واعلم أنَّ هذين الأمرين أعني الشكر بالجَنَان واللسان يشملان كل نعمة. ونسبة النعم إليهما على حد سواء. وأمَّا الأفعال فالمُراد منها امتثال أوامر المنعِم واجتناب نواهيه. وهذا يخصّ كل نعمة بما يليقُ بها. فلكلِّ نعمة شكر يخصُّها. والضابط أن تستعمل نعم اللَّه تعالى في طاعته وتتوقَّى من الاستعانة بها على ،ص:17.
معصيته. فليس من شكر النعمة أن تهملها وتشكر على وجه غير الوجه الذي عليه بُنيت. فمن عَدَلَ عنها إلى نوعٍ آخر من الشكر فقد قصَّر، وترك الأهم. وإنَّما الرشيد من جمعَ بين الأمرين. فإن كان لا بدَّ من التفرقة فالأنسب استعمال كل نعمة فيما خلقت له، المثال على ذلك.
وهو يشمل الخليفة فمن دونه من السلطان ونوَّابه والقضاة وسائر أرباب الأمور. وسنخصّ لكل فرد منهم مثالًا.
إذا ولَّاك اللَّه تعالى أمرًا على الخلق فعليك البحث عن الرعيَّة، والعدلَ بينهم في القضية، والحكم فيهم بالسويّة، ومجانبة الهوى والميل، وعدم سماع بعضهم في بعض، إلَّا أن يأتي بحجة مبينة وعدم الركون إلى الأسبق. فإن وجدت نفسك تصغي إلى الأسبق وتميلُ إلى صدقه؛ فاعلم أنك ظالم للخلق، وأنَّ قلبك إلى الآن متقلّب مع الأغراض يُميله الهوى كيف شاء. وإن وجدت الأسبق والآخر سواء إلَّا من جاء بحق فأنت أنت. وقد اعتبرتُ كثيرًا من الأتراك فوجدتهم يميلون إلى أول شاكّ. وما ذاك إلَّا للغفلة المستولية على قلوبهم، التي ،ص:18.
صيّرت قلوبهم كالأرض الترابية التي لم تروَ بالماء فإذا أتاها ماء رويت: سواء أكان ذلك الماء صافيًا أم كدرًا زُلالًا باردًا أم كدِرًا حارًّا. ثم إذا رويت، وجاء ماء آخر صافٍ حسن لم تشربه، وصار مائعًا عليها. فهذه هي القلوب الغافلة عن الحقّ نسأل اللَّه السلامة. فعليك شكر نعمة الولاية بما ذكرناه وأن تعرف أنك أنت والرعيّة سواء لم تتميز عنهم بنفسك، بل بفعل اللَّه تعالى الذي لو شاءَ لأعطاهم ومنعك فإذا كان قد أعطاك الولاية عليهم ومنعهم فما ينبغي أن تتمرّد وتستعين بنعمته على معصيته وأذاهم، بل لا أقلّ من أن تتجنب أذاهم وتكفّ عنهم شرّك وتجانب الهوى والميل والغرض بنعمة الولاية لا تطلب منك غير ذلك. ولو أنك تركت الناس هملًا يأكل بعضهم بعضًا وجلست في دارك تصلّي وتبكي على ذنوبك لكنت مسيئًا على ربك. فملِكك لم يطلب منك أن تتهجد بالليل ولا أن تصوم الدهر وإنَّما يطلب منك ما ذكرناه. فإن ضممت إليه أعمالًا أخر صالحة كان ذلك نورًا على نور، وإلَّا فهذا هو شكر نعمة الولاية التي بها تدوم. ولعلَّك تقول: فإن قمت بحقوق الرعية مع التقصير في حق اللَّه تعالى هل أنا محمود؟ فاعلم أنك محمود من تلك الجهة، مذموم من هذه الجهة، وتيقَّظ لأمر عظيم نُنبهك عليه. وهو أن مَن هذا شأنه يخشى عليه إن هو زاد من التقصير في جانب اللَّه تعالى أن يُظلم قلبُه ظلامًا يورث الطَبْعَ (١) على قلبه، وينشأ عنه التقصير في تلك الجهة الأخرى، فيصير مذمومًا في الجهتين. فلا يخطر لك أنَّه يمكن اجتماع التقصير في حق اللَّه تعالى من كل وجه، والقيام بحق العباد من كل وجه، بل هذا مستحيل عادة؛ فقد جرت عادة اللَّه سبحانه وتعالى بأن من أهمل جانبه من كل وجه سُلِّط عليه الشيطان فاستولاه واستزلَّه وصيَّره يضيع جانب العباد أيضًا. ومن رشيق عبارات الشافعي رضي اللَّه تعالى عنه؛ وقد ذكر أنَّ الرشد صلاح الدين والمال معًا: من ضيَّع حق اللَّه تعالى فهو لما سواه أضْيَع. فعليك أن تتعهد نفسك بالعبادة ومراقبة الحق. وليس مقصدنا الآن البحث عن هذا؛ إنَّما الذي عقدنا له
(١) الطبع على الشيء: الختم عليه حتى لا ينفذ شيء إلى باطنه، وطبع اللَّه على القلب مجاز عن ألَّا يصل إلى القلب شيء من الهدى ونور الإِيمان. ويصح أن يقرأ: الطبع بالتحريك وهو الصدأ أو الدنس.ص:19.
الفصل أن ذا النعمة يجب عليه اعتقاد أنها من اللَّه تعالى، وحمد اللَّه عليها والوفاء بحقها. وقد جمع الشاعر هذه الأمور في قوله:
أفادتكم النعماءُ مني ثلاثة ... يدي ولساني والضميرُ المحجبا
والشاعر وإن لم يقل: إن هذا شكر فقد جمع أصنافه. وقد بيَّنا لك أن مجموعها الشكر. ومن كلامهم: الشكر ثلاث منازل: ضمير القلب، وثناء اللسان، والمكافأة بالفعل. والتعبير بالمكافأة عندي غير سديد؛ فإن أحدًا لا يقدر على مكافأة المنعم بالحقيقة. وإنَّما المعنيّ به استعمال الجوارح بقدر الاستطاعة في التكاليف حسبما شرحناه.
المثال الرابع
إذا كنت مقبول الكلمة عند ولي الأمر فالمطلوب منك أن تنصحه، وتنهى إليه ما يصحّ ويثبت عندك من حال الرعايا، وتساعد عنده على الحقّ بما تصل إليه قدرتك. ولا يكن حظّك منه الاقتصار على حُطَام تجمعه لنفسك أو دنيا تضمها إليك؛ فإن ذلك سبب زواله عنك بل المقتضى لدوام ما عندك منه ما ذكرناه من النصيحة والمساعدة في الحق؛ لتدوم لك نعمتُه التي هي سبب نعمتك، ومودَّته التي بها وَصَلت إلى ما وصلت، وليدوم لك منه ما أسده إليك. وما أحمق من كانت له كلمة نافذة عند وليّ أمر فوجد مظلومًا يستغيث فقام يصلِّي شكرًا للَّه تعالى على أن جعله ذا كلمة نافذة عند ولي الأمر، وترك المظلوم يتخبطه الظلم ولا يجد منجدًا، وهو قادر على إنجاده. فذاك الذي صلاته وبال عليه؛ كما قال الفقهاء فيمن كان يصلِّي فمرَّ به غريق تتلاطمه أمواج البحر، وهو قادر على إنقاذه، فإنه يجب عليه قطع الصلاة وإنقاذه. وذاك وهذا سِيّان.
واعلم أنَّ هذين المثالين أعني الثالث والرابع يشملان كل وليّ أمر، وكل مقبول الكلمة عند وليّ أمر: صغير أو كبير. ونحن نرى أن نحضَّ غالب الناس بأمثلة تستوعب معظم الوظائف التي استقرَّت عليها قواعد المسلمين في هذا الزمان، ونذكر ممَّا يطالب به صاحب تلك الوظائف يوم القيامة، ويخشى عليه في الدنيا والدين سوء العاقبة بسبب التفريط فيه، ما يكون موقظًا له من سِنَّة الغفلة.