لأبي الأعلى المودودي - رحمه الله تعالى - كلام نافع، في أن تغريب المصطلحات أوجد انفصاماً بين المسلمين وبين الاستفادة من كتب سلفهم، أنقله بنصه، مع ما أضفته إليه في كتاب ((المواضعة)) في المبحث الرابع عشر: العدوان على مصطلحات الشريعة. وهذا نصه:
((المبحث الرابع عشر: في العدوان على مصطلحات الشريعة:
إن حفاوة الأُمة والتزامها بمصطلحاتها عنوان لعزتها، ومفتاح لاستقلالها، وأداة بناءة في سبيل وحدتها وأصالتها، وحصانة لكيانها تقاوم عوامل الانحلال، والتفكيك، والتحدَّي لكل وافد عليها في هذا المجال؛ من هجنة في اللسان، وإبعاد في المعاني، ومنابذة لشريعة الإسلام.
وقد تكرر في التاريخ أكثر من مرة: أن الأُمة إذا ضعفت ودب فيها الوهن انطوت تحت سلطان الغالب ودانت له بالتبعية الماسخة منصهرة في قالبه وعاداته ابتغاء مرضاته، وهكذا قُلْ: في أُمتنا اليوم فإنها لاستقبال كل وافد أجنبي عنها أسرع إليه من قالة السوء إلى أهلها، بل تبدي التباهي وإظهار الفخار، وأن هذا من علائم التقدم والرقي؟! ومن أسوأ مظاهر التبعيات الماسخة في جو تلكم الأهواء الهادرة منابذة مصطلحات الشريعة، والإجهاز عليها بمصطلحات دخيلة مرفوضة لغة وشرعاً، وحساً، ومعنى.
وما علم المتهافتون عليها أن وأد مصطلحاتهم أقبح من وأد أمتعتهم وأموالهم. ولكن:
وإذا الفساد عرا المزاج فإنه يجد الدواء لديه عين الداء
وما ابتليت الأُمة بشيء مثل ابتلائها بإهدار لغتها والزوال عن سننها والحيدة عن معانيها وفي مقدمتها مواضعاتها الشرعية، فاستبعدت أسماء الشريعة المطهرة، الواردة في التنزيل وسنة النبي الكريم وعلى لسان صدور الأُمة من الصحابة فمن بعدهم من أساطين لعلماء ونجوم الهدى، واستبدل بكل هذا لغة القانون المختلق المصنوع، وهي لغة إلي اللغو أقرب، بل يقصر عن وصف قصورها، وعجمتها، وسماجتها يراع كل بليغ.
فبالله كيف تحولت تلك العقول من رفيع العزة والمكانة إلى حضيض الذلة والمهانة:
أخذت بالحجة رأساً أزعرا وبالثنايا الواضحات الدردرا
وقد أضحى من سوالب هذا العدوان غربة مصطلحات الشريعة في ديار الإسلام، واستحكام الانفصام بين المسلم وتراثه الأثيل.
يقول أبو الأعلى المودودي في كتابه: تدوين الدستور الإسلامي ص/ ٩- ١٠ في بيان أن غرابة المصطلحات الشرعية على أهل هذا العصر تُكوِّن عائقاً دون التدوين، فقال تحت عنوان:
غرابة المصطلحات:(المشكلة الأُولى جاءت من جهة اللغة، وبيان ذلك: أن الناس عامةً في هذا الزمان، قليلاً ما يتفطنون لما ورد في القرآن وفي كتب الحديث والفقه من المصطلحات عن الأحكام، والمبادئ الدستورية، ذلك بأن نظام الإسلام السياسي قد تعطل فينا منذ أمدٍ غير يسير، فلا يكاد اليوم يسمع بتلك المصطلحات في القرآن الكريم، كثير من الكلمات نقرؤها كل يوم ولكن لا نكاد نعرف أنها من المصطلحات الدستورية، كالسلطان، والملك، والحكم، والأمر، والولاية، فلا يدرك مغزى هذه الكلمات الدستوري الصحيح إلا قليل من الناس؛ ومن ثم نرى كثيراً من الرجال المثقفين يقضون عجباً ويسألوننا في حيرة إذا ذكرنا لهم الأحكام الدستورية في القرآن: أو في القرآن آية تتعلق بالدستور؟ والواقع أنه لا داعي إلى العجب لحيرة مثل هؤلاء الأفراد، فإن القرآن ما نزلت فيه سورة سميت بالدستور ولا نزلت فيه آية بمصطلحات القرن العشرين) اهـ.
هذا في خصوص مصطلحات الشريعة في جانب واحد من جوانبها وأما العدوان على جوانبها الأُخرى خاصة في القضاء والإثبات، وعلى المواضعات اللغوية، وفي أسماء العلوم والفنون الأُخرى والصناعات، وأنواع التجارات ... فتضيق عليها دائرة الحصر، وتنتهي دونها أرقام الحاسبين.