ولعلَّ مستنَدَ هذا القول هو ما يتداوله العوامُّ، مِن أن رجلًا كان يَتعبَّد في المسجد ليلَ نهارٍ، وله أخٌ يُنفِقُ عليه، فرآه النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، فقال له:"مَن يُنفِق عليك؟ "، قالَ:"أخي"، قال:"أخوك أَعبَدُ منك".
وهذا باطلٌ، لا أصل له في شيءٍ مِن كُتب السُّنَّة المعتبَرة.
بل يُبطِله ما: أخرجه التِّرمذيُّ (٢٣٤٥)، والحاكمُ (١٠/ ٩٣ - ٩٤)، والسَّهميُّ في "تاريخ جُرجَان"(٥٤٢)، وابنُ عبدِ البَرِّ في "جامع العلم"(١/ ٥٩) من طريقِ حمَّاد بن سَلَمة، عن ثابتٍ، عن أنسٍ، قال: كان أَخَوان على عهد النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فكان أحدُهما يأتِي النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، والآخَر يحتَرِفُ - يَعنِي: يَعملُ -، فشكَى المحترفُ أخاه إلى النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فقال له:"لعلَّك تُرزَقُ به".
قال التِّرمذيُّ:"حسنٌ صحيحُ".
وقال الحاكمُ:"صحيحٌ على شرط مُسلِم، ورواتُهُ عن آخرِهِم أثباتٌ ثقاتٌ"، ووافقَهُ الذَّهبيُّ، وهو كما قالوا.
وليس في هذا الحديث أيضًا ما يتَّكئُ عليه العاطلون، فقد تتابعت الأحاديث في الحضِّ على العمل، والنَّهيِ عن السُّؤال.
وبيانُ عدم التَّعارض بين الأحاديث يحتاجُ إلى مَقامٍ آخرَ.ص:23.
وأخرجَ البُخاريُّ في "التاريخ الكبير"(٤/ ١/ ١٨١)، ويعقوبُ بن سفيانَ في "المعرفة"(١/ ٣١١)، والطَّبرانيُّ في "الكبير" (ج ١٩/ رقم ٦٣، وأبو نُعيمٍ في "الحلية"(٣/ ١٢٥)، والبيهقيُّ (١٠/ ١٩٤ - ١٩٥) من طريق بكر بن بشرٍ العسقلانيِّ، ثنا عبدُ الحميد بنُ سَوَّارٍ، عن إياسِ بن مُعاوية، عن أبيه، عن جَدِّه، وساق حديثًا، فيه:"والعمل من الإيمان".
لكنَّه ضعيفٌ؛ بكرُ بنُ بشر مجهولٍ كما قال الذَّهبيُّ في "الميزان".
وعبدُ الحميد بنُ سَوَّارٍ ضعيفٌ، وبه أعلَّه الهيثميُّ في "المجمَع"(٨/ ٢٧).
ولو صحَّ، لم يكُن فيه دليلٌ للحديث المسئول عنه؛ لأنَّ المقصودَ منه أن الأعمال الَّتي هي كالصَّلاة والزَّكاةِ وغيرِها مِن تمامِ الإيمانِ. وفيه ردٌّ علَى المُرجئةِ، الَّذين لا يَعتبِرون الأعمالَ داخلةً في الإيمانِ.
(وهناك تنبيه)
وهو أن المُسلمَ لو عَمِلَ أيَّ عملٍ مُباحٍ، واقترَنَت به نيَّةُ الزُّلفَى إلى الله تعالَى، فإنَّهُ يَدخل في جنس العبادة، فلو ذهب لِعَمَله وفي نيَّته أنَّهُ يَستعِفُّ به، ويُؤدِّي ما أوجبه اللهُ عليه مِنَ النَّفقة على زوجته وأولاده، كان بذلك عابدًا لله؛ لأنَّهُ لو قَصَّر في ذلك حتَّى ضيَّعَهُم، أَثِمَ به، وقد صحَّ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، أنَّهُ قال:"كفى بالمرء إثمًا أن يَحبِس عمَّن يملِكُ قوتَهُ"، أخرجهُ مُسلمٌ وغيرُهُ.