من أهم الأسئلة التي ترد على الفطرة البشرية في القديم والحديث السؤال عن الحكمة من وجود الإنسان على هذه البسيطة، ومثل هذه الأسئلة لا يوجد لها جواب شافٍ إلا في شريعة الإسلام الخالدة.
وما انتكس الغرب، وما زاغت الحضارة الحديثة إلا حين فشلت في الإجابة على مثل هذا السؤال، فنتج عن ذلك تنكّر أمم الغرب والشرق لدينها بحجة أنه يمنعها من اللحاق بركب الحضارة، فصارت تلك الأمم تعيش حياة أقرب إلى البهيمة، رغم ما تتشدق به من تمدن.ص:1.
[الحكمة من الوجود]
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: فإن موضوع حكمة الوجود مما لا يخفى على كل مسلم، ولولا أن الله تبارك وتعالى أمرنا بالتذكير، وبيَّن لنا ما في التذكير والذكرى من الخير والفائدة، لما تُحدث عن مثل هذا الموضوع، ولكن الإنسان قد يتعمق في العلم، ويتعمق في العمل -أياً كان العمل- وينسى الهدف والأساس والمنطلق لذلك العلم والعمل.
ومن هنا يحتاج المرء دائماً إلى التذكير، وهذه الأمور بديهية لا تحتاج إلى تذكير، لكن هذا الأمر البدهي لو فكر فيه الإنسان وتأمل؛ لوجد أنه يغير حياته كلها بناءً على تفكير جديد في ذلك الأمر البدهي المعهود.ص:2.
[نظرة الجاهلية الأولىللوجود]
والجاهلية الأولى التي بعث النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيها -نعني بها جاهلية قريش والعرب- ماذا كانت نظرتهم للوجود؟ لقد كانوا يقولون: ما هي إلا أرحام تدفع، وأرض تبلع، وما يهلكنا إلا الدهر.
وقال قائلهم:
أموتٌ ثم بعثٌ ثم حشرٌ حديث خرافة يا أم عمرو
فكانوا لا يتصورون أن لهذا الوجود حكمة ولا غاية؛ إنما هي أرحام تدفع، أي:"تنتج المواليد"، ثم أرض تبلع في النهاية؛ ولذلك قالوا:{أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً نَخِرَةً * قَالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ}[النازعات:١١ - ١٢] أي كيف -بعد أن نكون عظاماً نخرة- نعود إلى حياة جديدة؟! فالوجود عندهم ينتهي بهذه الحياة الدنيا فقط، والدهر -أي: مرور الأيام والليالي- هو الذي يهلك والذي يفني، ولا شيء وراء ذلك.
فهكذا كانت غفلتهم، والعمى الذي ضربه الله تعالى على قلوبهم.
ومع ذلك فالفطرة تلح عليهم إلحاحاً شديداً، وقد كان منهم الشعراء وهم أكثر إرهافاً وإحساساً؛ فالشعراء كانوا يتخيلون أنه لا يمكن أن يكون وراء هذا العالم إلا شيء آخر، وكذلك الخطباء وأمثالهم من أصحاب الإرهاف في الحس، يقولون: لا بد أن وراء هذا العالم عالماً آخر، ولا بد أن لهذا الوجود حكمة وغاية أكثر من مجرد أنها أرحام تدفع، وأرض تبلع، وهذا موجود في أشعارهم.
ولما أرسل الله النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بهذا الدين العظيم؛ جاءت الهداية الكبرى من عند الله تبارك وتعالى، وقضت على ما شاء الله تعالى أن تقضي عليه من الضلال والحيرة والاضطراب الذي كان يسود الأرض أو معظمها من أجل: لماذا جئنا؟ ولماذا خلقنا؟ لقد كان الناس إما أن يتدينوا على باطل، كحال اليهود والنصارى وأتباعهم، أو يتيهون ويحارون ولا يدرون بمَ يتدينون، وقصة سلمان الفارسي رضي الله عنه معروفة، فقد رفض النار التي كان يعبدها أبوه، ثم هاجر إلى العراق، فوجد راهباً هنالك وتعلم الدين عنده، وتعبد بدينه؛ ثم سلمه الراهب عند الموت إلى راهب آخر؛ ثم ذهب إلى الآخر؛ ثم إلى آخر؛ ثم بيع رقيقاً.
ثم أتى إلى المدينة -كل ذلك وهو يبحث عن الحق- فكان يشعر أن لله ديناً، وأن هذا الدين حق، وهو غير ما يتدين به، وغير ما يسمع، وغير ما عند اليهود والنصارى والمجوس، حتى عرف الحق ووفقه الله تبارك وتعالى له، وأمثال سلمان رضي الله تعالى عنه قليل؛ فأكثر الناس يأكل ويشرب وينام ولا يفكر على الإطلاق، ولا يبالي بهذا السؤال وبالإجابة عليه.
لقد كانت ظاهرة البحث عن الدين الحق ومعرفة سر الوجود؛ مقتصرة على أفراد قلائل؛ لأن الناس كانوا يعيشون -إلى حد ما- في طمأنينة بما يدينون به من معتقدات، وهذه نقطة مهمة في التاريخ؛ فاليهود والنصارى، والمجوس، والبراهمة، وكل الأديان التي كان يعتنقها الناس كان لديهم اطمئنان إلى أنها هي الدين الصحيح؛ ولهذا لا يبحثون عن الحكمة من الوجود خارج هذا الدين.ص:3.
[أسئلة تراود الإنسان عن هذا الوجود]
ماذا وراء هذا الوجود؟ ولماذا خلقنا؟ ومن أين جئنا؟ وإلى أين نذهب؟ كل هذه أسئلة تراود كل إنسان من حيث هو إنسان لا من حيث كونه متحضراً، أو متعلماً أو مؤمناً أو كافراً، فلا علاقة لهذه الصفات كلها، فكل إنسان بما أنه إنسان؛ فإنه تراوده هذه الأسئلة دائماً في أي زمن عاش فيه، سواء في الأزمان السحيقة الغابرة، أم في هذا القرن، أم في قرون قادمة، أم في أي بيئة أو زمان؛ فلا بد من أن يلح هذا السؤال على الإنسان، من أين جئت؟ وما هدفي في هذه الحياة؟ وإلى أين أذهب؟ وهذه فطرة أودعها الله تبارك وتعالى في قلوب جميع العباد.
إلا الحيوان؛ فهو المخلوق الذي لا يفكر إلا في اللحظة التي هو فيها، مهما كان ذكياً فهو يفكر في اللحظة التي هو فيها فقط، كيف يأكل العشب في هذه اللحظة، ولذلك ليس للحيوان تأريخ، لا في الحيوان كفرد، ولا في القطيع كنوع؛ لأنه لا يفكر في تأريخه، ولا يفكر في ماضيه، وأيضاً لا يفكر في مستقبله وإلى أين سيذهب؟ وما هي نهايته؟ وما هي نهاية هذا الجنس أو هذا النوع؟ فهو لا يفكر في شيءٍ من ذلك؛ وإنما يفكر في اللحظة التي هو فيها -إن سمينا عمله تفكيراً- وينتهي الأمر عند هذه الحدود.
ولكن الإنسان ميزه الله تبارك وتعالى عن الحيوان بميزات عظيمة جداً، قال تعالى:{وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ}[الإسراء:٧٠] وقال أيضاً: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ}[التين:٤] أي تكريم عظيم بخصائص عضوية خلقية وتكوينية، وخصائص عقلية روحية، وكل أنواع الخصائص التي ميز الله تبارك وتعالى بها الإنسان.
فمن ذلك أنه يفكر هذا التفكير، ويسأل نفسه هذا السؤال؛ ولكن الاهتداء إلى الجواب الصحيح ليس من شأن كل إنسان، إنما هو فضل من الله تبارك وتعالى يؤتيه من يشاء.ص:4.
[حكمة الوجود مركوزة في الفطرة]
أما القضية ذاتها فإنها مركوزة في الفطر، يقول الله تبارك وتعالى:{سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى * الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى}[الأعلى:١ - ٣] ويقول على لسان نبيه موسى عليه السلام لما قال له الطاغية فرعون: {قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى * قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى}[طه:٤٩ - ٥٠].
فالله تبارك وتعالى أعطى كل شيءٍ خلقه ثم هدى -خلق فسوى وقدر فهدى- فأصل الهداية قد تكفل الله تبارك وتعالى بها، وهذه نعمة كبرى وفضل من الله تبارك وتعالى؛ فلم يكلنا إلى أنفسنا، بل تكفل لنا بهذا الشيء العظيم الذي بدونه لا تكون الحياة حياةً إنسانيةً أصلاً.
وهل معنى هذه الهداية أن كل إنسان يعرف الجواب الصحيح؟ لا.
لكن معناها أن كل إنسان ميسر له أن يعرف الجواب الصحيح؛ فقد فطر الله تبارك وتعالى العباد جميعاً على الإيمان به وعلى معرفته، وعلى التوحيد كما قال جل شأنه:{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ}[الروم:٣٠].
فلا يمكن بأية حال من الأحوال أن يولد إنسان إلا وهو على هذه الفطرة، كما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:{ما من مولود إلا وهو يولد على الفطرة -وفي رواية: على الملة - فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه} وكل الروايات تدل على أن كل مولود يولد على الإسلام وعلى التوحيد؛ تحقيقاً للعهد الذي أخذه الله تبارك وتعالى:{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى}[الأعراف:١٧٢].
فكل إنسان ميسر له أن يهتدي إلى الجواب؛ وهو أن يعرف أن الله خلقه لعبادته، وأن معرفة الله هي أعز ما يسعى إليه كل مخلوق، وهي الغاية التي ليس بعدها غاية أبداً، لكن الذي حدث هو الابتلاء من الله تبارك وتعالى وهذا ما دل عليه القرآن كما قال الله تبارك وتعالى:{إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً}[الإنسان:٣].
فهو تبارك وتعالى مع بيانه لحكمة الوجود، ومع أنه فطر الناس على الهداية والاهتداء إليه؛ لكنه جعل مكان الابتلاء ومحل الابتلاء {إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً}[الإنسان:٣] وهكذا يمكن أن يكون الإنسان: {إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً}[الإنسان:٣].