إن من أول وأعظم ما يُعظم به هذا البلد الحرام، أن يُجتنب فيه أكبر الكبائر وأعظم الموبقات وهو الشرك بالله تعالى، فإنه لا يليق بهذا البلد الطيب الطاهر، وهذا البيت الذي بناه الخليل -عليه وعلى نبينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أفضل الصلاة والسلام- على التوحيد وعبادة الله وحده لا شريك له، لا يليق به أبداً أن يحدث فيه محدث، ولا سيما إذا كان الإحداث هو الشرك الأكبر عافاني الله وإياكم.
والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لم يحذر في كتابه، ولا في سنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من ذنبٍ أعظم من الشرك، قال تعالى:{إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَار}[المائدة:٧٢] فهذا هو الداء العضال الذي بعث الله تبارك وتعالى الرسل جميعاً لينقذوا الناس منه، قال تعالى:{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ}[النحل:٣٦] وقال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ}[الأنبياء:٢٥] وقال: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِين}[الزمر:٦٥].
فلا يليق بهذا البيت المعظم المطهر أن يحدث فيه الشرك أبداً بأي حال من الأحوال، وقد بعث الله محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالتوحيد، وبتجديد ملة إبراهيم عليه السلام وتحطيم الأصنام، والقضاء على الشرك بكل أنواعه وأشكاله.
فمن جاء وأراد أن يحدث أو يعيد معالم الشرك وشعائر الشرك في هذا البلد؛ فقد ضاد ما أمر الله تبارك وتعالى به، وخان الله ورسوله والمؤمنين, وقد تخلى عن ملة إبراهيم الخليل التي أمرنا الله تبارك وتعالى باتباعها، وجاءنا ليجدد ملة عمرو بن لحي الخزاعي، الذي كان أول من سيب السوائب، والذي حرف الناس وأهل هذه الجزيرة من عبادة الله وحده لا شريك له على ملة إبراهيم إلى عبادة الأصنام والحجارة، كما كان يفعل أهل الجاهلية في الأرض، فهذا أول ما يجب اجتنابه.،ص:17.
[تعظيمه عن البدع]
إن البدع هي أعظم المعاصي بعد الشرك بالله تبارك وتعالى، وكفى بها شؤماً، وشراً؛ لأنها ربما أحبطت العمل كله، بل بعضها لا شك أنه يحبط العمل كله، فلا تنفع الإنسان عبادة ولا قراءة ولا ذكر ولا جهاد مع هذه البدع.
كما صح عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الصحيحين وغيرهما في صفة الخوارج أنه قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:{يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية} وقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {تحقرون صلاتكم إلى صلاتهم وقراءتكم إلى قراءتهم}.
إن المخاطبين بهذا هم الصحابة الكرام، ومع ذلك فإن قراءة الخوارج، وعبادتهم أشد وأكثر من عبادة الصحابة، أي: أن الصحابة يحقرون قراءتهم وصلاتهم وعبادتهم عندما يرون قراءة الخوارج كما ذكر ذلك أبو سعيد.
وكما رأى ذلك ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، لما دخل إلى معسكرهم، ومع ذلك فإنهم يمرقون من الدين، بل لا تتجاوز قراءتهم حناجرهم كما أخبر صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وذلك بسبب ما ابتدعوه من البدع، وقد جاء -أيضاً- عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال:{لا يقبل الله من صاحب بدعة صرفاً ولا عدلاً ولا صياماً ولا صلاة}.
فماذا يريد صاحب البدعة بها، إذا كان الله تبارك وتعالى لا يقبل منه شيئاً، ولا تنفعه مهما كثرت ومهما تعبد واجتهد فيها؟! فكيف يجرؤ مبتدع أن يبتدع، ويرتكب هذا الإثم العظيم في بلد الله الحرام، الذي أمر الله تبارك وتعالى بتعظيمه؟!ص:18.
يجب تعظيم وتطهير هذا البيت الحرام، وهذه البقعة الطيبة الطاهرة من المنكرات والمعاصي الظاهرة.
ونحن نشاهد في الأيام التي يسمونها أيام العطلة أو الإجازة -والتي يتوافد فيها الناس والحمد لله على هذا البلد الحرام- كثيراً من المظاهر التي تدل على أن هؤلاء الناس من المقيمين أو القادمين لا يعظمون شعائر الله، ولا يعظمون هذا البيت كما أمر الله تبارك وتعالى.
فبعضهم يأتي إلى هذا البلد الحرام وما يكاد يتحلل من عمرته حتى ينطلق في الأسواق، ويرتع في الملاهي وفي ترك الفرائض، وتبدأ النساء بالتبرج، والتهتك، وتكون من المصائب والأمور ما يضج بها المؤمنون، ويضج منها هذا البلد الحرام.
وهذه مأساة كبرى ومصيبة عظمى، مع ما هو معلومٌ من ضعفٍ في الهيئات أو المؤسسات القائمة على الإنكار، لكن يزيد الطين بلة أن تأتي هذه الجموع فتنتشر المحرمات من السفور والتبرج وترك صلاة الجماعة، فترى الناس أكواماً وجماعات حتى بالقرب من المسجد الحرام، وتقام الصلاة ولا يجدون من ينكر عليهم من أهل البلد، وهذه من المنكرات ومن المظاهر الدالة على أن هؤلاء لا يعظمون شعائر الله، ولا يعظمون ما عظم الله تبارك وتعالى.
وإنه مما يثير العجب أن يجد الإنسان أن هنالك مظاهر كثيرة كان بالإمكان أن تتدارك، ومن ذلك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلو أننا أمرنا بالمعروف ونهينا عن المنكر، وكل من ذهب إلى الصلاة أمر وحث إخوانه عليها، وكل من كان في السوق وأقفل دكانه أمر ونهى إخوانه -أيضاً- بذلك وحثهم عليه، ولا يشترط أن يكون عضواً في الهيئة كما يتبادر إلى أذهان البعض، بل كل من رأى التبرج أو السفور أو الانحلال أو المغازلات أو ما أشبه ذلك من المعاكسات فإنه يبادر وينكر، لو فعلنا هذه الأمور لأحيينا هذا الأمر العظيم.
إن تركنا للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، هو -أيضاً- من عدم تعظيم شعائر الله، فيتبلد الحس على المنكرات والمعاصي والذنوب، حتى تصبح مألوفةً نسأل الله العفو والعافية.
وأعظم من ذلك وأشد منه، وهو من المنكرات الدائمة في هذا البلد الحرام، في مواسم الخير وفي كل العام، وهو مما يدمي قلوب المؤمنين ويجرح مشاعرهم، ويتنافى مع تعظيم هذا البلد وتعظيم حرمات الله: أن نجد منارات أو علامات أو شعائر ما حرم الله تبارك وتعالى تنتشر في هذه البلدة الطيبة الطاهرة.
ومن أوضحها البنوك الربوية التي -كما ترون في هذه الأيام- يكتتب البعض في جلها، ويحذر العلماء وعلى رأسهم سماحة الشيخ الوالد عبد العزيز بن باز -رحمه الله- من هذا الاكتتاب.
والواجب في الحقيقة -كما تعلمون- وكما هو ظاهر من فتاوى علمائنا الأفاضل، وهو صريح كتاب الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ألا توجد هذه العمارات أو المنارات أو الشعائر -شعائر الضلال والفجور والمعصية- ولا يجوز أن تبقى في هذا البلد الحرام، في أي مكان، وفي أي زمان، فعندما يجد الحاج أو المعتمر أو المقيم أن هذه الأجهزة أو المؤسسات الربوية قائمة في هذا البلد ثم يسكت، فالذي يحدث -كما ترون- أن الناس يألفون هذا المنكر ويصبح لديهم أمراً مألوفاً، ثم بعد ذلك يصبح الإنكار على من أنكره، وهذا بلا شك من عدم تعظيم شعائر الله.
وفي الجاهلية -كما تعلمون- كانوا يستحلون المحارم ومنها الربا، ولم يكن العرب-أقول هذا بكل أسف- يعلنون الربا بمثل هذا الإعلان، وبمثل هذا الشكل الصريح الذي يفعله الإنسان في هذا العصر حول بيت الله الحرام، نسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يرفع هذا البلاء عن المسلمين إنه سميعٌ مجيب.
ويلحق بذلك مما يتنافى مع تعظيم شعائر الله ما يجده القادم إلى هذا البلد أو المقيم فيه من انتشار أماكن لبيع اللهو والفساد ومشجعات الرذيلة من محلات بيع الأفلام الخليعة الماجنة ومحلات الأغاني.
ويعجب الإنسان كيف توجد هذه الملاهي وهذه الدواعي إلى الرذيلة والدعارة والفساد في هذا البلد الحرام، وكيف استجاز أصحابها أن يفتحوها فيها، وكيف استجاز القائمون على الأمر أن يسكتوا عن وجود هذه الأمور.
والله إنها لمصيبة عظيمة أن يأتي الحاج من أقاصي الدنيا، وإذا به يجد الأفلام والأغاني التي يراها في أوروبا وأمريكا، تباع بجوار بيت الله الحرام، بل حتى في الأسواق، يعلقون تلك الملابس المتعرية الشفافة التي لمجرد رؤيتها تستثار الشهوة وتستحث الرذيلة- نسأل الله العفو والعافية- وكأنهم في مكان ما غير بلد الله الحرام، وكأن الأمر لا يهم هؤلاء الناس في شيء.
فهذه في الحقيقة من المنكرات الظاهرة العظيمة التي تتنافى مع تعظيم شعائر الله، وتعظيم هذا البلد الذي أمر الله تبارك وتعالى بتعظيمه.
ومن أكثر ما ينتشر في هذه البلدة الطاهرة -أيضاً- مما يجب أن ينبه عليه من المحرمات الأخرى: الغش في التجارة، الذي استغله كثيرٌ من الناس في المواسم، وفي أيام العطل أو غيرها مما يكثر فيه الناس؛ فيغشون في المعاملات، ويطففون في المكيال والميزان، ويخرجون ويبيعون ما قد انتهى تاريخه من البضائع ولا يتحرجون من ذلك، ويغشون في المساكن وفي أمور كثيرة جداً، ويقولون: هذا موسم! فيقال لهم: من أباح وأحل لكم -بما أنه موسم- أن تفعلوا هذا، وأن تنتهكوا شعائر الله التي أمر الله تبارك وتعالى بتعظيمها، وأن تقدموا على غش إخوانكم المسلمين الحجاج أو الزوار، أو من جاء لتعظيم شعائر الله؟! فأصبح المؤمن يجد الحرج الشديد والكرب العظيم في إنكار المنكرات؛ لأنها من كثرتها تستدعي جهوداً عظيمة وأجهزة متخصصة، وتعاوناً جدياً وثيقاً من طلبة العلم.