من أخطاء بعض الأئمة: إصرارهم على ترك الجهر بالبسملة دائماً في الصلاة، ويقابل هذا الفريق: فريقٌ آخر من الجهال، حيث يتركون الصّلاة خلف مَنْ لا يجهر بها، كما وقع لي مع كبار السِّن في بعض المرّات.
قال ابن القيّم:((وكان - صلى الله عليه وسلم - يجهر بـ ((بسم الله الرحمن الرحيم)) تارة، ويخفيها أكثر مما يجهربها. ولا ريب أنه لم يكن يجهر بها دائماً في كل يوم وليلة خمس مرات أبداً، حضراً وسفراً، ويخفي ذلك على خلفائه الراشدين، وعلى جمهور أصحابه، وأهل بلده في الأعصار الفاضلة، هذا من أمحل المحال، حتى يحتاج إلى التشبُّث فيه بألفاظ مجملة، وأحاديث واهية، فصحيح تلك الأحاديث غير صريح، وصريحها غير صحيح، وهذا موضع يستدعي مجلّدا ضخماً))(١).
ونقول للفريق الأوّل، ما قاله الإمام الزّيلعي:((وكان بعض العلماء يقول بالجهر ـ أي بالبسملة ـ سدّاً للذّريعة، قال: ويسوغ للإنسان أن يترك الأفضل لأجل تأليف القلوب، واجتماع الكلمة، خوفاً من التنفير، كما ترك النبي - صلى الله عليه وسلم - بناء البيت على قواعد إبراهيم، لكون قريش كانوا حديثي عهد بالجاهليّة، وخشي تنفيرهم بذلك، ورأى تقديم مصلحة الاجتماع على ذلك، ولما أنكر الربيع على ابن مسعود إكماله الصّلاة خلف عثمان، قال: الخلاف شر.
وقد نص أحمد وغيره على ذلك في البسملة، وفي وصل الوتر، وغير ذلك، مما فيه العدول عن الأفضل إلى الجائز المفضول، مراعاة لائتلاف المأمومين، أو لتعريفهم السنة، وأمثال ذلك، وهذا أصل كبير في سدّ الذّرائع)) (٢) .
ونقول لهم ما قاله الشوكاني منكراً على من ذهب إلى إجبار الناس على ترك الجهر بها ومعاقبتهم، فإنه قال ما نصه: ((فإن ما ذكرناه ها هنا، يكفي في دفع الإنكار، وردع المنكر لذلك، إذا كان ممن يعقل عن الله سبحانه، ويعرف مواطن الإنكار التي أيَّد الله عباده على من فعلها، وأخذ على الحاملين لحجج الله، أن يأخذوا على يد مرتكبيها، ويأطروه على الحق أطراً، وأما مثل هذه المسألة فليس الإنكار فيها إلا من باب إنكار المعروف، وتفريق كلمة عباد الله بغير حجة نيّرة، ولا برهان واضح والمهدي من هداه الله.ونقول للفريق الثاني:ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه لم يجهر بالبسملة.
عن أنس رضي الله عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكر وعمر كانوا يفتتحون الصّلاة بالحمد لله رب العالمين (٢) .
وفي رواية: صليت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر وعثمان، فلم أسمع أحد منهم يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم (٣) .
وفي رواية: فكانوا لا يجهرون ببسم الله الرحمن الرحيم (٤) .
وزاد بعضهم:
ويجهرون بالحمد لله ربّ العالمين (٥) .
وفي رواية: وكانوا يسرّون ببسم الله الرحمن الرحيم ، وليس القول بعدم الجهر بها، بدعاً من القول، أو من الآراء الشّاذة أو الضعيفة، أو من الآراء المهجورة، بل ذهب إليه جماعة من الصحابة والتابعين وفقهاء الأمصار، منهم:عمر وعلي وعمار وابن عباس، وقد اختلف عن بعضهم، فروي عنهم الجهر بها، ولم يختلف عن ابن مسعود أنه كان يسرّها. وبه قال الحسن وابن سيرين، وهذا مذهب سفيان وسائر الكوفيين وأهل الحديث:أحمد وإسحاق وأبي عبيدة ومَنْ تابعهم(٧).
والخلاصة: الصواب أن يُقال: إن هذا أمر متّسع، والقول بالحصر فيه ممتنع، وكلّ مَنْ ذهب إلى رواية، فهو مصيب متمسك بالسنّة، والتّمام والكمال متابعة المصطفى - صلى الله عليه وسلم - في كلّ الأحوال، فيجهر بها تارة، ويسر بها أكثر، والله المستعان، وهو يهدي إلى سواء السّبيل.