات الزواج.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية:«لم يكن الصحابة يكتبون صداقات؛ لأنهم لم يكونوا يتزوجون على مؤخر، بل يعجلون المهر، وإن أخروه فهو معروف، فلما صار الناس يزوجون على المؤخر، والمدة تطول وينسى صاروا يكتبون المؤخر، وصار ذلك حجة في إثبات الصداق، وفي أنها زوجة له»(٢).
وقد نشأ من عدم تسجيل عقود الزواج مشكلات كثيرة لا يخلو كتاب من كتب الفقه من الإشارة إليها، والحديث عنها.
فبعض الذين يضعف الإيمان في نفوسهم يدّعون الزوجية باطلًا وزورًا ويقيمون على ادعائهم شهودًا لا يتورعون عن الكذب والزور، وآخرون ينتفون من الزوجة تهربًا من الحقوق المترتبة عليها كمؤخر مهر، أو إسقاط شرط شرطته الزوجة.
وقد نصّت معظم قوانين الأحوال الشخصية في البلاد الإسلامية على وجوب توثيق عقد الزواج، واشترطت شروطًا لا بد من توافرها لإجراء العقد، وهذه الشروط ليست شروطًا شرعية؛ لأن مدوني القوانين ليس لهم أن يُنْشئوا حكمًا شرعيًّا دينيًّا يحل حرامًا، أو يحرم حلالًا، بل هو شرط يترتب عليه أثر قانوني لا دخل له في الحكم الشرعي.
(١) مجموع الفتاوى (٣٢/ ٣٤). (٢) المصدر السابق (٣٢/ ١٢١)، وينظر أيضًا (٣٣/ ١٥٨).ص:808.
وإذا انتفت هذه الشروط القانونية أو انتفى بعضها فإن الزواج يقع صحيحًا، وإن كان القانون له حق فرض العقوبة المناسبة على المخالف لمخالفته المنصوص عليه (١).
• ومما تقدم اعلم -وفقك الله- أن الزواج العرفي ينقسم إلى نوعين:
النوع الأول:
عقد يتوفر فيه أركان النكاح وشروطه من الإيجاب والقبول الدال على رضا الزوجين، والولي، والإشهاد، ولم يخل من المهر، وخلا من التأقيت، لكنه لم يسجل في المحكمة الشرعية، ولم يجر على يد مأذون، ولم تصدر فيه وثيقة زواج.
• والأسباب التي تدعو بعض الأزواج إلى إجراء العقود بعيدًا عن المأذون الشرعي، والمحاكم الشرعية تعود إلى أمور:
١ - إن بعض الأزواج لا تتوافر فيهم الشروط القانونية التي يجب توافرها حين العقد، كأن يكون من أحد الزوجين أقل من السن المنصوص عليه في القانون.
٢ - إن بعض الأزواج قد لا يملك الإثباتات الرسمية اللازمة لإجراء عقد الزواج، كأن لا يكون لديه جواز سفر أو هوية شخصية.
٣ - قد يرغب بعض الأزواج كتمان زواجه لما يحدثه الإعلان من إشكالات له، كما لو كان متزوجًا وله أولاد.
٤ - أن تكون الزوجة مستحقة لمعاش من زوجها الأول، وتريد أن تحتفظ به، لأنه يسقط بالزواج إن وثق (٢).
(١) ينظر: الزواج في الشريعة الإسلامية لعلي حسب الله (٧٨)، أحكام الزواج في ضوء الكتاب والسنة، للدكتور عمر الأشقر (١٧٤ - ١٧٥). (٢) ينظر: أحكام الزواج لعمر الأشقر (١٧٦) الزواج العرفي لحامد الشريف (٩/ ١١)، الزواج العرفي حكمه وأنواعه في بنك الفتاوى في موق «إسلام أون لاين».ص:809.
• ومال كثير من المعاصرين (١) إلى أن هذا النوع نكاح صحيح لاشتماله على أركان النكاح وشروطه، وإن حذروا من غباته ومخاطره، وما يترتب عليه من أمور محرمة كمخالفة ولي الأمر مع أن طاعته واجبة فيما ليس بمعصية، يقول تعالى:{أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ}(٢) ومن مخاطره: عدم استطاعة الزوجين إثبات عقد النكاح مع الرغبة في إثباته لسبب من الأسباب، فيتضرر الأولاد بسبب ذلك ضررًا بالغًا، كأن يهلك الوالدان قبل تسجيل عقد النكاح، أو يتوفى الزوج، ولا تستطيع الزوجة إثبات الزواج، أو ينتفي أحد الزوجين من الزواج والأولاد، فيتضرر الزوج الآخر، والخاسر الكبير في الغالب الزوجة، فقد يغرر بها الزوج، فترتبط به بعقد عرفي، ثم يهجرها بعد ذلك، ولا تستطيع أن تثبت زواجها منه، فيضيع ميراثها، و مؤخر مهرها، ونفقة عدتها، وتزداد المشكلة سوء إن رزقت منه بأطفال لا يعترف بهم، فتقع بين نارين، فهي من جهة فقدت العائل الذي ينفق عليها، وعلى ولدها، ومن جهة أخرى لا تستطيع أن تثبت نسب أولادها إلى أبيهم، ويحرمون بسبب ذلك حق الجنسية والتعليم والتطبيب.
فعلى أخواتي النساء أن يكن أكثر حذرًا؛ لكيلا يقعن في حبائل من ينصبون من الشباك، ثم يتركن بعد ذلك يندبن حظهن العاثر، وما وقع لهن كان بكسب أيديهن(١) منهم: د. عمر الأشقر في كتابه أحكام الزواج (١٧٧)، والشيخ حسنين مخلوف في فتاوى شرعية (٢/ ٥٥)، والشيخ جاد الحق شيخ الأزهر في بحوث وفتاوى إسلامية معاصرة (١/ ٢٦٨)، والشيخ يوسف القرضاوي في حلقة على الإنترنت في موقع المنتدى، والشيخ عبد اللطيف مفتي الديار المصرية في مجلة اليوسف المصرية بتاريخ (١/ ١٠/ ١٩٨٤ م).
(٢) النساء: (٥٩). .ص:810.
النوع الثاني:
أن يكتب الرجل والمرأة بينهما ورقة دون شهود، وأحيانًا يكون هناك شاهدان في الغالب يكونان من الأصدقاء وبدون مهر، ولا ولي، ولا إشهار، ولا توثيق (١)، وقد ظهر من هذا النوع أنواع أُخَر كزواج الكاسيت وهذا النوع لا يحتاج إلى ورقة أو شهود، وإنما يكتفي الطرفين بوجود كاسيت (أي: شريط تسجيل صوتي) ويسجل عليه كل منهما الكلمات التي يرددها المأذون الشرعي، ويحتفظ كل منهما بنسخة منه.
وزواج الوشم عبارة عن كتابة وثيقة الزواج بالوشم على الجلد.
وزواج الطوابع أسهل الأنواع حيث يقوم كل طرف بلصق طابع بريد على جبين الآخر، فيصيران زوجين (٢)!!
• وهذا الزواج إذا تم من دون ولي، ولا شهود، ولا إعلان فهو باطل بإجماع العلماء.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية:«نكاح السر الذي يتواصى بكتمانه، ولا يشهدون عليه أحدًا، باطل عند عامة العلماء وهو من جنس السفاح»(٣).
ويقول الشيخ عبد الرحمن النجدي:«وإن خلا الزواج من الإشهاد والإعلان فهو باطل عند عامة المسلمين»(٤).
(١) ينظر: زواج باطل لمحمد فؤاد شاكر (٣٢)، زواج المسيار (١٠٢). (٢) من مقال «هل يصبح الزوج فريند بديلًا عن الزواج السري» من موقع للكبار فقط. www.elekbar.com (٣) مجموع الفتاوى (٣٣/ ١٥٨). (٤) حاشية الروض المربع (٦/ ٢٧٨).ص:812.
• حتى وإن حضر شاهدان، ولم يحضر الولي فإن النكاح باطل عند جمهور العلماء مالك (١)، والشافعي (٢)، وأحمد (٣)، وهو القول الراجح الذي تقتضيه الأدلة، ومنها:
قال القرطبي: «والقراء على ضم التاء من تنكحوا الثانية، في هذه الآية دليل بالنص على أن لا نكاح إلا بولي. قال محمد بن علي بن الحسين: النكاح بولي في كتاب الله، ثم قرأ:{وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ}(٧). (٨) - ما أخرجه الدارقطني في السنن (٩)، وابن حبان في صحيحه من حديث
عائشة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال:«لا نكاح إلا بولي، وشاهدي عدل، وما كان من نكاح على غير ذلك فهو باطل، فإن تشاجروا فالسلطان ولي من لا ولي له».
وحسن إسناده الألباني، وأطال في تتبع طرقه وشواهده -رحمه الله- في الإرواء (١).
٤ - أخرج أحمد في المسند (٢)، وأبو داود في السنن (٣)، وابن ماجه في السنن (٤)، والترمذي في السنن (٥)، والحاكم في المستدرك (٦) من طرق عن ابن جريج، عن سليمان بن موسى، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال:«أيَّما امرأة نكحت بغير إذن وليها، فنكاحها باطل، فنكاحها باطل، فنكاحها باطل، فإن دخل بها فلها مهر بما استحل من فرجها، فإن اشتجروا فالسلطان ولي من لا ولي له» واللفظ للترمذي.
وقال: هذا حديث حسن.
وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه، وقد تابع أبا عاصم على ذكر سماع ابن جريج من سليمان بن موسى، وسماع سليمان بن موسى من الزهري، عبد الرزاق بن همام، ويحيى بن أيوب، وعبد الله بن لهيعة، وحجاج بن محمد المصيصي.
قلت: إسناده حسن، من أجل سليمان بن موسى الأموي، قال الحافظ عنه:«صدوق فقيه في حديثه بعض لين، خلط قبل موته بقليل»(١).
وصححه الألباني في الإرواء (٢) وتكلم على شواهده ومتابعاته، وكذا محققو مسند الإمام أحمد (٣).
وعلى كل فقد جهدت للحصول على نسب يتبين بها انتشار هذا النوع، ولكني لم أظفر بمرادي؛ لأن هذا النوع سري لا يمكن تتبع حالاته عن طريق موثق، إلا أن ما قرأته في الشبكة العنكبوتية يدل على انتشاره المخيف في أروقة الجامعات ولاسيما المختلطة، وهذه الظاهرة حديثة ابتدعها جند الشيطان وأولياؤه، ليخربوا بها الأمة من قبل شبابها وبخاصة في ظل هذا الاختلاط المتفشي، وهوجاء الشهوات المستعرة.
وهذا الزواج يغيب فيه مراقبة الرب، ومخالفة الشرع، وغياب الضمير، وتغلب الشهوة … إن الشرع لا يحارب العواطف والشهوات، ولكنه يرضيها ويهذبها؛ لتكون في خدمة الإنسانية جمعاء، وتكون بيتًا مسلمًا مستقرًا تحويه المودة، وتكتنفه الرحمة، ويسوده الهدوء العاطفي الذي يكفل إنجاح عملية بناء هذه اللبنة المباركة التي يتكون منها المجتمع، وينتظر منها تكامل نجاحه وعزته.
فإليك أخي المسلمة أهمس بهذه الوصية، لا تكوني ألعوبة في يد أهل الأهواء، ولا يغرنك تغير المسميات في زمن انقلاب المثل، فلو سُمي زواجًا فإن حقيقته السفاح، وعاره يلحق الآباء والأبناء، وبين يدي الساعة أقوام يسمون الحرام بغير اسمه ترويجًا له، فقد سموا الربا فوائد مادية، والغناء فنًا، والعلاقات
المحرمة صداقة، والسفاح زواجًا عرفيًّا، فهيهات هيهات أن تقبله فتاة عفيفة رضيت الإسلام منهجًا لها، وسمعت حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل ثلاثًا».
والمتأمل للأنكحة الفاسدة، يرى حماية الإسلام للمرأة من شهوات الرجل ونزواته، أو استغلاله للولاية التي جعلها الله بيده، فلله الحمد والمنة (١).
(١) كنت أعزم على إيراد «زواج المسيار» وكلام العلماء حوله، فظفرت بدراسة وافية شافية قدمها الأستاذ: عبد الملك ابن يوسف المطلق حوله، وسمها بـ «زواج المسيار دراسة فقهية واجتماعية نقدية» في سبع وأربعين ومائتي ورقة، خلص منها إلى جوازه لمن احتاج إليه، ولم يجد حلًا سواه، وأوجب اتخاذ الوسائل والطرق اللازمة لمنع انتشاره في المجتمع. فراجعه إن رمت الفائدة