المرأة عاطفة تتدفق، ومشاعر تتألق، جعلها الإسلام سكن الوالد، ومحضن الولد، وأمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالرفق بها، وشبهها بالقوارير فقال:«رويدك يا أنجشة سوقك بالقوارير»(١).
يقول الحافظ في الفتح (٢): «قال الرامهرمزي: كنى عن النساء بالقوارير؛ لرقتهن، وضعفهن عن الحركة، والنساء يشبّهن بالقوارير في الرقة واللطافة وضعف البنية».
وقد راعى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هذا الجانب في النساء فأشبعه، دل على ذلك حسن عشرته، وطيب قربه، ودماثة أخلاقه، ولا غرو فقد زكاه ربه، وامتدح خلقه فقال:{وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ}(٣) وإنك لتعجب حين ترى بعض الرجال يرى أنه أعطى المرأة حقها فأطعمها، وكساها، وأسكنها، لكن لم يرعَ يومًا نفسيتها، ولم يتفهم حاجاتها المعنوية، ومتطلباتها النفسية، وستقف من خلال ما سيأتي على ضرورة مراعاة نفسية المرأة، والحفاظ على معنوياتها. من خلال هدي
(١) أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب الأدب، باب: ما يجوز من الشعر والرجز والحداء … (٥/ ٢٢٧٦) ٥٧٩٧، ومسلم في صحيحه كتاب الفضائل، باب: رحمة النبي -صلى الله عليه وسلم- للنساء، وأمر السواق مطاياهن بالرفق بهن (٤/ ١٨١١) ٢٣٢٣. (٢) (١٠/ ٥٤٥). (٣) القلم: (٤).834.
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في التعامل مع زوجاته (١):
١ - رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في مهنة أهله:
وكان هديه -صلى الله عليه وسلم- في بيته مع أزواجه أحسن الهدي وأتمه وأكمله، فقد كان يقضي عامة وقته الذي في بيته في مهنة أهله، ومساعدتهم في أعمالهم، رفقًا بهم، ورحمة وشفقة عليهم، أخرج البخاري في كتاب الأدب، باب: كيف يكون الرجل في أهله؟ (٢) من طريق الأسود قال: سألت عائشة: ما كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يصنع في أهله؟ قالت: كان في مهنة أهله، فإذا حضرت الصلاة قام إلى الصلاة. وأخرج ابن حبان (٣) من طريق عروة قال: قلت لعائشة: يا أم المؤمنين أي شيء كان يصنع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا كان عندك؟ قالت: ما يفعل أحدكم في مهنة أهله يخصف (٤) نعله، ويخيط ثوبه، ويرقع دلوه.
٢ - استقراؤه -صلى الله عليه وسلم- لحال زوجته:
أخرج البخاري في صحيحه في كتاب النكاح، باب: غيرة النساء ووجدهن (٥)، ومسلم في كتاب الفضائل، باب: في فضائل عائشة (٦)، من طريق
(١) تعدّ الأستاذة ريم السويلم بحث الدكتوراه بعنوان: «أحاديث معاملة النبي -صلى الله عليه وسلم- لأهل بيته دراسة ورواية». (٢) (٥/ ٢٢٤٥) ٥٦٩٢. (٣) (١٢/ ٤٩٠) ٥٦٧٦. (٤) قال ابن الأثير: «يخصف نعله، أي: كان يخرزها» النهاية (٢/ ٣٨) مادة (خ ص ف). (٥) (٥/ ٢٠٠٤) ٤٩٣٠. (٦) (٤/ ١٨٩٠) ٢٤٣٩.835.
عروة، عن عائشة قالت:قال لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:«إني لأعلم إذا كنت عني راضية، وإذا كنت علّ غضبى»قالت: فقلت: ومن أين تعرف ذلك؟ قال:«أما إذا كنت عني راضية، فإنك تقولين: لا ورب محمد، وإذا كنت غضبى. قلت: لا ورب إبراهيم»قالت: أجل، والله يا رسول الله، ما أهجر إلا اسمك» واللفظ لمسلم.
• وفي الحديث إن من فطنة الرجل، ورِقّة عاطفته، ويقظة إحساسه، استقراءه لحال زوجته، من فعلها، وقولها، وحركاتها، فيما يتعلق بالميل إليه وعدمه، والحكم بما تقتضيه القرائن؛ لأنه -صلى الله عليه وسلم- جزم برضا عائشة وغضبها بمجرد ذكرها لاسمه وسكوتها … ! فبنى على تغير الحالتين من الذكر والترك، تغير الحالين من الرضا والغضب (١).
وهذا تأصيل للمنهج العلمي الصحيح القائم على الملاحظة، والتتبع، ثم استنتاج الحقيقة، والتحقق منها، وليس المنهج القائم على الظن والشك المفضي للخلاف والشقاق.
• كما أن فيه من الحكمة إشعار الحبيب بما ينوب خاطره من الوداد والعتاب، والعناية بمعرفة دلائل الرضا والأسى … والفرح والحزن … لحسن التصرف مع أسبابها … وما يورثه ذلك من علاج للخلافات الزوجية، والمشكلات الأسرية، ليهنأ الزوجان بحياة آمنة … هادئة … سعيدة.
• غضب عائشة -رضي الله عنها- على النبي -صلى الله عليه وسلم- لفرط غيرتها عليه، أو العوارض الحياة اليومية، ومكابدة متاعبها وأعبائها ونحو ذلك، مما لا حرج في التأثر به مع بقاء أصل المحبة، ولولا ذلك لكان غضبها معصية، وهجره كبيرة، إذ ليس
وعندما تأمل قولها: أجل -وهي تقال في التصديق- والله يا رسول الله ما أهجر إلا اسمك، حصر لطيف جدًّا … أخبرت أما في حال الغضب الذي يسلب العاقل اختياره. ورأيه، لا تنفك عن المحبة العظيمة المستقرة في قلبها، الممتزجة بروحها، الصادقة في عواطفها، وإن كانت تترك التسمية اللفظية، وتعبر عنها بالهجران؛ لتدل على أنها تتألم من هذا الصدود الذي لا اختيار لها فيه، فقلبها معلق بذاته الكريمة -صلى الله عليه وسلم-، ممتلئ مودة ومحبة (١).
• وفي اختيارها -رضي الله عنه- ذكر إبراهيم عليه السلام دون غيره من الأنبياء دلالة على مزيد فطنتها، وحدّة ذكائها؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- أولى الناس به، كما نص عليه القرآن الكريم، فلما لم يكن لها بد من هجر الاسم الشريف أبدلته بما هو منه بسبيل حتى لا تخرج عن دائرة التعلق في الجملة (٢).
• قال ابن بطال: فيه الصبر على النساء، وما يبدو منهن من الجفاء، والحرج عند الغيرة، لما جبلن عليه منها، وأنهن لا يملكنها، فعفي عن عقوبتهن على ذلك … وعذرهن الله فيه (٣).
٣ - مراعاة الغيرة عند المرأة:
أخرج البخاري في صحيحه في كتاب النكاح، باب: الغيرة (٤)، من حديث
(١) ينظر: إكمال المعلم (٧/ ٤٤٦)، شرح الأبيّ (٦/ ٢٦٢)، فتح الباري (٩/ ٤٠٨)، عمدة القارئ (٢٠/ ٢١١). (٢) فتح الباري (٩/ ٤٠٨)، عمدة القارئ (٢٠/ ٢١٠). (٣) شرح ابن بطال (٧/ ٣٥٢). (٤) (٥// ٢٠٠٣) ٤٩٢٧.ص:837.
أنس قال: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- عند بعض نسائه، فأرسلت إحدى أمهات المؤمنين (١) بصحفة (٢) فيها طعام، فضربت التي النبي -صلى الله عليه وسلم- في بيتها يد الخادم (٣)، فسقطت الصحفة، فانفلقت (٤) فجمع النبي -صلى الله عليه وسلم- فِلَقَ الصَّحْفة، ثم جعل يجمع فيها الطعام الذي كان في الصحفة، ويقول:«غارت أمكم» ثم حبس الخادم حتى أتي بصحفة من عند التي هو في بيتها، فدفع الصحفة الصحيحة إلى التي كسرت صحفتها، وأمسك المكسورة في بيت التي كسرت.
• وفي الحديث ما كان عليه نبي الأمة -صلى الله عليه وسلم- من رفق عظيم، وصبر جميل، وتصرف حكيم مع نسائه الضرائر، وأثر ذلك الخلق القويم في تهدئة المشاعر الثائرة، واحتواء الأزمات الطارئة، وعلاجها وتفادي الأضرار المحتملة.
ولنقترب أكثر … وندلف إلى بيت الحبيب -صلى الله عليه وسلم- … فإذا الخادم يحمل طعامًا صنعته ضرة عائشة -رضي الله عنها- ليأكل منه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في بيتها … والبيت مليء رجالًا من أصحابه … وعائشة مشغولة بإعداد الطعام لضيوف زوجها … فترى الخادم بين يديه الصحفة، فتتحرك حمية الغيرة في خواطرها … وتحتدم عواطفها … وتغتم لمرآه … فلا تملك نفسها حتى تضرب إناء ض رتها، فيتصدع، ويتناثر على الأرض بما فيه … على مرأى ومسمع من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- … وهو يلمح ذلك
(١) الراجح أنها زينب بنت جحش. ينظر تحقيق القول في المبهمة في: الفتح (٥/ ١٥٩)، إرشاد السارس (١١/ ٥١٢). (٢) الصحفة كالقصعة إناء، وأعظم القِصَاع الجفنة، ثم القَصْعة تشبع العشرة، ثم الصفحة تشبع الخمسة، ثم المئكلة تشبع الرجلين والثلاثة. (٣) هي عائشة -رضي الله عنها-، وأبهمت تفخيمًا لشأنها. ينظر: الفتح (٥/ ١٥٧). (٤) أي: انكسرت: ينظر: مشارق الأنوار (٢/ ١٩٥)، النهاية (٣/ ٤٧٢) مادة (ف ل ق).ص:838.
بطمأنينة وهدوء … ويتنفس هموم حبيبته … ويعذر الغيرى … ويعرض عن لومها وعتابها … ويضرب عن تأديبها ولو بالكلام … ويهوي بتواضعه الجمِّ إلى فلق الصحفة، وأشلاء الطعام فيجمعها من الأرض وهو يردد … ويتودد … بأرق عبارة … وأعذب بيان … وأجمل اعتذار«كلوا، غارت أمكم»وقوله -صلى الله عليه وسلم-«غارت أمكم»اعتذارًا منه -صلى الله عليه وسلم-؛ لئلا يحمل صنيعها على ما يذم، بل يجرى على عادة الضرائر من الغيرة، فإنها مركبة في النفس بحيث لا يقدر على دفعها(١).
وفي الحديث عدله -صلى الله عليه وسلم- وإنصافه حيث غرّم عائشة -رضي الله عنها- الصحفة لتعديها عليها، وعليه بوّب البخاري في صحيحه في كتاب المظالم، باب: إذا كسر قصعة أو شيئًا لغيره (٢).
٤ - وفاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:
لم تكن محبة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وحنوه على زوجاته، ووفاؤه لهن مقصورًا على حال الحياة فحسب، بل تعدت تلك المحبة والوفاء حال الحياة لتبقى بعد وفاة الزوجة، أخرج البخاري في صحيحه في مناقب الأنصار، باب: تزويج النبي -صلى الله عليه وسلم- خديجة وفضلها (٣)، ومسلم في الفضائل، باب: من فضائل خديجة أم المؤمنين -رضي الله عنها- (٤) من طريق هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت
: ما غرت على أحد من نساء النبي -صلى الله عليه وسلم- ما غرت على خديجة، وما رأيتها، ولكن كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يكثر ذكرها، وربما ذبح الشاة، ثم يقطعها أعضاء، ثم يبعثها في صدائق خديجة، فربما قلت
له: كأنه لم يكن في الدنيا امرأة إلا خديجة. فيقول:«إنها كانت وكانت، وكان لي منها ولد» وزاد مسلم: «فأغضبته يوما فقلت: خديجة؟! فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إني قد رزقت حبها».
وأخرجا (١) من طريق هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت: استأذنت هالة بنت خويلد أخت خديجة على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فعرف استئذان خديجة، فارتاح لذلك فقال:«اللهم هالة بنت خويلد» فَغِرت، فقلت: وما تذكر من عجوز من عجائز قريش حمراء الشِّدقين (٢)، حمشاء الساقين (٣)، هلكت في الدهر، فأبدلك الله خيرًا منها.
• وفي روايات الحديث وفاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لخديجة -رضي الله عنها- يظهر ذلك في:
- التصريح بحبها: فجاء في رواية مسلم: «إني قد رزقت حبها» وفي هذا التعبير وصف حبها بالرزق الذي تنعم به معها، ولم يقل «رزقت حبي» فكأنه شُرف -صلى الله عليه وسلم- بحبها. قال النووي:«قوله «رزقت حبها» فيه إشارة إلى أن حبها فضيلة حصلت».
- الحنين إلى ذكرياتها:
من أحب شيئًا … أحب محبوباته … وما يشبهه، وما يعيد الذكرى إليه. ولما
(١) رقم حديث البخاري (٣٦١٠)، ورقم حديث مسلم (٢٤٣٧). (٢) حمراء الشدقين: أي عجوز كبيرة جدًّا، قد سقطت أسنانها من الكبر، ولم يبق لشدقها بياض من الأسنان، إنما فيه حمرة لثتها. (٣) حمشاء الساقين: من الحمش أي الدقة، والمراد قليلة اللحم في الساقين.ص:840.
استأذنت«هالة»عرف النبي -صلى الله عليه وسلم- استئذان خديجة؛ لتشابههما فارتاح للصوت لما سمعه، وحملته الذكرى الجميلة إلى رياض خديجة فارتاح نفسًا بها، وتنفس عبر ماضيها.
وفي استئذان هالة بنت خويلد -رضي الله عنها- على الرسول -صلى الله عليه وسلم- دليل على جواز السلام على الرجل الأجنبي، وزيارة المعرفة، ما لم تكن مصافحة أو خلوة، والتزمت المرأة الحجاب الشرعي؛ لرضا النبي بمجيء هالة، وارتياحه لزيارتها، وسروره بسلامها وتحيتها.
وهذا الترحيب والإكرام … رعاية لحق أختها خديجة -رضي الله عنها- ووفاء بعهدها، وهو من حسن الإيمان (١).
- كثرة ذكرها، والثناء عليها:
وهو دليل على عمق المحبة ورسوخها … وسبق في رواية البخاري قوله -صلى الله عليه وسلم-: «إنها كانت … وكانت» وقولها «كأنه لم يكن في الدنيا إلا خديجة».
- بر معارفها وإكرام صواحبها بعد موتها:
والإحسان إليهم، وإرسال الهدايا والتحف إليهن، وتعاهدهم بها، وهذا مشعر باستمرار حبّه لها.
وجاء في رواية البخاري في كتاب الأدب، باب: حسن العهد من الإيمان (٢) من حديث عائشة قالت: ما غرت على امرأة ما غرت على خديجة، ولقد هلكت قبل
(١) ينظر: إكمال المعلم (٧/ ٤٤٣)، الفتح (٧/ ١٧٥). (٢) (٥/ ٢٢٣٧) ٥٦٥٨. كتاب حقوق المرأة في ضوء السنة النبوية ،ص:841.