الراحة:

الراحة:

اللفظ / العبارة' الراحة:
متعلق اللفظ مسألة فقهية / عقدية
الحكم الشرعي حرام
القسم المناهي اللفظية
Content

تسمية الخمرة بها، واستحلالها بهذا الاسم: منكر، وزور، لا يغير من حرمة الخمر شيئاً، وهذه التسمية إثم مضاف إلى إثم شربها، ولابن القيم - رحمه الله تعالى- مبحث حافل في إظهار المحرمات بأسماء ظاهرها السلامة، قلباً للحقائق، وتلبيساً على الناس، هذا نصه:

((ويا لله العجب! كيف تزول مفسدةُ التحليل الذي أشار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بلعن فاعله مرة بعد أخرى بتسبيق شرط وتقديمه على صُلب العقد، وخلا صلب العقد من لفظه، وقد وقع التواطؤ والتوافق عليه؟ وأي غرض للشارع، وأي حكمة في تقديم الشرط وتسبيقه حتى تزول به اللعنة وتنقلب به خمرة هذا العقد خلاًّ؟ وهل كان عقد التحليل مسْخوطاً لله ورسوله لحقيقته ومعناه، أم لعدم مقارنة الشرط له، وحصول صورة نكاح الرغبة مع القطع بانتفاء حقيقته، وحصول حقيقة نكاح التحليل؟

وهكذا الحيل الربوية، فإن الربا لم يكن حراماً لصورته ولفظه، وإنما كان حراماً لحقيقته التي امتاز بها عن حقيقة البيع، فتلك الحقيقة حيثُ وجدت وُجد التحريم في أي صورة ركِّبت، وبأي لفظ عبر عنها، فليس الشأن في الأسماء، وصور العقود، وإنما الشأن في حقائقها، ومقصدها وما عقدت له.

الوجه الثاني: أن اليهود لم ينتفعوا بعين الشّحْم، وإنما انتفعوا بثمنه، ويلزم من راعى الصور والظواهر والألفاظ دون الحقائق والمقاصد أن لا يحرم ذلك، فلما لِعنوا على استحلال الثمن - وإن لم ينص لهم على تحريمه - علُم أن الواجب النظر إلى الحقيقة والمقصود، لا إلى مجرد الصورة، ونظير هذا أن يُقال لرجل: لا تقرب مال اليتيم، فيبيعه، ويأخذ عِوضه، ويقول: لم أقرب ماله، وكمن يقول لرجل: لا تشرب من هذا النهر، فيأخذ بيديه ويشرب بكفيه ويقول: لم أشرب منه، وبمنزلة من يقول: لا تضرب زيداً فيضربه فوق ثيابه ويقول: إنما ضربت ثيابه، وبمنزلة من يقول: لا تأكل من مال هذا الرجل فإنه حرام، فيشتري به سلعة ولا يعينه ثم ينقده للبائع ويقول: لم آكل ماله، إنَّما أكلت ما اشتريته، وقد ملكت ظاهراً وباطناً، وأمثال هذه الأمور التي لو استعملها الطيب في معالجة المرضى لزاد مرضهم، ولو استعملها المريض لكان مرتكباً لنفس 

ما نهاه عنه الطبيب، كمن يقول له الطبيب: لا تأكل اللحم فإنه يزيد في مواد المرض، فيدقه ويعمل منه هريسة ويقول: لم آكل اللحم، وهذا المثال مطابق لعامة الحيل الباطلة في الدين.

ويا لله العجب! أي فرق بين بيع مائة بمائة وعشرين درهماً صريحاً وبين إدخال سلعة لم تقصد أصلاً بل دخولها كخروجها؟ ولهذا لا يسأل العاقد عن جنسها ولا صفتها ولا قيمتها ولا عيب فيما ولا يبالي بذلك البتة حتى لو كانت خرقة مقطعة أو أذن شاة أو عوداً من حطب أدخلوه محللاً للربا، ولما تفطن المحتالون أن هذه السلعة لا اعتبار بها في نفس الأمر، وأنها ليست مقصودة بوجه وأن دخولها كخروجها؛ تهاونوا بها، ولم يبالوا بكونها مما يتمول عادة أو لا يتمول، ولم يُبال بعضهم بكونها مملوكه للبائع أو غير مملوكه، بل لم يبال بعضهم بكونها مما يباع أو مما لا يباع كالمسجد والمنارة والقلعة، وكل هذا وقع من أرباب الحيل، وهذا لما علموا أن المشتري لا غرض له في السلعة فقالوا: أي سلعة اتفق حضورها حصل بها التحليل، كأي تيس اتفق في باب محلل النكاح.

وما مثلُ من وقف مع الظواهر والألفاظ ولم يراعِ المقاصد والمعاني إلا كمثل رجل قيل له: لا تسلم على صاحب بدْعةٍ، فقبَّل يده ورجله ولم يسلم عليه، أو قيل له: اذهب فاملأ هذه الجرة، فذهب فملأها، ثم تركها على الحوض وقال: لم تقل: ايتني بها وكمن قال لوكيله: بع هذه السلعة، فباعها بدرهم وهي تساوي مائة، ويلزم منْ وقف مع الظواهر أن يصحح هذا البيع، ويُلْزم به الموكل، وإن نظر إلى المقاصد تناقض؛ حيث ألقاها في غير موضع، وكمن أعطاه رجل ثوباً فقال: والله لا ألبسه لما له فيه من المنة، فباعه وأعطاه ثمنه فقبله، وكمن قال: والله لا أشرب هذا الشراب، فجعله عقيداً أو ثرد فيه خبزاً وأكله، ويلزم من وقف مع الظواهر والألفاظ أن لا يحد منْ فعل ذلك بالخمر. وقد أشار النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى أن من الأُمة منْ يتناول المحرم ويسميه بغير اسمه فقال: ((ليشْربنَّ ناس من أُمتي الخمر يسمونها بغير اسمها، يُعْزفُ على رؤوسهم بالمعازف والمغنيات، يخسف الله بهم الأرض، ويجعل منهم القردة والخنازير)) . رواه أحمد وأبو داود.

وفي مسند الإمام أحمد مرفوعاً: ((يشرب ناس من أُمتي الخمر يسمونها بغير اسمها)) .

وفيه عن عُبادة بن الصامت عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((يشرب ناس من أُمتي الخمر باسم يسمونها إياه)) .

وفي سنن ابن ماجه من حديث أبي أُمامة يرفعه: ((لا تذهب الليالي والأيام حتى تشرب طائفة من أُمتي الخمر يسمونها بغير اسمها)) .

قال شيخنا - رضي الله عنه -: وقد جاء حديث آخر يوافق هذا مرفوعاً وموقوفاً من حديث ابن عباس: ((يأتي على الناس زمان يستحل فيه خمسة أشياء: يستحلون الخمر باسم يسمونها إيَّاه، والسُّحْت بالهدية، والقتل بالرهبة والزنا بالنكاح، والربا بالبيع)) . وهذا حق؛ فإن استحلال الربا باسم البيع ظاهر كالحيل الربوية التي صورتها صورة البيع وحقيقتها حقيقة الربا، ومعلوم أن الربا إنما حرم لحقيقته ومفسدته، لا لصورته واسمه، فهبْ أن المرابي لم يسمِّه رباً وسماه بيعاً، فذلك لا يخرج حقيقته وماهيته عن نفسها.

وأما استحلال الخمر باسم آخر فكما استحلَّ من استحل المسكر من غير عصير العنب وقال: لا أُسميه: خمراً وإنما هو نبيذ، وكما يستحلها طائفة من المُجَّان إذا مزجت ويقولون: خرجت عن اسم الخمر، كما يخرج الماء بمخالطة غيره له عن اسم الماء المطلق، وكما يستحلها منْ يستحلها إذا اتخذت عقِيداً، ويقول: هذه عقيد لا خمر، ومعلوم أن التحريم تابع للحقيقة والمفسدة لا للاسم والصورة؛ فإن إيقاع العداوة والبغضاء والصدِّ عن ذكر الله وعن الصلاة لا تزال بتبديل الأسماء والصور عن ذلك، وهل هذا إلا من 



سوء الفهم وعدم الفقه عن الله ورسوله؟

وأما استحلال السحت باسم الهدية - وهو أظهر من أن يذكر - كرشوة الحاكم والوالي وغيرهما، فإن المرتشي ملعون هو والراشي؛ لما في ذلك من المفسدة، ومعلوم قطعاً أنهما لا يخرجان عن الحقيقة وحقيقة الرشوة بمجرد اسم الهدية، وقد علمنا وعلم الله وملائكته ومن له اطلاع على الحيل أنها رِشْوة وأما استحلال القتل باسم الإرهاب الذي تسميه وُلاة الجور سياسة رهيبة وناموساً وحرمة للملك؛ فهو أظهر من أن يذكر.

وأما استحلال الزنا باسم النكاح فهو الزنا بالمرأة التي لا غرض له أن يقيم معها ولا أن تكون زوجته، وإنما غرضه أن يقضي منها وطره أو يأخذ جُعْلاً على الفساد بها ويتوصل إلى ذلك باسم النكاح وإظهار صورته، وقد علم الله ورسوله والملائكة والزوج والمرأة أنه محلل لا ناكح، وأنه ليس بزوج، وإنما هو تيس مستعار للضِّراب بمنزلة حمار العشريين.

فيا الله العجب! أي فرق في نفس الأمر بين الزنا وبين هذا؟ نعم هذا زنا بشهود من البشر وذلك زنا بشهود من الكرام الكاتبين كما صرح به أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقالوا: لا يزالان زانيين وإن مكثا عشرين سنة إذ علم الله أنه إنما يريد أن يحللها. والمقصود أن هذا المحلل إذا قيل له: هذا زنا، قال: ليس بزنا بل نكاح، كما أن المرابي إذا قيل له: هذا رباً، قال: بل هو بيْع.

وكذلك كل من استحل محرماً بتغيير اسمه وصورته كمن يستحل الحشيشة باسم لقيمة الراحة، ويستحل المعازف كالطُنْبُور والعود والبرْبط باسم يسميها به، وكما يسمي بعضهم المغني بالحادي والمطرب والقوال، وكما يسمي الدَّيُّوث بالمصلح والموفق والمحسن، ورأيت من يسجد لغير الله من الأحياء والأموات، ويسمي ذلك: وضع الرأس للشيخ، قال: ولا أقول: هذا سجود، وهكذا الحيل سواء؛ فإن أصحابها يعمدون إلى الأحكام فيعلِّقونها بمجرد اللفظ، ويزعمون أن الذي يستحلونه ليس بداخل في لفظ الشيء المحرم، مع القطع بأن معناه معنى الشيء المحرم، فإن الرجل إذا قال لمن له عليه ألف: أجعلها ألفاً ومائة إلى سنة بإدخال هذه الخرقة وإخراجها صورةً لا معنى، لم يكن فرق بين توسطها وعدمه، وكذلك إذا قال: مكنيني من نفسك أقْضِ منك وطراً يوماً أو ساعة بكذا وكذا، لم يكن فرق بين إدخال شاهدين في هذا أو عدم إدخالهما وقد تواطئا على قضاء وطر ساعة من زمان.

ولو أوْجب تبديلُ الأسماء والصور تبدل الأحكام والحقائق لفسدت الديانات، وبدلت الشرائع، واضمحل الإسلام.

معجم المناهي اللفظية ،ص: 265إلى 269.

(٢) (الراحة: إعلام الموقعين: ٣/١٢٧ - ١٣٠. وانظر في حرف العين: عقيدة. وفي حرف اللام: لقيمة الذكر. وفي حرف الميم: المعاملة.

Loading...