يصور أعداء الدين «القوامة» في شريعة الإسلام على أنها تسلط الرجل على المرأة، وأنها تتعارض مع مبدأ حرية المرأة ومساواتها بالرجل (١)، وأن هذا المبدأ ليس إلا بعض مخلفات عهد استعباد النساء، ويرون أن تفرد الرجل بالسلطة لم يعد مقبولًا في زمان استعادت فيه المرأة مكانتها الاجتماعية، ودرست نفس المفاهيم التي يدرسها الرجل، ونالت أعلى الشهادات، واكتسبت خبرة واسعة في الحياة.
وللطعن في مفهوم القوامة في الإسلام يستشهد. ممارسات بعض أفراده، والمنتسبين إليه، وليت شعري أي ظلم ظلموا أنفسهم به حين فسروا الدين من خلال مزاولات أفراده، مع انتساب هؤلاء إلى العلم ومناداتهم به!
إن تفسير «القوامة» العلمي لا بد أن يُفهم في ضوء الكتاب والسنة على حسب ما تقتضيه مناهج البحث العلمي لا البحث المبني على أهواء النفوس المسعورة المولعة بمهاجمة الإسلام والنيل منه، ولو أن هؤلاء وظفوا أبحاثهم وطاقاتهم لتفسير القوامة الصحيح الذي حمى الله به حق المرأة، وحِفظ به كرامتها، لكان لهم أفيد.
(١) انظر إجراءات سلب قوامة الرجال على النساء في مؤتمرات المرأة الدولية في كتاب «قضايا المرأة في المؤتمرات الدولية» للدكتور: فؤاد العبد الكريم (٤٥٤ - ٤٦٥).ص:900.
[مناقشة الشبهة حول القوامة]
[١ - بيان معنى القوامة]
ل ابد من بيان معنى «القوامة» وتحرير لفظه، وما عرفته العرب في لغتهم عن القوامة؛ ليفهم من خلاله الحكمة في اختيار هذا اللفظ، وجعله للرجل دون المرأة.
- قال ابن منظور: «قال ابن بريِّ: قد يجيء (القيام) بمعنى المحافظة والإصلاح، ومنه قوله تعالى:{الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ}(١) … و (القوام) العَدْل، قال تعالى:{وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا}(٢) … قال الجوهري: وقيِّم القوم الذي (يقومهم) ويسوس أمرهم. قال أبو الفتح ابن جي: قيِّم المرأة: زوجها؛ لأنه يقوم بأمرها، وما تحتاج إليه. وقام الرجل على المرأة: صانها. وفي التنزيل العزيز:{الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} إنما هو من قولهم: قمت بأمرك. فكأنه -والله أعلم- قال: الرجال متكفلون بأمور النساء، معنيون بشؤونهن» (٣).
ومما تقدم من المعاني مجتمعة نخلص إلى أن (القِوامة) تأتي بمعنى المحافظة، والسياسة، والنظام، ويشتق منها (القيِّم) بمعنى الذي يسوس الأمور، ويختبر الطرق؛ ليعرف أصلحها وأنسبها.
و (القَوَام) يأتي بمعنى العدل، مما يعني أن المرشح للقوامة يجب أن يكون عادلًا مع المرأة -أمًّا، أو أختًا، أو زوجة، أو بنتًا? والعدل يتطلب منه الإنصاف من
(١) النساء: (٣٤). (٢) الفرقان: (٦٧). (٣) لسان العرب (١٢/ ٤٩٧) مادة (ق و م).،ص:902.
نفسه أولًا، فلا يتبع الهوى فيضله عن السبيل الأقوم، فيظلم، أو يبخس.
فالرجل (قِوام) أهل بيته من النساء، والذرية، والموالي، يقيم شأنهم، ويكفيهم الحاجة، ويكون (قيِّما) على سلوكهم، يرشدهم، ويدلهم إلى الأصلح.
واستخدام القرآن صيغة المبالغة في لفظ القِوامة فقال (قوّامون) لترسيخ حق الرعاية، والقيام بالشؤون.
٢ - الحكمة من جعل القِوامة للرجال دون النساء:
إن مما لا ينازع فيه عاقل أن الأسرة تجمُّع يَجْمع بين جنسين، ومن مقتضى أمور الحياة أن كل تجمع لا بد له من قائد، ورئيس من بين أفراده؛ ليتولى مهام إصدار القرارات، والإشراف على تنفيذها، ومهما تكن درجة الشورى والديمقراطية في التجمع فلا غنى له في النهاية عن القائد والرئيس الذي يوازن بين المنشورات والآراء المعروضة عليه؛ ليصدر من بينها قراره التنفيذي، فليست الشورى والديمقراطية في أعلى صور تحققهما بمغنية عن منصب الزعيم القائد، وحيث كان الأمر كذلك فإنه فيما يتصل بالأسرة كتجمع فلا بد أنا محتاجة القيادة، إما أن تكون من الرجال أو من النساء، والله تعالى يخبرنا أن ج نس الرجل هو المهيأ بما أودعه الله فيه من صفات لهذه القيادة، وبما أوجبه من النفقات المالية تجاه الأسرة (١).
والحكمة من جعل القوامة للرجال دون النساء، تظهر في قوله تعالى:{الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ}(٢).
(١) ينظر: مكانة المرأة في القرآن والسنة لمحمد بتاجي (٩٩)، طبيعة المرأة في الكتاب والسنة لعبد المنعم سيد (١٦٤)، المرأة بين طغيان النظام الغربي ولطائف التشريع الرباني (٩٨). (٢) النساء: (٣٤).ص:902
فالقوامة للرجال لسببين:
١ - {بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} أي للرجال فضيلة في زيادة العقل والتدبير، ولذا جعل لهم حق القيام على النساء، كما أن للرجال زيادة قوة في النفس والطبع ما ليس للنساء؛ لأن طبع الرجال غلب عليه الحرارة واليبوسة؛ فيكون فيه قوة وشدة، وطبع النساء غلب عليه الرطوبة والبرودة فيكون فيه معنى اللين والضعف، فجعل لهم حق القيام بذلك (١)، والمولى جل وعلا زوّد المرأة بالرقة والعطف وسرعة الانفعال والاستجابة العاجلة لمطالب الطفولة؛ لأن الضرورات الإنسانية العميقة كلها حتى في الفرد الواحد لم تترك لأرجحة الوعي، والتفكير، وبطئه، بل جعلت الاستجابة لها غير إرادية؛ ليسهل تلبيتها فورًا، وفيما يشبه أن يكون قسرا، ولكنه قسر داخلي غير مفروض من الخارج، ولذيذ ومستحب في معظم الأحيان كذلك؛ لتكون الاستجابة سريعة من جهة، ومريحة من جهة أخرى -صنع الله الذي أتقن كل شيء- وزود الرجل بالخشونة والصلابة وبطء الانفعال والاستجابة، واستخدام الوعي والتفكير قبل الحركة والاستجابة؛ لأن وظائفه كلها من الصيد إلى الجهاد تحتاج إلى قدر من التروي قبل الإقدام، وإعمال الفكر قبل الخطو. وهذه الخصائص تجعله أقدر على القوامة وأفضل في مجالها (٢).
ثم إن علماء الإدارة: يقولون: الرئيس رجل، ويظهر هذا جليًّا في رئاسة الدول، والوزارات، والهيئات العلمية، والشركات، بل وعلى مستوى الأسر في الغرب، فعلام يدل ذلك؟! على أن صناعة الإشراف والرياسة متوافرة في الرجل
(١) الجامع لأحكام القرآن (٥/ ١٦٩). (٢) في ظلال القرآن (٢/ ٦٥٠). ص:903.
بطبعه أكثر من توافرها في المرأة(١).
بل إن المرأة نفسها تتوق إلى قيام هذه القِوامة على أصلها الفطري في الأسرة، وتشعر بالحرمان والنقص وقلة السعادة عندما تعيش مع رجل لا يزاول مهام القوامة، وتنقصه صفاتها اللازمة؛ فيكل إليها هذه القوامة، وهي حقيقة ملحوظة تسلِّم بها حتى المنحرفات الخابطات في الظلام؟!.
٢ - {وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ}، ويأتي السبب الآخر في جعل القوامة للرجل وهو الإنفاق، وفي القانون العالمي «من ينفق يشرف» وهذا ما نصت عليه الآية، وفهم العلماء من قوله تعالى:{وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} أن الزوج من عجز عن نفقة الزوجة لم يكن قوامًا عليها، وإذا لم يكن قوامًا عليها كان لها فسخ العقد الزوال المقصود الذي شرع لأجله النكاح، وفيه دلالة واضحة من هذا الوجه على ثبوت فسخ النكاح عند الإعسار بالنفقة والكسوة، وهذا مذهب مالك والشافعي (٢).
«فقوامة الرجال مستحقة بتفضيل الله لهم، ثم بما فرض عليهم من واجب الإنفاق، وهو واجب مرجعه إلى واجب الأفضل، وليس مرجعه إلى مجرد إنفاق المال، وإلا لانتفى الفضل إذا ملكت المرأة مالًا يغنيها عن نفقة الرجل، أو يمكنها من الإنفاق عليه»(٣).
- ولهذا حرّم الإسلام على غير المسلم أن يتزوج المسلمة؛ كيلا تتحقق فيها
(١) ينظر: حقوق الإنسان في الإسلام لعلي عبد الواحد (١٠٣). (٢) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (٥/ ١٦٩) وتقدم عرض الخلاف مع الترجيح في ثبوت الفسخ بالإعسار، ص (٦٦٠) وما بعدها. (٣) المرأة في القرآن لعباس العقاد (١٧).ص:904.
قوامته عليها، وهي أفضل منه عقيدة؛ حيث قال تعالى:{وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا}(١) وأي سبيل أعظم من القوامة، وحق الطاعة؟!.
- وجاء اللفظ القرآني «الرجال قوامون على النساء» ولم يقل: الذكور قوامون على الإناث؛ لأنه ليس كل ذكر قائمًا على الأنثى؛ فقد يكون الذكر طفلًا ناقص الأهلية لا يملك حق القوامة على نفسه فضلًا عن غيره، ولا يستطيع القيام على شؤونه، فكيف يكون قواما على المرأة، بل تكون المرأة والحالة هذه هي الوصية على الذكر (٢). فتأمل.
[٣ - القوامة تكليف ومسؤولية]
إن القوامة في الإسلام تكليف لا تشريف، ومغرم لا مغنم، ومسؤولية وقيادة، وليست تعسفًا واستبدادًا؛ ولذلك أمر الله الرجال بالعشرة بالمعروف مع زوجاتهم فقال:{وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا}(٣).
- بل إن آية القوامِة ذاتها دليل على أن القوامة ليست تعسفًا واستبدادًا، وتأمل قوله تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ
فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا}(١)ففصل الله تعالى مراحل طاعة المرأة للرجل بعد أن قرر قِوامته عليها، وما هذا إلا دليل قاطع على أن الإسلام يعطي أهمية كبيرة جدًّا لتنظيم ممارسة هذا الحق من قبل الرجل، فيرسم له علاج نشوز الزوجة، ولا يكله إلى حق قوامته المتقرر
- والقوامة عبء على الرجل تلزمه بالسعي في الأرض، وشق الأنفاق، وتحمل المشاق في سبيل كفالة الأسرة، وتوفير الأمن والأمان لها، فهي عبء عليه، وتقييد له تلزمه أن يوفر الأمن، وكفاية الرزق لجوهرته، وهاتان النعمتان امتنَّ الله بهما على قريش فقال:{الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ}(٢) ومن البدهي أن الإنسان العاقل، المتصف برجحان عقله، إذا كان في حوزته من المقتنيات ما هو غالي الثمن، وكان مما يُغري الآخرين بسرقته والاستيلاء عليه عُنوة، جعله في حرز مكين، وموضع أمين، بعيدًا عن متناول الأيدي الآثمة التي لا تفرق بين حلال وحرام، ومن لم يفعل ذلك عُدَّ سفيهًا، قاصرًا، ليس له حق الولاية على غيره، فكيف بولي أمر المرأة، وهي أرقى وأثمن من جميع مقتنيات الأرض، أن يتهاون في شأن المحافظة عليها بشتى الوسائل، والطرق بل ويجهد في ذلك.
- ولقد فطنت المحامية الفرنسية «كريستين» إلى هذه الحقيقة حين زارت الشرق المسلم، فكتبت تقول: «سبعة أسابيع قضيتها في زيارة كل من بيروت، ودمشق، وعمان، وبغداد، وها أنا ذا أعود إلى باريس … فماذا وجدت؟ وجدت رجلا يذهب إلى عمله في الصباح … يتعب … يشقى … يعمل … حتى إذا كان المساء عاد إلى زوجته ومعه الخبز، ومع الخبز حب، وعطف، ورعاية لها ولصغارها. الأنثى في تلك البلاد