وقال السَّائل: أنَّه قد سَمعَ بعضَ الخُطباء يَستَحِبُّ العملَ به، وذَكَر أن بعض العُلماء صحَّحه.
• قلتُ: هذا حديثٌ باطلٌ مُنكَرٌ.
وقد أخرَجَهُ الطَّبَرانيُّ في "الكبير" - كما في "مَجمَع الزَّوائد"(٣/ ٤٥) - من طريق سعيد بن عبد الله الأَوْدِيِّ، قال: شَهِدتُ أبا أُمَامَة وهو في النَّزْعِ، فقال: إِذَا أنا مِتُّ، فاصنَعوا بي كَمَا أَمَرَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال:"إِذَا مَاتَ أَحَدٌ مِن إِخوَانِكُم، فَسَوَّيتُم التُّرَابَ عَلَى قَبرِهِ، فَليَقُم أَحَدُكُم عَلَى رَأسِ قَبرِهِ، ثُمَّ ليَقُل: "يَا فُلَانَ ابنَ فُلَانَةَ! "، فَإِنَّهُ يَسمَعُهُ، ولا يُجِيبُ، ثمَّ يَقُولُ: "يَا فُلَانَ ابنَ فُلَانَةَ! "، فَإِنَّهُ يَستَوِي قَاعِدًا، ثُمَّ يَقُولُ: "يَا فُلَانَ ابنَ فَلَانَةَ! "، فَإِنَّهُ يَقُولُ: "أَرشِد! يَرحَمُكَ اللهُ! "، وَلَكِن لَا تَشعُرُونَ، فَليَقُل: "اُذكُر مَا خَرَجتَ عَلَيهِ مِنَ الدُّنيَا: شَهَادَةَ أَن لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبدُهُ وَرَسُولُه، وَأنَّكَ رَضِيتَ بِالله رَبًّا، وَبِالإِسلَامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ نَبِيًّا، وَبِالقُرآن إِمَامًا"، فَإِنَّ مُنكَرًا وَنَكِيرًا، يَأخُذُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنهُمَا بِيَدِ صَاحِبِهِ، وَيَقُولُ: "انطلِق! مَا نَقعُدُ عِندَ مَن قَد لُقِّنَ حُجَّتَهُ! "، فَيَكُونُ اللهُ عز وجل حَجِيجَهُ دُونَهُما"، فقال رَجُلٌ:"يا رَسُول الله! فَإِن لَم يَعرِف أُمَّه؟ "، قال:"يَنسِبُهُ إِلَى حَوَّاءَ عليها السلام: يا فُلَانَ ابنَ حَوَّاءَ". قال الهَيثَميُّ في "المَجمَع": "في إسناده جَمَاعةٌ لَم أَعرِفهُم".ص:440.
وأخرَجَهُ الخِلَعِيُّ في "الفوائد" - كما في "الضَّعيفة"(٥٩٩) -.
وفي إِسنادِهِ عُتبةُ بنُ السَّكَن، وقد تَرَكَهُ الدَّارَقُطنِيُّ، وقال البَيهَقِيُّ:"وَاهٍ، مَنسُوبٌ إلى الوَضعِ".
هذا مع جهالة جماعةٍ في الإسناد.
وقد تَتَابَعَت عِباراتُ أهل العِلم في تضعيفه. .
فقال ابنُ عَديٍّ:"مُنكَرٌ".
وقال ابنُ الصَّلَاح - كما في "الأذكار"(ص ١٧٤) للنَّوَوِيِّ -: "لَيسَ إِسنادُهُ بِالقَائِم".
وضَعَّفه النَّوَوِيُّ في "المَجمُوع"(٥/ ٣٠٤)، وفي "الفتاوَى"(ص ٥٤).
وقال ابنُ تَيمِيَّة في "مَجمُوع الفتاوَى"(٢٤/ ٢٩٦): "وهُو مِمَّا لا يُحكَم بصِحَّتِه".
وقال ابنُ القَيِّم في "زاد المَعَاد"(١/ ٥٢٣): "لا يَصِحُّ رفعُه"، وقال في "تهذيب سنن أبي داوُد"(١٣/ ٢٩٣): "وهذا الحديثُ مُتَّفَقٌ على ضعفه".
وضعَّفه العِراقيُّ في "تخريج أحاديث الإحياء"(٤/ ٤٢٠). والحافظُ في "الفَتح"(١٠/ ٥٦٣)، وفي "نتائج الأفكار"، وقال:"ضَعيفٌ جِدًّا". والزَّركَشِيُّ في "اللَّآلِئ المَنثُورة"(ص ٥٩)، والسِّيُوطِيُّ في "الدُّرَر المُنتَثِرَة"(ص ٢٥)، والصَّنعانِيُّ في "سُبُل السَّلام"(٢/ ١١٤)،ص:441.
وقال:"ويَتَحَصَّلُ مِن كلام أَئِمَّة التَّحقيق أنَّهُ حديثٌ ضعيفٌ، والعَمَلُ به بدعَةٌ، ولا يُغتَرُّ بكثرة من يفعلُه" انتهَى، وهذا هو الصَّواب الذي لا مَحِيدَ عَنهُ.
وإِنَّما تمسَّك مَن ذهب إلى العَمَل به بِكلامِ ابن الصَّلَاح، واغتَرَّ به النَّوَوِيُّ، حيث قال الأوَّلُ:"ولكن اعتَضَدَ بشواهدَ، وبعملِ أهل الشَّام به قديمًا"، وأضاف النَّوَوِيُّ:"وقد اتفَق علماءُ الحديث وغيرُهم، على المُسامَحَةِ في أحاديث الفَضَائل والتَّرغيب".
ونَقلُ دَعوَى الاتِّفاق في غاية الغَرَابة؛ إذ الخِلافُ في هذه المسألة مشهورٌ معروفٌ.
ثُمَّ مَن هُم "أهلُ الشَّام" الذين عناهم ابنُ الصَّلاح، إلَّا العوامَّ، الذين لا يَعرِفُون قَبيلًا من دَبيرٍ!
وإذا أَرَدنَا أن نُحَرِّر المَسأَلة، فيَنبَغِي أن نُحَدِّدَ معنى "المُسامَحة"، وما هو مَفهومُها.
والذي يَتَحَصَّلُ من كلام النُّقَّاد، أن المُسامَحة مع الرَّاوِي: أن لا يَكُون في الدَّرَجة العُليا من الضَّبط والإِتقان، فنَقبَلُ أحاديثَ ابن إسحاق، وابنِ عَجلان، وعبدِ الله بن مُحمَّد بن عقيل، وأضرابِهم. وحديثُ هؤلاء حَسَنٌ عند أكثر المُتأَخِّرين. ثُمَّ هؤلاء المُتأخِّرُون تَسَامَحُوا غاية التَّسَامُح في تطبيق قاعدة:"يُعمَل بالضَّعيف في فضائل الأعمال"، فصارُوا لا يُفَرِّقُون بين الضَّعيفِ وشديدِ الضَّعف؛ لأنَّ كثيرًا مِنهُم لم يَكُن عِندَه "ذَوقُ" المُحَدِّثين، ولا نَقدُ الحُفاظ المُبَرَّزين، فاتَّسَع الخَرْقُ على الرَّاقِع.ص:442.
وكَم مِن حديثٍ، جَزَمَ أئمَّةُ الحديث وفُرسَانُه ببُطلانِه، أو حَكَمُوا بوضعه، عَمِلَ به هؤلاء المُتأَخِّرُون، بدعوى القاعدة السَّابِقَة.
ثُمَّ إنَّهُ ممَّا يدلُّ على نَكَارَة حديث التَّلقين هذا ما:
أخرَجَهُ البُخاريُّ (٦/ ٢٨٣، و ١٠/ ٥٦٣، و ١٢/ ٣٣٨، و ١٣/ ٦٨)، ومُسلِمٌ (١٢/ ٤٢، ٤٣ - بشرح النَّوَوِيِّ) وغيرُهم مِن حديث ابن عُمَر مرفُوعًا: "إِنَّ الغَادِر يُرفَعُ له لِواءٌ يوم القيامة، يُقالُ: هذه غَدرَةُ فُلَانِ بن فُلَانٍ".
وقد بَوَّب البُخاريُّ على هذا الحديث بقوله:"بَابُ ما يُدعَى النَّاسُ بآبائهم".
وقال ابنُ بَطَّالٍ:"في هذا الحديثِ ردٌّ لقول من زَعَمَ أنَّهُم لا يُدعَون يوم القِيامة إلَّا بأُمَّهَاتِهم؛ سَترًا على آبائهم"، ويُشِيرُ ابنُ بَطَّالٍ إلى أولاد الزِّنَى؛ إِذ لا آباء لهم.