يرويه الوليدُ بنُ مُسلِمٍ، قال: ثنا ابنُ جُريجٍ، عن عطاءٍ، وعِكرمةَ، عن ابن عبَّاسٍ، أنَّه قال: بينما نَحنُ عِندَ رسُولِ الله -صلى الله عليه وسلم-، إذْ جاءَهُ عليُّ بن أبي طالِبٍ، فقال:"بِأَبِي أنتَ وأُمِّي! تَفَلَّت هذا القُرآنُ مِن صَدري، فما أَجِدُنِي أَقدِرُ عَلَيه"، فقال رسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "يا أبا الحَسَن! أَفَلَا أُعلِّمُك كَلِماتٍ، يَنفَعُك اللهُ بِهِنَّ، ويَنفَعُ بهنَّ مَن علَّمْتَه، ويُثبِّتُ ما تَعَلَّمتَ في صَدرِك؟ "، قال:"أَجَل، يا رسُولَ الله! فعلِّمْنِي"، قال:"إذَا كانَ ليلةُ الجُمُعةِ، فإن استطَعتَ أَن تَقُومَ في ثُلُث اللَّيل الآخِرِ؛ فإنَّها سَاعَةٌ مَشهُودةٌ، والدُّعاء فِيهَا مُستَجَابٌ، وقد قال أَخِي يعقُوبُ لبَنِيهِ:{سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي}[يوسف: ٩٨]، يقُولُ: حتَّى تَأتِي لَيلةُ الجُمُعة، فإن لم تَستَطِع فقُم فِي وَسَطِها، فإن لم تَستَطِع فقُم في أوَّلها. فَصَلِّ أربعَ رَكْعاتٍ، تَقرَأُ في الرَّكعة الأُولَى بـ "فاتِحَةِ الكِتابِ" وسُورَةِ "يس"، وفي الرَّكعة الثَّانيَة بـ "فاتِحَةِ الكِتاب" وبـ "حم الدُّخَان"، وفي الرَّكعة الثَّالِثَة بـ "فاتِحَةِ الكتاب" و "آلم * تَنزِيلُ السَّجدة"، وفي الرَّكعَة الرَّابِعةِ بـ "فاتِحَةِ الكتاب" و "تَبارَكَ المفصَّل". فإذا فَرَغتَ من التَّشهُّد، فاحمَدِ اللهَ، وأَحسِن الثَّنَاءَ على الله، وصَلِّ عليَّ وأَحسِن، وعَلَى سائِرِ النَّبِيِّين، واستَغفِر للمُؤمِنِين والمُؤمِنَات، ولإخَوانِك الذين سَبَقوك بالإِيمانِ، ثُمَّ ،ص:133.
قُل في آخِرِ ذلِك: اللَّهُمَّ! ارحَمنِي بِتَركِ المَعَاصِي أبدًا ما أَبقَيتَنِي، وارحَمنِي أن أَتكلَّف ما لا يَعنِينِي، وارزُقنِي حُسنَ النَّظَر فيما يُرضِيك عَنِّي، اللَّهُمَّ! بَدِيعَ السَّمَاوات والأَرضِ، ذَا الجَلال والإِكرام، والعِزَّةِ التي لا تُرَامُ، أَسأَلُكَ يا اللهُ! يا رَحمَنُ! بجَلَالِكَ ونُورِ وَجهِك، أن تُلزِمَ قَلبِي حِفظَ كِتابِك كما عَلَّمتَنِي، وارزُقنِي أن أَتلُوَهُ على النَّحو الذي يُرضِيكَ عَنِّي، اللَّهُمَّ! بدِيعَ السَّمَاوات والأَرضِ، ذَا الجَلالِ والإِكرَام، والعِزَّةِ التي لا تُرَامُ، أسألُكَ يا اللهُ! يا رَحمَنُ! بجَلالِكَ ونُورِ وَجهِك، أن تُنَوِّر بِكِتَابِك بَصَرِي، وأن تُطلِقَ بِهِ لِسَانِي، وأن تُفَرِّج به عن قَلبِي، وأن تَشرَحَ به صَدرِي، وأن تَغسِلَ به بَدَنِي؛ فإِنَّه لا يُعِينُنِي على الحَقِّ غيرُك، ولا يُؤتِيهِ إلَّا أَنتَ، ولا حَولَ ولا قُوَّةَ إِلَّا بالله العِليِّ العَظيمِ. يا أبا الحَسَن! فَافعَل ذلك ثَلَاث جُمَعٍ، أو خَمسًا، أو سَبعًا تُجَبْ بإِذن الله، والذي بَعَثَنِي بالحَقِّ! ما أَخطأَ مُؤمِنًا قَطُّ"، -قال عبدُ الله بنُ عبَّاسٍ:- فوالله! ما لَبِث عليٌّ إلَّا خَمسًا، أو سَبعًا، حتَّى جَاءَ عليٌّ رسُولَ الله -صلى الله عليه وسلم- في مِثلِ ذلك المَجلِسِ، فقال: "يا رَسُولَ الله! إنِّي كُنتُ فيما خَلَا لا آخُذ إلَّا أربعَ آياتٍ، أو نَحوَهُن، وإذا قَرأتُهُنَّ على نَفسِي تَفَلَّتنَ، وأنا أَتَعَلَّمُ اليومَ أربَعِين آيةً وَنَحوَها، وإذا قَرأتُها على نَفسِي فكأنَّما كِتابُ الله بَين عَينَيَّ، ولقد كُنتُ أَسمَعُ الحديثَ، فإذا رَدَّدتُهُ تَفَلَّت، وأنا اليَومَ أَسمَعُ الأحاديثَ، فإذا تَحَدَّثتُ بها لم أَخرِم مِنهَا حَرفًا"، فقال له رسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم- عِند ذلك: "مُؤمِنٌ، ورَبِّ الكَعبةِ! يا أبا الحَسَن! ".
أخرَجَهُ التِّرمِذِيُّ (٣٥٧٠)، قال: حدَّثَنا أَحمَدُ بن الحَسَن ..
وابنُ أبي عاصِمٍ في "الدُّعَاء" -كما في "النُّكَت الظِّراف" (٥/ ٩١) -،ص:134.
ومِن طَرِيقِه الشَّجَرِيِّ في "الأَمَالِي"(١/ ١١٣ - ١١٤) قال: حدَّثَنا مُحمَّد ابن الحُسَين الرَّازِيُّ -وكان صَدُوقًا- ..
وعُثمانُ بنُ سَعيدٍ الدَّارِمِيُّ -كما في "النُّكُت"(٥/ ٩١) -، ومِن طَرِيقِهِ الحَاكِمُ (١/ ٣١٦ - ٣١٧)، والأَصبَهَانِيُّ في "التَّرغِيبِ"(١٢٧٠) عن عُثمانَ بنِ سعيدٍ الدَّارِمِيِّ ..
والحاكمُ أيضًا، وابنُ مَردَوَيهِ -كما في "النُّكَت"(٥/ ٩١) -، والبَيهَقِيُّ في "الصِّفات"(٦٧٣) عن أبي عبدِ الله البُوْشنْجِيِّ مُحمَّد بن إبراهيمَ العَبْدِيِّ ..
قالوا: ثنا سُليمانُ بنُ عبد الرَّحمن، قال: حدَّثَنا الوَلِيدُ بنُ مُسلِمٍ، قال: حدَّثَنا ابنُ جُرَيجٍ بهذا.
قال التِّرمِذِيُّ:"هذا حَدِيثٌ حَسَنٌ غريبٌ. لا نَعرِفُهُ إلَّا مِن حديث الوليد بن مُسلِمٍ".
ووَقَعَ في "أطراف المِزِّيِّ" أنَّهُ قال: "حديثٌ غريبٌ". وهذا هو اللَّائِقُ بحال الحديث.
وتُوبع سُليمانُ بنُ عبد الرَّحمن ..
تابعه هِشامُ بنُ عَمَّارٍ، ثنا الوَلِيدُ بنُ مُسلِمٍ، عن ابنِ جُرَيجٍ، بهذا الإسناد بطُولِهِ.
أخرَجَهُ الدَّارَقُطنِيُّ في "الأَفراد"، ومن طريقه ابنُ الجَوزِيِّ في "الموضُوعَات"(٢ - ١٣٨ - ١٣٩) قال: حدَّثَنا مُحمَّد بنُ الحَسَن بنِ مُحمَّدٍ المُقرِئُ، قال: حدَّثَنا الفَضلُ بنُ مُحمَّدٍ العَطَّارُ، قال: حدَّثَنا هِشامُ بنُ عَمَّارٍ بهذا.
قال الدَّارَقُطنِيُّ:"تفرَّدَ به هِشامٌ، عن الوليدِ".ص:134.
كذا قال! ورِوَايَةُ التِّرمِذِيِّ ترُدُّ عليه.
• قلتُ: فقد رأيتَ -أَرَاكَ اللهُ الخَيرَ- أنَّهُ رواهُ عن الوَلِيدِ بنِ مُسلِمٍ اثنان:
* أوَّلُهما: سُليمانُ بنُ عبدِ الرَّحمن ابنُ بنتِ شُرَحبِيلَ، أحدُ الثِّقَات. والخَلَلُ في روايته يأتي من جِهَتَين:
الأُولَى: إذا رَوَى عن الضُّعَفَاء والمَجَاهِيل، وكان مِن أَروَى النَّاس عَنهُم، كما قال أبُو حَاتِمٍ. ومن كَثُر هذا مِنهُ دلَّ على قِلَّة تمَيِيزٍ، كما قال أبو حاتِمٍ:"وهو عِندِي في حدِّ لَو أَنَّ رجُلًا وَضَعَ له حدِيثًا لم يَفهَم، وكان لا يُميِّز".
الثَّانِيَةُ: قال يعقُوبُ بن سُفيانَ في "تاريخه"(٢/ ٤٠٦): "كان سُليمانُ صحيحَ الحديثِ، إلَّا أنَّهُ كان يُحوِّل، فإن وَقَعَ فيه شَيءٌ فَمِن التَّنَفُّل" انتهَى. وهذا أيضًا، مع أنَّهُ أَخَفُّ مِن قول أبي حاتِمٍ، إلَّا أنَّهُ يدُلُّ على عَجَلَةٍ، وقِلَّةِ مُبَالاةٍ. ولستُ أسعَى بهذا إلى تَضعِيفِهِ، إنَّما لِأُبيِّن كيف وَقَعَ له الوَهَمُ في هذا الحديثِ.
وقد عَلَّق الشَّيخُ العَلَّامةُ عبدُ الرَّحمن بنُ يَحيَى المُعَلِّمِيُّ على قَولِ يعقُوبَ ابنِ سُفيانَ، في حاشِيَتِهِ على "الفوائد المجمُوعَة"(ص ٤٣) للشَّوْكَانِيِّ، فقال:"يَعنِي: أنَّ أُصُولَ كُتُبِهِ كانت صَحِيحةً، ولكنَّهُ كان يَنتَقِي مِنها أحاديثَ يَكتُبُهَا في أَجزاءَ، ثُمَّ يُحدِّث عن تِلكَ الأَجزَاءِ، فقَد يَقَعُ له خَطأٌ عِند التَّحوِيلِ، فيَقَعُ في بعضِ الأَحَادِيث في الجُزءِ خَطَأٌ، فيُحدِّث بِهِ. وَأَحسبُ بَلِيَّةَ هذا الخَبَر مِن ذاك، كأَنَّهُ كان في أَصلِ سُليمانَ خبرًا آخرَ، فيه: "حدَّثَنا الوَلِيدُ، حدَّثنا ابنُ جُرَيجٍ"، وعِندَهُ هذا الخَبَرُ بسَنَدٍ آخرَ إلى ابن جُرَيجٍ،ص:135.
فانتَقَلَ نظَرُه عِند النَّقلِ مِن سَنَدِ الخَبَر الأَوَّل، إلى سَنَد الخبر الثَّانِي، فتَرَكَّبَ هذا الجُزءُ على ذاك السَّنَدِ، وكأنَّ هذا إنَّما اتَّفِق له أَخِيرًا، فلَم يَسمَع الحفاظُ الأَثبَاتُ كالبُخارِيِّ، وأبي زُرعَةَ، وأبي حاتِمٍ هذا الجُزءَ منه، ولو سَمِعَهُ أحدُهُم لنَبَّهَهُ، ليُراجِع الأصلَ" انتهَى.
وهذا الكَلَامُ النَّفِيسُ يؤَيِّدُه قولُ الذَّهَبِيِّ في "الميزان" (٢/ ٢١٤): "فلعَلَّ سُليمانَ شُبِّه له، وأُدخِلَ عليه، كما قال فيه أبو حاتِمٍ: لو أنَّ رجُلًا وَضَعَ لَهُ حديثًا لم يَفهَم" انتهَى.
• قلتُ: وكان سُليمانُ مِنَ الحُفَّاظ المَشهُورِين بِسِعَةِ مَروِيَّاتِهم، وقد قال الجُوْزْجَانِيُّ: "كُنَّا عند سُليمانَ بنِ عبدِ الرَّحمن، فلَمْ يَأذَن لنَا أيَّامًا، فلمَّا دَخَلنَا عليه، قال: بَلَغَنِي وُرُودُ هذا الغُلام الرَّازِيِّ -يعني: أبا زُرعَةَ-، فدَرَستُ لِلِقَائِهِ ثَلاثَمِئَةِ ألفَ حديثٍ"، وهذا العَدَدُ مع ضخَامَتِهِ، فليس كُلَّ مُحفُوظِهِ. فإذا كان مُكثِرًا هكذا، وهُو مع ذلك مِن أَروَى النَّاس عن الضُّعَفَاء والمَجَاهِيل، فدُخُولُ الخَلَل في رواياته مُتَحَقِّقٌ، لا مَحَالَةَ. أمَّا خَطَؤُهُ في نفسه فكما يُخطِئُ النَّاسُ، كما قال أبو داوُد.
* أمَّا رِوايَةُ هشام بن عمَّارٍ، فقد مَرَّ بنا أنَّ الفَضلَ بن مُحمَّدٍ العَطَّارَ رواها عن هشامٍ، عن الوَلِيدِ بن مُسلِمٍ، عن ابن جُرَيجٍ، عن عطاءٍ، وعِكرِمَةَ، عن ابن عبَّاسٍ.
وخالَفَهُ جماعَةٌ، فرَوَوهُ عن هشامِ بنِ عمَّارٍ، قال: ثنا مُحمَّدُ بنُ إبراهِيمَ القُرَشِيُّ، حدَّثَنِي أبو صالحٍ، وعِكرِمةُ، عن ابنِ عبَّاسٍ، قال: قال عليُّ ابنُ أيي طالبٍ: "يا رسُولَ الله! القُرآنُ يَنفَلِتُ مِن صَدرِي"، فقال النَّبيُّ،ص:136.
-صلى الله عليه وسلم-: "أُعَلِّمُكَ كَلِماتٍ، يَنفَعُك اللهُ بِهِنَّ، ويَنفَعُ مَن علَّمتَه؟ "، قال:"نَعَم! بأبي أنتَ وأُمِّي! "، قال:"صَلِّ ليلةَ الجُمُعةِ أَربَعَ رَكْعاتٍ، تَقرَأُ في الرَّكعة الأُولَى بـ "فاتِحَةِ الكتاب" و"يس"، وفي الثَّانيَة بـ "فاتِحَةِ الكتاب" و"حمَ الدُّخَان"، وفي الثَّالثة بـ "فاتِحَةِ الكتاب" و "آلم* تَنزيلُ السَّجدة"، وفي الرَّابعةِ بـ "فاتِحَةِ الكتاب" و "تَبَارَكَ المفصَّل". فإذا فرَغتَ مِن التَّشهُّدِ، فاحمدِ اللهَ، واثنِ عليه، وصَلِّ على النَّبِيِّين، واستَغفِر للمُؤمِنِين، ثُمَّ قُل: اللَّهُمَّ! ارحَمنِي بِتَركِ المَعَاصِي أبَدًا ما أَبقَيتَنِي، وارحَمنِي مِن أَن أَتَكَلَّف ما يَعنِينِي، وارزُقنِي حُسنَ النَّظَر فيما يُرضِيك عَنِّي، اللَّهُمَّ! بَدِيعَ السَّماوات والأرضِ، ذا الجَلالِ والإِكرامِ، والعِزَّة التي لا تُرَامُ، أسأَلُكَ يا اللهُ! يا رحمنُ! بجَلَالِك ونُورِ وَجهِك، أن تُلزِم قَلبِي حُبَّ كِتابِك كما علَّمتَنِي، وارزُقنِي أن أَتلُوَهُ على النَّحو الذي يُرضِيك عَنِّي، وأَسأَلُك أن تُنَوِّر بالكِتابِ بَصَرِي، وتُطلِقَ به لِسَانِي، وتُفَرِّجَ به عن قَلبِي، وتَشرَحَ به صَدرِي، وتَستَعملَ بِهِ بَدَنِي، وتُقَوِّينِي على ذَلِك، وتُعِينَنِي عليه؛ فإنَّهُ لا يُعِينُنِي على الخير غيرُك، ولا يُوفِّقُ له إلَّا أنتَ. فَافعَل ذلك ثلاثَ جُمَعٍ، أو خَمسًا، أو سَبعًا، تَحفَظُهُ بإذن الله، وما أَخطَأَ مُؤمنًا قَطُّ"، فأتَى النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- بعد ذلك بسَبعِ جُمَعِ، فأخبَرَهُ بِحِفظِهِ القُرآنَ والحديثَ، فقال النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "مُؤمِنٌ، وربًّ الكَعبَةِ! عَلِّم أبا حَسن، عَلِّم أبا حَسنٍ".
أخرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ في "الكبير"(ج ١١/ رقم ١٢٠٣٦)، وفي "الدُّعاء"(١٣٣٣) قال: حدَثَنا الحُسَين بن إسحاقَ التُّسْتَرِيُّ ..ص:138.
وابنُ السُّنِّيِّ في "اليوم واللَّيلة"(٥٧٩) قال: أخبَرَنَا عبدُ الله بن مُحمَّد ابن مُسلِمٍ، ومُحَمَّد بن خُرَيم بن مَروَانَ ..
والعُقَيليُّ في "الضُّعَفَاء"(٥١٢٢) قال: حدَّثَنا أحمدُ بنُ داوُد القُوْمَسِيُّ .. قالُوا: ثنا هشامُ بن عمَّارٍ بهذا.
ورِوايةُ الجَمَاعَةِ عن هِشامٍ أَولَى مِن رِوايَةِ الفَضلِ بن مُحمَّدٍ العَطَّارِ، لا سِيَّمَا وهذا اتَّهَمَهُ الدَّارَقُطنِيُّ بوَضعِ الحديثِ، وهو مِن مَشَايخ ابنِ عَدِيٍّ، وقد عَقَدَ له تَرجَمةً في "الكامل"(٦/ ٢٠٤٣)، قال فيها:"حدَّثَنا بأحَادِيثَ، لم نَكتُبهَا عن غَيرِه. ووَصَل أحاديثَ. وسَرَق أحاديثَ. وزَادَ في المُتُون".
فالغريبُ أن يُعَصِّب ابنُ الجَوزِيِّ جِنايَةَ هذا الإسنادِ بشَيخِ الدَّارَقُطنِيِّ وَحدِهِ -وهو الرَّاوِي عن الفَضلِ-، فقال في "الموضُوعَاتِ": "أنا لا أَتِّهِمُ به إلَّا النَّقَّاشَ شيخَ الدَّارَقُطنِيِّ؛ قال طلحةُ بنُ مُحمَّد بن جَعفَرٍ: كان النَّقَّاشُ يَكذِبُ، وقال البَرقَانِيُّ: كُلُّ حديثِهِ مُنكَرٌ، وقال الخطيب: أحاديثُهُ مَنَاكِيرُ بأسانيدَ مشهُورَةٍ" انتهَى.
فرَدَّ عليه الحافظُ ابنُ حَجَرٍ -كما في "اللَّآلئ المصنُوعَةِ"(٢/ ٦٧) - قائلًا:"هذا الكَلَامُ تَهَافُتٌ؛ والنَّقَّاشُ بريءٌ مِن عُهدَتِهِ؛ فإنَّ التِّرمِذِيَّ أخرَجَهُ في "جامِعِهِ"، مِن طريق الوَلِيدِ به" انتهَى.
• قلتُ: إنَّمَا تَبرَأُ عُهدَةُ النَّقَّاش إذا تابَعَهُ أحدٌ مُتابَعَةً تامَّةً. والصَّوَابُ في رواية هشَام بنِ عمَّارٍ، أنَّهُ يَروِيهِ عن مُحمَّد بن إبراهيمَ القُرَشِيِّ، عن أبي صَالِحٍ، وعِكرِمَةَ، عن ابن عبَّاسٍ.
وهذا الإسنادُ ضعِيفٌ جدًّا؛ ومُحمَّدُ بنُ إبراهيمَ هذا تَرجَمَهُ العُقَيليُّ في،ص:138.
مَوضِع الحديث، وقال:"مُحمَّدُ بنُ إبراهيمَ، عن أبي صالحٍ: مَجهُولان جَمِيعًا بالنَّقل. والحديثُ غيرُ محفُوظٍ"، ثُمَّ خَتَمَ التَّرجَمةَ بقوله:"ليس يَرجِعُ مِن هذا الحديثِ إلى صِحَّةٍ، وكِلَا الحديثَينِ ليس لَهُ أصلٌ، ولا يُتابَعُ عَلَيهِ".
• قلتُ: كذا ذَهَب العُقَيليُّ إلى أنَّ أبا صالحٍ هذا مجهولٌ، وخالَف في ذلك ابنُ الجَوزِيِّ، فقال في "الموضُوعات"(٢/ ٤٥٨ - الطَّبعة الجديدة) عقب الحديثِ: "وأبُو صالحٍ لا نعلمُهُ إلَّا إسحاقُ بن نَجِيحٍ، وهو مترُوكٌ"، وأقرَّهُ السِّيوطيُّ في "اللّآليء"(٢/ ٦٦)، وهو ليس عندي كما قال ابنُ الجَوزِيِّ -رحمه الله-، بل هو عندي أبُو صالحٍ مولَى أُمِّ هانئٍ، واسمهُ: باذَانُ، أو: باذَامُ؛ فقد ذَكَرُوا أنَّه يَروِي عن عِكرمَة، وهو أعلَى طبقَةً من إسحاقَ بنِ نَجِيحٍ المَلطِيِّ. فالصَّحيح عِندي أنَّهُ مولى أُمِّ هانئٍ، وهو ضعيفٌ جدًّا، وقلَّ مَن رَضِيهُ. واللهُ تعالى أعلَمُ.
ولمَّا صحَّحَه الحاكمُ على شرطِ الشَّيخينِ، تعقَّبَهُ الذَّهبيُّ بقوله:"هذا حديثٌ مُنكَرٌ شاذٌّ، أخافُ لا يكون مَوضُوعًا، فقد حيَّرَنِي والله جَودةُ إسنادِهِ! "، ثمَّ ذكر الذَّهبيُّ سند الحاكِم، وقال:"ذَكَره الوليدُ مُصرِّحًا بقوله: "ثنا ابنُ جُريجٍ"، فقد حدَّث به سُليمانُ قطعًا، وهو ثَبتٌ".
وقال الذَّهبيُّ في "الميزان"(٢/ ٢١٣ - ٢١٤)، في ترجمة:"سُليمانَ ابنِ عبد الرَّحمن"، وذَكَر هذا الحديثَ، قال:"وهُو مع نظافةِ سَنَدِه، حديثٌ مُنكَرٌ جدًّا، في نفسِي مِنهُ شيءٌ، فاللهُ أعلَم، فلعلَّ سليمانَ شُبِّهَ له، كما قال فيه أبُو حاتمٍ: لو أنَّ رجُلًا وَضَع له حديثًا لم يَفهَم".ص:139.
وقال المُنذِريُّ في "التَّرغيب"(٢/ ٣٦١): "طُرقُ وأسانيدُ هذا الحديث جيِّدةٌ، ومتنُه غريبٌ جدًّا" ا. هـ.
ولمَّا نَقَلَ ابنُ كثيرٍ في "فضائل القُرآن"(ص ٢٩١) تَحسِين التِّرمذيِّ، أردَفَهُ بقولِهِ:"كذا قال" يعني أنَّه يُنكِره عليه.
وقال الحافظُ ابنُ حَجَرٍ في "لسان الميزان": "لعلَّ الوليدَ دلَّسَهُ عن ابن جُرَيجٍ، فقد ذَكَر ابنُ أبِي حاتمٍ في ترجمة: "مُحمَّدِ بنِ إبراهيم القُرَشيِّ" أنَّه روى عنه الوَلِيدُ بنُ مُسلمٍ، وهِشامُ بنُ عمَّارٍ" ا. هـ.
• قلتُ: وهذا الحديثُ مُنكَرٌ، وليس إسنادُهُ نظيفًا كما قال الذَّهبيُّ، ولا جيِّدًا كما قال المُنذِريُّ؛ فإنَّ الوليدَ بنَ مُسلِم دلَّسه ولم يُصرِّح بالتَّحديث إلَّا في شيخه حسبُ. والمعروفُ أنَّ مُدلِّسَ التَّسويةِ يلزَمُه التَّصريحُ بالتَّحديثِ في كُلِّ طبقات السَّنَد، وقد صرَّح بذلك جماعَةٌ مِن المُحقِّقين، مِنهُم الحافظُ في "الفتح"(٢/ ٣١٨)، في حديثٍ آخرَ رواه الوليدُ بنُ مُسلِمٍ، فقال:"وقد صَرَّح بالتَّحديث في جميع الإسناد". فقول الذَّهبيِّ:"إنَّ الوليد صَرَّح بالتَّحديث" لا يَخفَى ما فيه؛ فإنَّ الوليدَ لا يُدَلِّسُ تَدلِيسَ الإسنادِ حسب حتَّى يُقال فيه ذلك.
وقد رأيتُ أبا حاتِمٍ الرَّازِيَّ سُئل عن حديثٍ -كما في "عِلَل وَلدِه"(١٨٧١، ٢٣٩٤) -، رواه بقيَّةُ بن الوليد، قال: حدَّثَنا ابنُ جُريجٍ، عن عطاءٍ، عن ابن عبَّاسٍ، وساق حديثًا. قال أبو حاتمٍ:"وكان بقيَّةُ يُدَلِّسُ، فظنُّوا هؤُلاء أنَّهُ يقولُ في كلِّ حديثٍ: حدَّثَنا، ولا يفتَقِدُون الخَبَر منه" ا. هـ.